المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

ugtt1

لعله من المؤسف حقا، بل والمخجل، أن تتعالى أحيانا بعض الأصوات اليوم من بين من اعتلى سدة الحكم في بلد الثورة الشعبية منددة بما تسميه خلطا بين العمل النقابي والنضال السياسي، مستنكرة حق العمال النقابيين في النشاط السياسي.

فهؤلاء الساسة ينسون أو يتناسون تاريخ الحركة النقابية في بلدنا ومدى تلاحم العمل النقابي بها مع النضال السياسي؛ فقد مثلت الحركة النقابية منذ بدايتها الجناح الإجتماعي في الحركة الوطنية التونسية بالتوازي تماما مع الجناح السياسي الممثل في الأحزاب الناشطة بالحقل السياسي.

وكما لا طائر بجناح واحد، لا حركة وطنية في تونس دون جناحيها الإثنين؛ بل لعله ليس من الشطط القول أن الجناح النقابي كان دوما القاطرة التي جرت، في أحلك الظروف، بقية العربات داخل الحركة السياسية، كما سنبين ذلك في هذا المقال الذي هو تذكرة لمن جهل أو تجاهل تاريخ النضال السياسي بتونس.

ولا شك أن من ساءه اليوم النشاط السياسي للحركة النقابية ليعبر بذلك لا عن جهله بالتاريخ، بل قلة دراية بالسياسية الحقة؛ إذ هي تقتضي العمل للصالح العام والأخذ باحتياجات الشعب التي لا تمثلها خير تمثيل إلا المنظمات الشغيلة في عصرنا الحاضر.

وبما أن الدور السياسي للمنظمة الشغيلة لا يخفى على أحد أثناء السنوات الأخيرة السابقة للإستقلال بقيادة المناضل النقابي والسياسي فرحات حشاد ثم بعد اغتياله إلى اندلاع الثورة، فسنعرض في هذه المقالة التاريخ الأول للحركة النقابية التونسية، أي منذ بدايتها إلى عشرية الإستقلال، تذكيرا لمن سهى أو تعربفا لمن لم يدر به.

وسنقسم هذا التاريخ إلى فترات ثلاث هي من أهم فقرات تاريخ نضال شعبنا لأجل الحرية والكرامة. فنبدأ بما يمكن تسميته فترة الحركة النقابية الأولى ممثلة في شخص أب النقابيين جميعا، محمد علي الحامي، وهي فترة العشرينات؛ ثم نمر إلى فترة الثلاثينات، وفيها تبلورت الآفاق النقابية وتمتنت وسائلها مما فتح الباب للفترة الثالثة التي بدايتها في الأربعينات، وهي الأخيرة التي نعرض لها بما أنها من أهم الفترات، خاصة وقد كانت فاتحة للعمل النقابي السياسي ممثلا في شخص فرحات حشاد العظيم ومن سار على دربه من بعده.

وسنرى أن أهم ما يميز هذه الفترات الهامة في تاريخ تونسنا العزيزة هو أن الحركة النقابية بتونس كان لها دوما الدور الهام في الدفاع عن مصالح العمال التونسيين بالطبع، ولكن مع الحرص أيضا وأبدا على مساندة الحركة التحريرية بالبلاد وذلك بتقمص نشاط طلائعي لا يستهان به على صعيد الميدان السياسي.

1 – انبعاث الحركة النقابية مع محمد علي (1924-1925) :

إذا كانت فترة العشرينات في أوربا متميزة بالركود الاقتصادي جراء الحرب العاليمة الأولي، فقد تميزت في تونس بتمام سيطرة السلطات المحتلة على كل مظاهر الحياة الاقتصادية والقطاعات الحيوية، خاصة الفلاحية منها، إذ الفلاحة هي العمود الفقري للبلاد.

وقد حفلت هذه الفترة، من ناحية، بمظاهر التشجيع من طرف المحتل للتونسيين على الهجرة كيد عاملة نحو فرنسا للإسهام في عودة الحركية الاقتصادية بها؛ ومن ناحية أخرى، على تصاعد الأزمة الاقتصادية بتونس، مما أدى إلى تفاقم البطالة وغلاء الأسعار بصفة فاحشة؛ الشيء الذي أدى إلى مجاعات فظيعة. فكان ذلك سببا في ازدياد موجات الاضطرابات بين صفوف االشغالين، مثل عمال الرصيف الذين بادروا بالإضراب مطالبين بالزيادة في الأجور.

هذا، وتجدر الملاحظة أن العملة التونسيين كانوا في تلك الفترة منضوين تحت لواء نقابتين فرنسيتين : التحالف العام للعمال CGT والتحالف العام الوحدوي للعمال CGTU. ونظرا للظروف الاجتماعية المتدهورة وتفاقم التمييز بين العمال التونسيين وزملائهم الفرنسيين، حتى داخل المنظمات الشغيلة، كبر العزم على توحيد كلمة العملة التونسيين في صلب منظمة تعنى بمشاغلهم. فكان تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين CGTT يوم الثالث من ديسمبر 1924 من طرف محمد على الحامي، الذي عقد العزم على جمع الأجراء، بقطع النظر عن جنسياتهم وأديانهم ومشاربهم، للدفاع دفاعا صادقا عن مصالحهم الأدبية والمادية.

ولم يعجب هذا الإجراء بقية المنظمات، خاصة وأن المنظمة الجديدة نجحت سريعا في جمع العديد من العمال التونسيين حولها؛ كما لم يعجب ذلك سلطات الإحتلال التي اتهمت المنظمة بالتحالف مع النشطاء السياسيين من الدستوريين وخاصة الشيوعيين. فأدى هذا بالسلط إلى إلقاء القبض على محمد علي الحامي يوم الخامس والعشرين من فيفري 1925 بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي مع الشيوعيين والألمانيين.

