palais-justice-tunis

بقلم خولة العشي،

فوضى عارمة تشوب سلكي القضاء والمحاماة في تونس في هذه الفترة على خلفيّة قضيّة بسيطة كان من الأجدر أن تحلّ حسب ما يقتضيه القانون. تراشق لفظي واتهامات واعتداء بالعنف وإضرابات ووقفات احتجاجية نفذها الطرفان وتهديدات بالتصعيد وكشف ملفات فساد. هذا مع تمسك كل طرف بموقفه والتجاء كل طرف إلى تجييش زملائه استنادا لمقولة ” أنصر أخاك ظالما أو مظلوما.”

الحدث القادح في هذه القضيّة هو قيام قاضي التحقيق بالمكتب الخامس منير بن سعيد يوم الخميس 20 فيفري الفارط بإصدار قرار إيقاف المحامية فاطمة الماجري المتهمة بالتحيّل على منوّبتها. وعلى خلفية هذا القرار قام عشرات المحامين بالاحتجاج أمام مكتب قاضي التحقيق وطالبوا بالإفراج عن زميلتهم، فيما طلب منهم القاضي المذكور القيام بالإجراءات القانونية للطعن في القرار. وقد تم الإفراج عن المحامية المذكورة بعد أربعة وعشرون ساعة من الإيقاف إلا أن المسألة أخذت منحى جديدا. وقد تطورت الأحداث بنسق متسارع ووصل الأمر إلى حد تنفيذ القضاة لإضراب يوم أمس الإثنين وسيتواصل لغاية يوم الأربعاء القادم، وسط دهشة المواطنين الذين تمّ تأخير جلساتهم وتعطيل مصالحهم.

ووضّح المكتب التنفيذي لجمعيّة القضاة التونسيين أنّ القضايا المستثناة من قرار تعليق العمل هي القضايا الآتية: قضايا الموقوفين مطلقا، قضايا الإرهاب، مطالب السراح، القضايا الإستعجالية، قضايا إيقاف التنفيذ، قضايا الطفولة المهددة، المعاينات والأذون المتأكدة والإجراءات المستعجلة والمحاضر التي انتهت فيها آجال الإحتفاظ.

بين خياري القانون والفوضى

تبدو المعركة بين المحامين والقضاة في تونس للوهلة الأولى نتيجة لتراكم العداء بين الطرفين منذ عقود حول نقاط خلاف هيكلية وقانونية. ولكنّ المسألة تتعلّق أساسا بالتزام الطرفين،المخوّل لهما الدفاع عن القانون وتطبيقه، بالقانون. فإيقاف المحامية من طرف قاضي التحقيق لا يطرح إشكالا ولكنّ إطلاق سراحها في اليوم الموالي يبعث على التّساؤل. كما أنّ قيام عدد من المحامين بالاحتجاج أمام مكتب القاضي والاعتداء عليه بالعنف المادي واللّفظي بدل القيام بالإجراءات القانونية لصالح زميلتهم أمر مستهجن أيضا ويثير الاستغراب. أمّا الأهمّ في هذه القضيّة فهو تهديد كلا الطرفين بكشف ملفات فساد يبدو أنّها كانت تستعمل كورقة تهديد ضد هذا الطرف أو ذاك وقد حان أوان استعمالها.

القضية من الناحية القانونية تطرح إشكالين : فحسب المرسوم عدد 79 لسنة 2011 المنظم لمهنة المحاماة لا يمكن لقاضي التحقيق إصدار بطاقة إيقاف ضدّ محام تتعلّق به قضيّة نزاع مدني في حين يمكن له إصدار هذه البطاقة في حالة تورّط المحامي في قضيّة تحيّل واستيلاء. وقد تحفّظ زملاء المحامية فاطمة الماجري عن ذكر تفاصيل القضية مؤكّدين أنّ واجب التحفظ على السر المهني يمنعهم من ذكر إن كانت القضية تتمثل في نزاع مدني أو هي قضية تحيل.

