بقلم رشيد مشارك

تعددت النداءات الصادرة عن مختلف الأوساط التقدمية تدعو إلى ضرورة بناء حزب ديمقراطي شعبي يستطيع القيام بوظيفته في إحداث التوازن المفقود وتحمل مسؤولياته الوطنية في هذه المرحلة التاريخية الجديدة لبلادنا
وتعالت الأصوات المساندة لذلك والمؤكدة له وهي تعبر في الكثير منها عن حالة من الفزع والخوف.
.هذا الفزع مشروع بالنضر إلى النتائج الهزيلة التي أعطاها صندوق الاقتراع لمجمل القوي التقدمية والتي لا تعكس الإمكانيات الحقيقية والعمق المجتمعي لهذه القوى هذه النتائج أحدثت خللا في ميزان القوى السياسي لفائدة حزب واحد.
وهذا الخوف له ما يبرره لأن القطع مع نظام الاستبداد والفساد في غياب توازن حقيقي سياسيا وانتخابيا بين القوى الوطنية الفاعلة يمكن أن يتحول إلى انقلاب عل التوجهات التحديثية التي سارت فيها بلادنا والتي واكبت بناء دولة الاستقلال كما أن بروز وتعدد مظاهر الاعتداء على الحريات الفردية يصحبه نية مبيتة وصلت حد إعلان العزم على تغيير نمط الحياة في الفضاء العام تهدد مستقبل المكاسب التقدمية التي حققها مجتمعنا.

و مهما كان الاختلاف في التقييم حول مدى وجاهة هذه التخوفات فمن الثابت أن الإنخرام المسجل في ميزان القوى السياسي لفائدة حزب واحد بصرف النظر عن هويته السياسية ومهما كانت مرجعياته الفكرية هو في حد ذاته مدخل للاستبداد والهيمنة و وحدانية المبادرة لا تساعد كلها على تأسيس التمشي الديمقراطي المطلوب و لا توفر الشروط الضرورية لكي تستفيد الديمقراطية من كل إمكانيات التعددية الفكرية والسياسية التي يزخر بها المجتمع.
من الأكيد أن هذه النداءات تعبر عن رغبة عميقة لدي قطاعات واسعة من الرأي العام الوطني وهي تتمحور حول فكرة أساسية هي أن البلاد في حاجة ملحة إلى تنظيم سياسي موحد ومتجانس لمختلف القوى التقدمية مهما كان شكل هذا التنظيم , جبهة أو تحالف أو ائتلاف أو حزب ذلك لا يهم المهم أن تكون له وظيفة التجميع وله من التوسع الجماهيري بحيث يكون قادرا على إحداث التوازن المفقود.

فإذا تركنا الوهم جانبا ووضعنا الحلم في الأفق الإستراتيجي وتفحصنا فيه الواقع السياسي لنستخلص بصفة عقلانية ماهوممكن ونجعل منه مشروعا قابلا للإنجاز نرى هذا التنظيم المطلوب هو ممكن اليوم نرى أن هذا التنظيم لا يمكن أن يتأسس من خارج أو بجانب الأحزاب التقدمية الموجودة التي تنتمي إلى وسط اليسار ولا يكون بتجاوزها وإنما هو ينشأ بواسطة هذه الأحزاب وبتطويرها. عند ذلك فإن الشكل المناسب اليوم لهذا التنظيم هو جبهة سياسية تتوفر فيها صفتي الوحدة والتنوع وتحترم فيها المسارات التاريخية لمكوناتها بما يضمن تواصل خصوصياتها وتراثها النضالي وإضافاتها الفكرية واستقلاليتها التنظيمية.

هذه الجبهة عليها أن تبادر بتهيئة نفسها للدخول في الاستحقاقات الانتخابية القادمة بقائمات موحدة وعليها أولا أن تعلن عن نفسها ويمكن أن يكون ذلك في ندوة وطنية مشهودة تبعث برسالة واضحة إلى الرأي العام الديمقراطي مضمونها هو أن مصلحة التأسيس الديمقراطي جزء لا يتجزأ من مصلحة البلاد وهي فوق مصلحة الأحزاب وطموحات الأفراد وهو ما يضع قيادات هذه الأحزاب ومناضليها مرة أخرى أمام مسؤولياتهم التاريخية إذ لم يعد لهم الحق هذه المرة في أن يفوتوا على الحركة الديمقراطية فرصة توحيد صفوفها حتى تتمكن من القيام بواجباتها الوطنية بفعالية تضمن لبلادنا الدخول في مرحلة البناء الديمقراطي بكل الثقة.

هذه الجبهة تمثل الشكل الذي لا يقفز على الواقع بل يتفاعل مع وكل ما في تراثنا النضالي من التيارات الفكرية المؤثرة والتجارب الوطنية بما يمكنها من أن تحتل مكانها في المشهد السياسي كقوة وسطية مستنيرة معتدلة توفر إمكانية جدية للمشاركة السياسية و التداول على السلطة لأنه في غياب الإمكانية الحقيقية للتداول لا يمكن الحديث عن التعددية ولا يمكن تصور التأسيس للممارسة الديمقراطية.

إن ما نشاهده اليوم هو عجز الأحزاب التقدمية عن القيام بدورها في إدارة الشأن السياسي بسبب انقسام جهودها وتشتت قواها في حين يقف حزب حركة النهضة متماسك الصفوف كقوة مؤثرة لها عمق شعبي أعطته الانتخابات وزنا سياسيا يمكنه من الإنفراد بالمبادرة و التأثير في الشأن السياسي بما يلائم توجهاته وهذا المشهد ألإنفرادي لا يساعد على بناء الديمقراطية لأن هذا البناء يستدعي حدا أدنى من التوازن بين القوى السياسية المتنافسة من ناحية وبين الدولة والمجتمع من ناحية أخرى.
إن هذه الجبهة ضرورة وطنية فهي الأداة القادرة على إخراج المشهد الوطني من الاستقطاب الإيديولوجي المشحون بالمشادات وحملات التشهير التي لو تواصلت فستكون نتائجها خطيرة على وحدة المجتمع إلى الفرز السياسي الذي يسمح ببلورة المشاريع المجتمعية والتحكم في المسائل الوطنية و تحديد مستويات الصراع والحوار والجدال والتنافس في الإطار السياسي
ومن المؤكد أن ذلك ما تستوجبه المرحلة الانتقالية التي تمربها بلادنا والتي لا تقتصر فقط على فترة عمل المجلس الوطني الدستوري و صياغة الدستور بل تشمل كامل فترة التربص لبناء المؤسسات والتدرب على الشراكة السياسية.