وحكم على محمد علي الحامي، الذي يعد بلا منازع النقابي التونسي الأول، بالإبعاد عن أرض الوطن لمدة عشر سنوات؛ وقد وافته المنية في حادث مرور بالمملكة العربية السعودية في العاشر من ماي 1928. وهكذا، نرى أن المنظمة الشغيلة الأولى لم تعش طويلا لأنها عُدت من المناضلين لا في الحقل الإجتماعي فقط بل وأيضا وخاصة في الميدان السياسي.

2 – التجربة الثانية للحركة النقابية (1937-1938) :

بعد الاختفاء السريع للمنظمة الشغيلة الأولى، ازدادت أوضاع العمال التونسيين تأزما، خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية أصبحت خانقة مع دخول تونس في فترة من الجفاف الحاد سنة 1930 وتعرضها لاجتياح الجراد للجنوب والوسط في شهر مارس 1932، مما أدخل البلاد في حالة مجاعة بائسة.
كل هذا حمل العمال التونسيين على التفكير في إحياء حركتهم النقابية في تجربة فريدة تختزل ما كان سببا في فشل المنظمة الشغيلة الأولى. ذلك أن هذه الحركة الجديدة بُعثت بمساعدة الحزب الحر الدستوري الجديد الذي دعّم بروزها بقيادة بلقاسم القناوي، وذلك سنة 1937. فكان عمل المنظمة يجمع بالطبع بين النضال الإجتماعي والسياسي؛ ومما يدل على هذا التوجه أن العامل المنظم للنقابة كان في الوقت نفسه ينخرط في الحزب السياسي.

إلا أن هذه التجربة الثانية لم يكتب لها الدوام نتيجة لاندلاع الحرب العالمية الثانية وصرامة القوانين المنجرة عن ذلك، ومنها التحجير للنشاطات السياسية والإجتماعية. ويضاف إلى هذا أيضا الاستراتيجة التي اعتمدها الحليف السياسي للمنظمة، أي حزب الدستور الجديد، في التصادم مع المستعمر سنة 1938. فاندثرت المنظمة الثانية مع الحرب العالمية.

3 – فرحات حشاد والاتحاد العام التونسي للشغل (1946-1952) :

لئن كانت للحرب العالمية الثانية أشد الآثار السيئة على البلاد وأهلها، فقد عرفت أيضا ظهور بوادر من الوعي النقابي بعد أن ساعدت على تعميقه التجربة الأولى وامتدادها التالي. فتمثل ذلك في العزم على تأسيس نقابة للتونسيين تكون مستقلة عن النقابة الفرنسية التي تضم أغلبهم، وهي التحالف العام للعمال CGT، وقد كانت ذات ميولات شيوعية. فأسس فرحات حشاد الإتحاد العام التونسي للشغل في العشرين من جانفي 1946؛ وإذا النجاح الباهر يحالفه، إذ أمكن للمنظمة الجديدة الحصول على قرابة الثلاثين ألف منخرط منذ البداية، ثم تنامى هذا العدد حتى وصل إلى حدود المائة الألف في السنة الموالية.

وحرص فرحات حشاد على انضمام الاتحاد إلى المنظمة العالمية للنقابات الحرة CISL في شهر ديسمبر من سنة 1950، وأصبح عضوا في مجلسها التنفيذي، مما مكنه من التعريف بنضال تونس عالميا؛ إذ كان الإتحاد لا محالة، إضافة إلى دوره في الدفاع عن المصالح المادية والأدبية للعمال، رافدا هاما للحركة الوطنية.

وما كان حشاد يخفي ذلك، إذ بيّن في العديد من مقالاته الصحفية وتصريحاته العلنية وخطاباته الشعبية الترابط المكين بين الإستقلال السياسي والرقي الإجتماعي وبين العدالة الإجتماعية وعدالة النظام القائم؛ فهو يعتقد جازما أن نضال الشعب التونسي من أجل التحرر السياسي ليس إلا مظهرا من مظاهر تحرره على المستوى الإجتماعي.

وقد تجلى هذا الدور الطلائعي للمنظمة الشغيلة في الحقل الإجتماعي ببعده السياسي بكل وضوع سنة 1952 عند فشل المفاوضات بين قوات الاحتلال والقيادات السياسية مما أدى إلى إيقافها. فإذا بحشاد في الصف الأول لقيادة حركة النضال السياسي، وذلك بفضل الدعم الذي كانت تحضى به المنظمة الشغلية من طرف المنظمة الأم، إضافة للحرية النقابية الني كانت مضمونة قانونا بالبلاد.

ولا شك أن هذا الدور السياسي الفعال هو الذي جعل شخصية فرحات حشاد تكون ذلك الخطر الكبير الذي حمل البعض من قوات الاحتلال المتعصبة على اغتياله في الخامس من ديسمبر من نفس تلك السنة كما يعلم ذاك القاصي والداني. فقد أدى نبأ الإغتيال إلى تظاهرات عنيفة في العديد من البلدان لا العربية فقط (مثل الدار البيضاء والقاهرة ودمشق وبيروت)، أو الإسلامية (ككراشي وجاكرتا) بل وأيضا الغربية (كميلانو وبروكسال وستوكهولم). كما نددت بالجريمة النكراء عدة شخصيات عالمية، منها آلان سافاري و شارل أندري جوليان من فرنسا.