ولكن الإشكال الثاني يتمثل في أنّه حتى إن كانت القضية تتعلق باستيلاء وتحيّل فإنّ قانون مهنة المحاماة لا يخوّل له إيقاف المحامية المذكورة وذلك استنادا على الفصل 46 الذي ينص على الاتي:

إذا وقعت تتبعات جزائية ضد محام، يتم إعلام رئيس الفرع الجهوي المختص بذلك حينا. ويحال المحامي وجوبا من طرف الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف على قاضي التحقيق الذي يتولى بحثه في موضوع التتبع بحضور رئيس الفرع المختص أو من ينيبه للغرض.

وقد أكّد المحامي الحبيب بن زايد لنواة أنّ قاضي التحقيق، بغض النظر عن صنف القضية المرفوعة ضدّ المحامية المذكورة، لم يلتزم بما جاء في قانون المحاماة من ضرورة تتبع المتهمة بحضور رئيس الفرع، موضّحا أنّ رئيس الفرع الجهوي لهيئة المحامين لم يتّصل بأي بلاغ من القاضي المذكور لإعلامه بوجوب الحضور لمواكبة جلسة المحامية فاطمة الماجري.

كما نفى الحبيب بن زايد ما وصفه بالإدعاءات بقيام بعض المحامين باقتحام مكتب قاضي التحقيق الخامس وتعنيفه ماديا ومعنويا مؤكّدا أنّ الإحتجاج كان سلميّا. وحول جدوى الإحتجاج في ظلّ وجود نصوص تحمي المحامية المذكورة وتضمن حقّها في مواجهة أي ظلم يوجه لها أجاب بن زايد أنّ ” إيقاف الزميلة المذكورة كان القطرة التي أفاضت الكأس بعد كلّ التجاوزات التي يقوم بها بعض القضاة في استهتار تام بقانون مهنة المحاماة.”

وأضاف الأستاذ بن زايد قائلا ” إنّ الفوضى التي تحصل الآن بين المحامين والقضاة هي نتيجة تراكمات لقضايا عالقة كان من الأجدر أن تجد طريقها للحلّ. فالأمر أصبح أشبه ب” عركة عروشية ” بين المحامين والقضاة في حين أنّ المرحلة تقتضي التّهدئة وعلى الجميع أن يلتزموا بالقانون وخدمة الصالح العام.”

تصريحات متضاربة ؟

للقضاة رأي مختلف في خصوص هذه القضية سواء من الناحية الإجرائية أو فيما يتعلق بمجريات الأحداث. فإيقاف المحامية فاطمة الماجري، حسب ما صرّح به لنا المنسّق العامّ لنقابة القضاة التونسيين وليد الوقيني، تمّ بصفة قانونيّة. حيث أكّد أوّلا أنّ المحامية هي محلّ تتبّع في قضيّة تحيّل واستيلاء على أموال موكّلتها. كما صرّح أنّ قاضي التحقيق قد قام بالإتّصال برئيس الفرع الجهوي واستدعائه لحضور الجلسة في مناسبتين ولكنّه لم يلتزم بالحضور فقام بسماع المتّهمة بمفردها.

وأضاف السيد الوقيني أنّ “المحامين قد قاموا فعلا بضرب قاضي التحقيق والإعتداء عليه بالعنف اللفظي غير أن هيئة المحامين لم تعترف بهذه الاعتداءات كما رفضت الإعتذار وهو أمر غير مقبول. وبالتالي فقد قررت كل الهياكل القضائية الدخول في إضراب احتجاجا على هذه التصرفات العدوانية. هذا وقد باشرت النقابة بفتح تحقيق لإثبات تورط خمسة محامين في تعنيف القاضي المذكور. ونتيجة لهذه الإجراءات المتّخذة من طرف القضاة، عمد بعض المحامين إلى تقديم تصريحات إعلامية غير مقبولة تحمل في طياتها تهديدات من بينها فتح ملفات فساد بعض القضاة. فالمحامون هنا يؤكدون ملكيتهم لملفات فساد ولكنّهم لم ينشروها بل يستعملونها كأداة تهديد وهذا الأمر يعتبر جريمة في حق التونسيين وخرقا لمنظومة العدالة الإنتقاليّة.”

