mehdi-jomaa-choc-strategy-tunisie

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

منطق كلّ ما في العالم من فلسفات جميلة ينهار أمام منطق طفل جائع…
غادة السّمان

عجز، إفلاس، إنخفاض الإحتياطي، تدهور سعر صرف الدينار، إرتفاع نسبة التضخّم، إرهاب، فوضى، شرعيّة، إغتيالات، إضرابات… منذ ثلاث سنوات والشعب التونسيّ يخضع لعمليّة ترهيب حقيقيّة من مستقبل مجهول و من جوع مرتقب، وكأنّ هذا الشعب يُعاقب على “جُرم” الرفض ومقاومة القمع والخنوع. واليوم، يُخيّر النّاس بين “الخنوع أو الجوع”، بين أن يقبلوا بالحلول المطروحة وفق رؤية أحادية مُسقطة أو أن ينهار البيت على رؤوسهم ويجوعوا ويزداد بؤسهم.

إنّ النسق الرهيب لخطاب الترهيب الإقتصادي الذي تسارع منذ شهر فيفري المنقضي يطرح أكثر من تساؤل حول مغزى هذا الخطاب وأهدافه الحقيقيّة، بل ومن يقف وراء هذا الضغط النفسيّ الرهيب والتخويف من الجوع الذي يتعرّض له المواطنون من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين الحكوميّين؟ والأهمّ، ما هي العصا السحريّة التي ستنتشل البلاد من واقعها المتأزّم؟

03 مارس 2014؛ خطاب صراحة أم بداية الهرسلة وخطاب الترهيب

أطلّ رئيس الحكومة التونسيّة الجديد مهدي جمعة مساء الثالث من مارس، ليتحدّث بإسهاب عن مشاكل الإقتصاد التونسيّ ومدى العجز الذي تعرفه ميزانيّة 2014. لقد حاول هذا الأخير في إطلالته تلك التي درج الإعلام على تسميتها بلقاء “المصارحة”، على أن يعطي صورة كاملة وواضحة للشعب عن الوضع الإقتصادي للبلاد في هذه الفترة الإنتقاليّة، فتحدّث عن واقع الموازنات الماليّة للبلاد والتي تعرف عجزا مهولا بلغ هذه السنة ما يناهز 12 مليار دينار تونسي.

رقم مرعب بالنظر إلى حجم الديون التونسيّة التي بلغت خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار والتّي صارت تستنزف ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد، وقد صُرفت معظمها باعتراف رئيس الحكومة في الاستهلاك ومصاريف الإنفاق التي قفزت من 4,5 مليار دينار سنة 2011 إلى 11 مليار دينار سنة 2014، بالإضافة إلى الترفيع غير المدروس للأجور بنسبة بلغت 41 % وفي الدعم الذي ارتفعت نفقاته بنسبة 270 % منذ 2011. كما تحدّث رئيس الحكومة عن وضعيّة المؤسّسات العموميّة، كشركة الخطوط التونسيّة وفسفاط قفصة ومجمّع قابس الكيميائي. وقد بلغت خسائر المؤسّسات 3000 مليار دينار تونسي خلال العقدين الأخيريّن، بل وأصبحت كلفة المحافظة على موطن شغل تعادل بعث 10 مواطن شغل جديدة. أمّا عن البنوك العموميّة، فقد بلغت مخلّداتها وديونها ما يقارب ال2.5 مليار دينار، وهو ما جعلها عاجزة عن دعم بقيّة المؤسّسات العموميّة الأخرى أو تمويل مشاريع تنمويّة جديدة.

هذه الجلسة لم تكن مجرّد سرد للأرقام والمعطيات ومحاولة من مهدي جمعة لتوضيح الواقع الإقتصاديّ للبلاد، بل تجاوزتها لتعكس قراءة الفريق الحكوميّ الجديد وتصوّراته حول الحلول الممكنة وربّما بداية لحملة التخويف الممنهجة لتسهيل قبول النّاس بالحلول الجديدة/القديمة.

لقد مرّر رئيس الحكومة العديد من الرسائل خلال هذا اللقاء، كان أوّلها وأهمّها الجانب الأمنيّ، إذ اعتبر أنّ أهمّ التحديّات التي تعترض عمل فريقه هي الإرهاب من جهة والإضطرابات السياسيّة والإجتماعية، في إشارة واضحة مضمونها ضرورة محاربة الإرهاب الذي تصاعدت وتيرته منذ السنة الماضية والحدّ من الإحتجاجات المطلبيّة والحراك الإجتماعي كأساس لوضع خطّة إنقاذ واضحة.

