من الفرضيّات التي صارت مرجّحة في تونس أنّ بن علي لم يهرب إلى السعوديّة و إنّما نُظّم له خروج مشرّف يحفظه من الانتقام مع أقرب المقربين له من أفراد عائلته. و يبدو أنّ خروجه كان مقايضة مع عمليّة قبض فيها على مجموعة تضمّ أفرادا من عائلة الطرابلسي ليتسنّى بها ترتيب متابعات قضائيّة تشغل الرأي العام و تؤُثث الوضع الانتقاليّ لتطلّعات ما بعد الثورة.

و الشكوك التي تغذي هذه الفرضيات، باتت ملحّة في الأيام الأخيرة حين أُفرِج تباعا عن مسئولين سابقين في حكومات بن علي و في حزبه الحاكم ومنهم البشير التكاري الذي شغل منصبين وزيرا للعدل و وزيرا للتعليم العالي، و عبد الرحيم الزواري أحد أقدم وزراء النظام السابق حيث سمي على رأس عديد الوزارات على غرار العدل والشباب والطفولة والشؤون الخارجية والسياحة والصناعات التقليدية والنقل، بالإضافة إلى منصب أمين عام الحزب الدستوري.

و في وقت سابق، حقّقت النيابة مع وزراء آخرين مثل الشاذلي النفاتي و عبد الله الكعبي و منصر الرويسي و المهدي مليكة و بوبكر الأخزوري و كمال مرجان، و لكنّهم تمتّعوا جميعا بالسراح و لم يسجن أحد منهم على ذمّة التحقيق.

و تمكّنت مؤخّرا السيدة العقربي من الذهاب إلى باريس بعد أن راجت أنباء عن منعها من السفر على خلفيّة تهم بالفساد وجّهت إليها، و قد تولّت وزارة الداخلية إصدار بيان لطمئنة الرأي العام الغاضب فأوضحت أنّ العقربي لم تهرب و ليست مطلوبة للقضاء.

و لكنّ الحقوقيّين و آلاف التونسيين من الذين تظاهروا و اعتصموا سابقا مازالوا يطالبون بمحاسبة كلّ المسئولين الذين أهدروا المال العام أو تلوّثت أيديهم بدماء الشهداء أو كانوا سببا في سجن الأبرياء و تعذيبهم…غير أنّ الكثير من الأسماء التي يشار إليها تصريحا لا تلميحا، بقيت دون ملاحقة أو مساءلة. و كانت الأخبار تبشّرنا بين الحين و الآخر بأنّ فلانا سيستدعى للتحقيق، حتّى أنّ الوزير الأوّل محمد الغنوشي لم يستثن من ذلك، فحسب مصادر حقوقيّة علمت الجزيرة أنّ السلطات القضائية التونسية تعتزم استدعاء الوزير الأول السابق للبحث في قضايا فساد مالي تعلّقت باللجنة العليا للصفقات العمومية، التي ترأسها الغنوشي طيلة إحدى عشرة سنة.
و لكنّنا لا نعلم إلى اليوم شيئا عن تلك التحقيقات و نتائجها. و ليس لنا ما يؤكّد القيام بمثل تلك المساءلة.

اليقين المتوفّر و الذي لا شكّ فيه، أنّ تهما باستهلاك الحشيش ثبتت حصريّا على بضعة أفراد من عائلة الطرابلسي الذين تمّكنوا من الهروب أو قبض عليهم، أمّا أكثر المسئولين الحكوميّين فأياديهم نظيفة كما يبدو من نتائج التحقيقات التي أمرت بسراحهم.

و بدون أن ندّعي على الناس، باعتبارنا لا ننتمي إلى سلك القضاء أو وزارة العدل، نكتفي بالتعبير عن حيرتنا أمام الوقفات الاحتجاجيّة لقضاة أو محامين و قد صارت مشهدا متكررا ينادي بحلّ سريع لأزمة مستمرة تعيشها العدالة في تونس ما بعد الثورة.

و لمن يريد أن يتفاءل قليلا في ظلّ هذه الخيبات المتكرّرة لمن كان يرغب في القصاص، عبّر سمير الرابحي الناطق الرسميّ باسم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في آخر ندوة صحفية عن إرادة لا رجعة فيها من هيئته لتطبيق العدالة: “نريد أن نتصرف انطلاقا من نبض الشارع والتزاما بالعدالة الانتقالية، فالمحاسبة يجب أن تسبق المصالحة وكشف المستور. واعتبارا لذلك تحالفت الهيئة مع مجموعة المحامين الـ25 لرسم خطة عمل تمكّن من محاسبة رموز النظام السابق في اقرب الآجال”.

و انتظارا لهذه الآجال، التي تبعد يوما بعد يوم، جاء رمضان، شهر الرحمة و بعده سيهلّ علينا العيد موعد العفو و التسامح. لذلك نتوقّع أنّ شعار المحاسبة سيخفت أكثر فأكثر ليفسح المجال أمام شعار آخر بدأ تطبيقه فعليّا و بكثافة، ونقصد بكلامنا الحديث النبويّ القائل “اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لي ولكم” …

فهل سيعفو الشعب التونسيّ عن الظالمين و الفاسدين و القتلة كما عفا نبيّهم عليه الصلاة و السلام على قريش حين فتحت مكّة؟
يتوقّف الجواب على صاحب القرار من سيكون؟ الشعب التونسيّ الذي يتمسّك بالقصاص أم حاكم جديد يستأثر بكلّ القرارات والأحكام.