ووضّح القوني أنّ نقابة القضاة التونسيين متمسّكة بمتابعة التحقيق ولن تتراجع عنه حتى تثبت الإعتداء الذي تم ضدّ القاضي وأنّ القانون سيكون الحكم بين الطرفين وأنّ التهديدات والتصعيد لن يحلّا الإشكال بل سيعمّقان المشكلة ويعطّلان مصالح المواطنين. كما عبّر عن استيائه الشديد من موقف عميد المحامين الذي رأى فيه تشجيعا للعنف وحماية له.

أزمة علاقات هيكليّة ؟

و في تصريح لنواة، قال القاضي ورئيس المرصد التونسي لاستقلاليّة القضاء أحمد الرحموني أنّ “ما يحدث بين القضاة والمحامين في هذه الفترة يعود أساسا إلى حالة الإنفلات التي مازلت تعاني منها البلاد. ورغم أنّ الحادثة التي حصلت عرفت مبالغة من بعض الأطراف إلاّ أنّ تطورها يرجع أساسا إلى غياب هيكل مشترك بين الطرفين. فتاريخيا، توجد حركة تضامن مشرّفة بين القضاة والمحامين ولكنّها تظل شخصية ولم يتم تفعليها من خلال هيئة تجمع بين الطرفين وتحل المشاكل القانونية العالقة والإشكالات اليومية العابرة.”
ووضّح أنّه في ظل النظام السابق تمّ عمدا تأجيج الخلاف بين القضاة والمحامين من طرف السلطة . فقد تمّ استخدام المجلس الأعلى للقضاء للإضرار بحقوق المحامين.إلاّ أنّ وقفات التضامن بين الطرفين كانت عديدة وهامة ومن بينها احتجاج القضاة سنة 1985 ضدّ حلّ جمعية المحامين الشبّان، حركة تضامن القضاة مع المحامين إثر الإعتداء عليهم في 2 مارس 2005، وغيرها من الأحداث.

كما انتقد الرحموني المرسوم المنظم لمهنة المحامين الصادر سنة 2011 مبينا أنه وقع إقراره بسرعة ولم تتم مناقشة مضامينه بطريقة متأنية فجاء حاملا للعديد من الإخلالات وخاصة فيما يتعلّق بحصانة المحامي ( الفصل 46) والذي يعطّل عمل القضاة نظرا لأنه يوجب حضور رئيس الفرع الجهوي للهيئة الذي لا يكون دائما متفرغا لحضور الجلسات كما أن هذا الفصل لم يقدّم بديلا قانونيا في صورة عدم حضور رئيس الفرع أكثر من مرة.

وحول الحلول المقترحة لحل هذه الأزمة لم يقدّم أي من محدّثينا اقتراحا عمليا واكتفوا بعبارات الإستياء والتنديد مؤكّدين جميعا أن الإلتزام بالقانون هو السبيل الوحيد لتجنب حدوث إشكالات مشابهة. هذا في حين شرع المحاميين النائبين بالمجلس التأسيسي رابح الخرايفي ومحمد قحبيش في دعوة هيئات القضاء والمحاماة للإستماع إليهم ومحاولة تقريب وجهات النظر بينهم. وقال الخرايفي أن هذه الدعوة لقيت ترحيبا من كل الجمعيات والهيئات وقد بدأ ممثلوها بالتوافد بعد ظهر اليوم على المجلس التأسيسي من أجل مناقشة المسألة المطروحة. وأكد الخرايفي أن الهدف من هذا التحرك الذي يسانده عدد كبير من النواب المحامين وغير المحامين هو النجاح في إدارة حوار جاد بين الطرفين ودعوتهما لإيقاف حملات التشويه والثلب الإعلامية بينهما.