الرسائل التالية تناولت رؤية عامّة لمستقبل الوضع الإقتصاديّ وأهمّ خطوط عمليّة الإنقاذ، فبالنسبة للعجز الهائل لم يطرح مهدي جمعة من حلّ سوى الإقتراض الداخلي والتوسّل من “الأصدقاء والأشقاء” لإنقاذ ميزانيّة هذه السنة والإيفاء بمصاريف الإنفاق بالإضافة إلى إيقاف الانتدابات في السلك العموميّ وأكّد أنّ لا نيّة لحكومته في المستقبل القريب لبعث مشاريع تنمويّة عاجلة، بل محاولة إكمال تلك التي دخلت حيّز التنفيذ. أمّا بالنسبة للخطوات المستقبليّة، فدعا إلى ضرورة التفكير جديّا في إعادة هيكلة الإقتصاد التونسيّ ككلّ ومراجعة منظومة الدعم وبدأ عمليّة التدقيق في البنوك العموميّة.

كانت هذه الرسائل الواضحة، أمّا عن الأخرى المبطّنة، فتتجلّى من خلال عديد العبارات التي تعكس توجّه الحكومة الجديدة نحو تحرير الإقتصاد أكثر فأكثر واستقالة الدولة من دورها الإقتصادي والتنمويّ. لقد تكرّرت على لسان رئيس الحكومة لأكثر من مرّة عبارة “تضحيات” و”الحلول المريرة” التي لا يمكن إلاّ أن تتمثّل في التفريط في المؤسّسات العموميّة للدولة بعد أن أعلن صراحة أنّه لم يعد من الممكن دعمها في ظلّ تواصل الخسارة التي تتكبّدها سنويّا. كما أنّ السيّد مهدي جمعة قد دعا خلال هذا اللقاء إلى ضرورة منح دور أكبر لمنظمّة الأعراف ومراجعة قوانين الاستثمار وخصوصا مسألة الاستثمارات الأجنبيّة في سبيل أن تكون أكثر مرونة تجاه المستثمرين الأجانب. هذه الإشارات والتحذيرات من كون المطروح هو المتاح لا غير وأنّ الحلّ يكمن في تقليص دور الدولة في الدورة الإقتصاديّة يبدو متماهيا إلى حدّ كبير مع رسائل البنك الدوليّ و صندوق النقد وشروطهما التي يبدو مهدي جمعة رجل المرحلة المناسب الذي سيعمل أخيرا على تحرير الإقتصاد التونسيّ وفقا لتلك الشروط والإملاءات.

الإعلام التونسي والغيمة السوداء

هذا الخطاب المرعب حول وضعيّة الإقتصاد الوطنيّ ألقى بضلاله على النّاس التي شعرت بالخوف ممّا جاء في كلام رئيس الحكومة وحجم الأزمة الماليّة والإقتصادية التي تهدّد قوت التونسيّين وتنذرهم بشبح الجوع والإفلاس. ورغم محاولة الطمأنة التي جاءت في ختام اللقاء التلفزيّ لمهدي جمعة، إلاّ أنّ الإعلام تكفّل بمهمّة تكثيف الغيوم السوداء فوق رؤوس المواطنين.

تلقّفت الآلة الإعلاميّة التونسيّة ما جاء في ذلك اللقاء لتسهب في شرح الأرقام وتوضيح الخطر المحدق بالإقتصاد التونسيّ الذي يقف على شفير الإفلاس. طبعا، وبالتسليم بصحة الأرقام المعلنة، فنحن هنا لا نشكّك في صحّة البيانات والإحصائيات و لا نثبتها، إلا أن التناول الإعلاميّ الذي انخرط في مسلسل الترهيب والتخويف يثير أكثر من تساؤل حول هذا التمشّي. إذ من الضروريّ أن يحظى المواطن بصورة كاملة عن الواقع الإقتصاديّ لبلاده، ولكن أن يتعرّض هذا الأخير إلى حملة مركّزة من الترهيب والتخويف بغرض تسويق وتمرير الرؤية الحكوميّة، فهو ما يثير الاستهجان.

لقد عمدت العديد من وسائل الإعلام إلى تسويق ما جاء من تصوّرات وحلول على لسان رئيس الحكومة وخصوصا في ما يتعلّق بمسألة مراجعة دعم والمنظومة الإجتماعيّة والمؤسّسات العموميّة. هذه الحملة الإعلاميّة تجاوزت مجرّد توضيح الصورة أو تبسيط الأرقام لتتحوّل شيئا فشيئا إلى جزء من حملة الترهيب التي تهدف إلى تسويق “خطّة الإنقاذ” للفريق الحكوميّ الجديد. إذ انخرطت بعض وسائل الإعلام في التشكيك بجدوى الدعم الحكوميّ وضرورة مراجعة منظومة التغطية الإجتماعيّة لما تمثّله من عبء على ميزانيّة الدولة بالإضافة إلى استعراض الإرتدادات السلبيّة لمواصلة الدولة تمسّكها بالمؤسّسات العموميّة التي بنيت من عرق التونسيّين وأموالهم.

“الخبراء الاقتصاديّون” بدورهم لم يتخلّفوا عن الركب، وساهموا من موقعهم وبصفاتهم، المبالغ فيها أحيانا، التي ظهروا بها بعد الثورة في الترويج و تبرير “للإصلاحات” المقدّمة من قبل الفريق الحكوميّ الجديد.

ف”الإصلاحات” الهيكليّة للإقتصاد التونسيّ أصبحت ضرورة قصوى وفق هؤلاء الخبراء من أمثال معزّ الجودي وجلّول عيّاد اللّذان اكتسحا المساحات الإعلاميّة حاملين للرسالة المطلوبة ترسيخها في أذهان العامّة؛ الإستعداد للتسليم بالتعليمات المسقطة من هيئات النقد الدوليّة وقبول الإصلاحات الهيكليّة القادمة التي تقضي بانسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية وغضّ النظر عن المتطلّبات الاجتماعيّة، وليس من المستغرب انخراط هؤلاء في هذه الحملة التسويقيّة بالنظر إلى عوامل عديدة تتعلّق بخلفياتهم الفكريّة من جهة، و بالجانب” الأكاديميّ” من جهة أخرى. فالسيّد معزّ الجودي الذّي لمع نجمه بعد 14 جانفي، والذي اتخذ موقفا عدائيّا من حكومة الترويكا مهاجما اختياراتها الإقتصادية، يبدو اليوم من أكثر المدافعين عن الحكومة الجديدة وعن خياراتها التي لا تختلف عن سابقتها من حيث المطالبة بمراجعة منظومة الدعم والتداين وصناديق الضمان الإجتماعي. إلا أن ماضي هذا “الخبير” وتكوينه الأكاديميّ المشكوك فيه يطرح أكثر من تساؤل حول مدى مصداقيّته،و أسباب تهافت الإعلام على استضافته ليكون أحد العوامل المؤثّرة في الرأي العّام.

أمّا السيّد جلّول عيّاد، الذي كان يوما ما أحد المرشّحين لرئاسة الحكومة عقب اغتيال الشهيد محمد الابراهمي، فكتابه “طريق الياسمين” يتجاوز سرد السيرة الذاتيّة ليكون مرآة لقراءة الرجل للواقع الاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ للبلاد.

وفي الجانب الاقتصادي دائما، تبدو تصريحات هذا “الخبير” متماشية وما طرحه في كتابه من ضرورة التسريع بالإصلاحات الهيكليّة للإقتصاد التونسيّ وتقليص دور الدولة والتفريط في المؤسّسات العموميّة، بل والحدّ من التأثير النقابيّ عبر إنشاء خلايا أو مجالس داخليّة تتولّى الحوار بين المشغّلين والعملة. طبعا لا تختلف رؤية السيّد جلّول عيّاد عن رؤية حكومة الوفاق الوطنيّ، وفي النهاية فهي ليست سوى تكرارا لما يسعى إلى فرضه البنك الدوليّ و صندوق النقد من تغييرات جذريّة على النسيج الاقتصاديّ التونسيّ.

وتتواصل مهزلة التحليلات التّي تتناول كلّ المشاكل التي تعاني منها تلك المحاور المراد تعديلها، ولكن تتجانس الإستنتاجات ويشترك كلّ “الخبراء” إلاّ قلّة، في ضرورة القبول “بالخيار الوحيد” أو بالأحرى “بالتخيير الوحيد” المُسقط.
لقد تناولت معظم وسائل الإعلام بشكل مفصّل الأزمة التي تعيشها البلاد منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، واحتفت بشكل أكبر بما جاء من حلول “إصلاحية” لحكومة التوافق الوطنيّ الجديدة، ولكن، كان لا بدّ من التفكير جيّدا في طبيعة هذه الحلول وارتداداتها الحقيقيّة على حياة التونسيّين وسيادة بلادهم قبل الإنخراط في إعداد الأرضيّة النفسيّة لهذه الإصلاحات وتكثيف الغيوم السوداء التي أبت أن تنقشع عن سماء التونسيّين.

الترهيب الإقتصادي وعقيدة الصدمة؛ تعدّدت الأساليب والهدف واحد

طوال عقود مضت، حاول النظام التونسيّ السابق أن يحافظ على طابع اجتماعيّ للإقتصاد الوطنيّ درءا للمخاطر، ولتغطية المشاكل المتراكمة وتفاقم الفساد، ولكنّ هذه السياسة لم تستطع إطالة عمر نظام بن عليّ بعد أن أصبحت الدولة عاجزة جرّاء استنزافها على الإيفاء بالتزاماتها الإجتماعيّة كالدعم والصناديق الإجتماعيّة والمؤسّسات العموميّة، تماما كما حدث للرئيس السابق الحبيب بورقيبة خلال انتفاضة الخبز سنة 1984، والتي تصدّت لأولى بدايات تعديل منظومة الدعم الغذائيّ. هذه الممانعة للإصلاحات المسقطة من هيئات النقد الدوليّة والتي تهدف “لتحرير” الإقتصاد التونسيّ بالكامل وإخراج الدولة من الدورة الإقتصادية، يبدو أنّها ستنتهي اليوم بعد أن ظهرت بوادر الإنسياق التّام وراء تعليمات البنك الدوليّ من قبل الحكومة الجديدة.

ولم تكن تونس بمنأى عن سيناريوهات مماثلة تعرّضت لها دول أخرى بهدف إدخالها عنوة إلى بيت الطاعة، والإمتثال لإملاءات الصناديق الماليّة الدوليّة، عبر ما يعبّر عنه بعقيدة الصدمة، وإن اختلف المثال التونسيّ في تفاصيله والخطّة المعتمدة، ولكنّ الهدف كان واحدا.
تُعرّف عقيدة الصدمة التي بلورها فريدمان بقسم العلوم الإقتصادية بجامعة شيكاغو والتي لعبت دوراً يتجاوز دورها كجامعة، بل كان هذا القسم مدرسة للفكر المحافظ، وللتدخل الأمريكيّ في شؤون الدول الأخرى، والداعين لحرية مطلقة للأسواق.

إنّ إستراتيجية الصدمة وهي تعني بشكل آخر، فلسفة القوة أو التكتيك الذي يهدف إلى فرض النظريات الليبرالية المتطرفة التي طورها الإقتصاديون المؤيدون لنظرية السوق الحر بهدف التغلب على الحواجز الديمقراطية وكسرها.‏
تقوم هذه العقيدة الإقتصاديّة على إلغاء القطاع العام، منح الحرية الكاملة للشركات، الحد الكبير للإنفاق الإجتماعي، عبر وسائل كارثية تعتمد الإضطرابات السياسية والكوارث الطبيعية والذرائع القسرية لتمرير “إصلاحات” السوق الحرة المرفوضة شعبيًا و اجتماعيا وذلك باستغلال حالة الخوف والصدمة والفراغ التي يعيشها النّاس في تلك اللحظة. ونجاح هذه الإستراتيجية يعتمد على عمق الأزمة، وكلما كانت أكثر خطورة، فإن التحولات تكون جذرية أكثر، وهي لا تلتفت إلا إلى المكاسب التي تجنيها الشركات الخاصة من الأزمات، ومدى امتثال البلد المستهدف لتعليمات البنك الدوليّ ولوائح العولمة.

وقد عرف التاريخ أمثلة كثيرة طُبّقت خلالها هذه التقنية كانقلاب بينوشيه في تشيلي(1973) وحرب جزر فوكلاند(1982) التي انتهت بهزيمة الأرجنتين أو كما حدث خلال أزمة الإقتصاد الأسيوي سنة 1997، والتّي مهدت الطريق لصندوق النقد الدولي لفرض مجموعة من البرامج الإقتصادية في المنطقة و التي بموجبها تمت عملية خصخصة عدد من الشركات المملوكة للدولة من خلال بيعها إلى بنوك غربية و شركات متعددة الجنسيات كما مكن “التسونامي” الذي ضرب سيريلانكا سنة 2004 الحكومة السيريلانكية من التخلص من الصيادين الذي كانوا يشتغلون في الواجهات البحرية و قامت ببيع تلك الواجهات إلى المستثمرين في قطاع الفنادق، كما مكنت أحداث 11 سبتمبر الرئيس جورج بوش من شن هجوم على العراق بهدف خلق عراق خاضع لنظام السوق الحر.

في تونس، ودون أن تغرق في نظريّة المؤامرة وأنّ الثورة كانت تدبيرا خارجيّا، اختلف السيناريو واختلفت الأساليب. في الواقع لم تتعرّض تونس إلى أزمة بذلك العنف الذي عرفته بلدان أخرى، ولكنّ في المقابل، عرفت البلاد سلسلة من الضغوطات والإغراءات المتواصلة التي تهدف إلى إغراق البلاد أكثر فأكثر في مستنقع العجز والمديونيّة حتّى لا تجد ملاذا سوى هيئات النقد الدوليّة التي لا تقرض ولا تساعد إلاّ وفقا لشروطها الخاصّة وبعد إعادة هيكلة الإقتصاد المحليّ وفقا لمتطّلبات النظام العالميّ الجديد القائم على الإنفتاح التّام والتسليم بالإرتباط العضويّ الكامل مع الخارج.

بدأت هذه المحاولات منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأ التدهور الإقتصادي يتفاقم بشكل ملموس وواضح، وفاقمت سنوات الفساد والنهب التي عرفتها البلاد خلال حكم بن عليّ في تأزيم الوضع الإقتصاديّ وتكبيل الإقتصاد الوطنيّ. و جاءت مرحلة ما بعد 14 جانفي 2011 لتشكل اللحظة المناسبة للإنقضاض على الإقتصادج الوطني.

لا تخلو الثورات من هزّات اقتصادية كبرى، وتعطيل للإنتاج وتقلصّ الاستثمارات نتيجة الإضطرابات الأمنية والسياسيّة، ولكن ما تعرّضت له تونس، هو عمليّة عقاب جماعيّ انخرطت فيه مختلف المكوّنات السياسيّة والنقابيّة والدوليّة بقصد أو دون قصد. إذ تعرّض المواطن التونسيّ إلى كمّ هائل خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الترهيب الإقتصاديّ تركّزت على الإرتدادات السلبيّة لانتفاضته ضدّ حكم بن عليّ من هروب للمستثمرين وتعطّل الإنتاج في أكثر من قطاع حيويّ وتسبّب الإضرابات والحراك الإجتماعي في تدهور الوضع الإقتصاديّ، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التضخّم وغلاء المعيشة. ولم تكن البلاد لتصل إلى هذه الوضعيّة لو لم تضع حركة النهضة خلال تولّيها زمام الأمور حساباتها السياسيّة والإنتخابية فوق الإعتبارات والضرورات الإقتصاديّة الملحّة، ولو لم يعمل الباجي قائد السبسي على ضمان التهدئة الإجتماعيّة على حساب الوضع الإقتصاديّ الحرج في فترة الموازنات الماليّة المحدودة. واليوم يبدو أنّ حكومة مهدي جمعة تجد نفسها في وضعيّة مريحة على الأقلّ من الناحية النفسيّة للشعب التونسيّ، الذّي صار يعيش بين خيار التجويع أو التسليم، لتمرير مخطّطات هيئات النقد الدولية و تعليماتها وإحداث التغيير الهيكليّ المطلوب في الإقتصاد التونسيّ وفق ما يراه البنك الدوليّ و صندوق النقد.

إذن، يبدو أنّ البلاد تسير في النهاية نحو التسليم المطلق لاملاءات هيئات النقد الدوليّة عبر خصخصة الإقتصاد وتغييب الدور الإجتماعي للدولة، بعد تمنّع مختلف الحكومات تحت الضغط الشعبيّ تارة والحسابات الانتخابيّة طورا.