بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

بعد الزوال النسبيّ لسياسة الحظر والحجب لواقع المؤسّسات الحكوميّة، اتضحت الصورة أكثر فأكثر حول الأزمة التي تعاني منها مؤسّسات الدولة وحجم الخسائر السنويّة التي تتكبّدها. فإلى جانب استشراء الفساد الذي نخر طيلة عقود الإدارة العموميّة بالإضافة إلى سوء الإدارة وسياسة المحسوبيّة وغيرها من الممارسات التي كانت نتاجا لطبيعة النظام السياسيّ القائم آنذاك، لعبت الممارسات الغير مسئولة والتعامل الانتهازيّ مع موارد الدولة دورا محوريّا في إنهاك المؤسّسات العموميّة التي عانت من تبعات إهدار المال العام والاستغلال الشخصيّ للممتلكات العموميّة.

إنّ ما يسمّى في اللهجة العاميّة التونسيّة “رزق البيليك”، تحوّل من ظاهرة شاذّة إلى ممارسات عاديّة تتمّ تحت أنظار السلطات المسئولة دون أن تنتبه إلى أنّ تراكم تلك الممارسات “الفرديّة” تحوّل إلى عادة جماعيّة تلعب دورا أساسيا في اختلال الموازنة العموميّة وتفاقم حالة التدهور الاقتصاديّ.

“انفلات” المصاريف العموميّة

شهدت السنوات الأربع الأخيرة طفرة كبيرة على مستوى الإنفاق العموميّ، إذ قفزت المصاريف العموميّة من 4,5 مليار دينار سنة 2011 إلى 11 مليار دينار سنة 2014 بحسب تصريح رئيس الحكومة مهدي جمعة. هذه الزيادة المهولة في مثل هذا الوقت القصير تعود بحسب التبريرات الرسميّة إلى ازدياد أعباء الدولة نتيجة الترفيع غير المدروس للأجور بنسبة بلغت 41 % وفي الدعم الذي ارتفعت نفقاته بنسبة 270 % منذ 2011، بالإضافة إلى ازدياد الأعباء الأمنيّة التي ناهزت سنة 2014 ما يقارب 1138 مليون دينار بالنسبة لوزارة الدفاع و 2141 بالنسبة لوزارة الداخليّة مقابل 1046مليون دينار بالنسبة لوزارة الدفاع و 1885.6 بالنسبة لوزارة الداخليّة سنة 2012.
هذه الأسباب قد تكون العناوين الرئيسيّة لارتفاع الإنفاق الحكوميّ، ولكنّ ظاهرة أخرى تتمثّل في مصاريف التسيير والإدارة تنخر هي الأخرى الموازنات العموميّة.

بمراجعة ميزانيّة سنة 2014، تكشف الأرقام حجم تطوّر المصاريف العموميّة والتي تساهم بشكل كبير في إنهاك الاقتصاد المحليّ، وتنقسم هذه المصاريف أساسا في تكاليف المجلس الوطني التأسيسي ومؤسّسة الرئاسة من جهة، وفي ضخامة الإنفاق في مختلف الوزارات الأخرى تحت عنوان تكاليف التسيير والتصرّف والتي تتمثّل خصوصا في المصاريف اللوجيستيّة كالنقل والاتصالات من جهة أخرى والتي لا يمكن أن تصنّف إلاّ في خانة إهدار المال العام.

المصاريف اللوجيستيّة وعقليّة “رزق البيليك”

sayeb-el-karhba-2
سيارات عمومية تُستعمل لإغراض شخصية. صفحة الحملة الوطنية على السيارات الادارية بالبلاد التونسية

خلال شهر ماي من سنة 2012، عقد جهاز مراقبة المصاريف العموميّة ندوة حول حجم المصاريف التي تتحمّلها المجموعة الوطنيّة و ركّزت خلال هذه الندوة على مسألة السيّارات الإدارية والاتصالات. كانت الأرقام التي ذكرها جهاز المراقبة صادمة من حيث قيمة المصاريف التي تتكبّدها الدولة، إذ أشارت أن العدد الإجمالي لأسطول السيارات الإدارية قد بلغ حينها أكثر من 29 ألف سيّارة وشاحنة ومجرورة (دون احتساب السيّارات الأمنيّة والعسكريّة وسيّارات الإسعاف والخدمات المدنيّة).

وينقسم هذا الأسطول إلى سيّارات مصلحة مخصّصة للمهام الإداريّة وسيّارات ذات استعمال مزدوج تمنح بصفة استثنائيّة للاستعمالات الشخصيّة وهي لا تمثّل سوى 12 % من مجموع العربات الإداريّة. هذا وتستهلك هذه السيّارات ما يتراوح بين 150 و200 لتر بنزين شهريّا أي بكلفة سنويّة تناهز 105 مليون دينار دون اعتبار تكاليف الصيانة والإصلاح التي تشهد ارتفاعا متواصلا باعتبار تجاوز عمر 18% من الأسطول 15 سنة.

المشكلة الأبرز في هذه الحالة ليس فقط في ارتفاع تكلفة استعمال العربات الإداريّة، بل في كيفيّة استعمالها، إذ رصدت حالات عديدة لاستعمالات شخصيّة للسيّارات العموميّة وهو ما دعا البعض إلى إطلاق حملة للمطالبة بإنهاء العمل بها أو بتشديد المراقبة على تنقلاتها واستعمالاتها.

sayeb-el-karhba

كما كشف جهاز مراقبة المصاريف العموميّة خلال تلك الندوة رقما آخر لا يقلّ أهميّة عن موضوع السيّارات الإداريّة، إذ وبحسب ما أعلنه القائمون على المراقبة أنّ نفقات الاتصالات الهاتفية للدولة تطورت من حوالي 32.9 مليون دينار في سنة 2009 إلى 34.7 مليون دينار سنة 2010 لتصل إلى 35.9 مليون دينار سنة 2011 و36.4 مليون دينار في سنة 2012.

في الوقت الذي تفاقم فيه عجز الميزانيّة ليبلغ 7%، تثير هذه الأرقام أكثر من تساؤل حول كيفيّة تغاضي السلطات عن هذا النزيف الماليّ الذي ينخر المؤسّسات العموميّة وعن التجاوزات التي يقترفها بعض الموظّفين في حقّ المجموعة الوطنيّة عبر تسخير موارد وإمكانيات الدولة لقضاء شؤونهم الشخصيّة.

كن المثال ليقتاد بك الآخرون

في الوقت الذّي ترتفع فيه التحذيرات الحكوميّة من تواصل العجز وتدهور الوضع الاقتصاديّ وتفاقم المصاريف العموميّة وعجز الدولة عن الإيفاء بتعهّداتها ومخصّصات الإنفاق، رُصدت للمجلس الوطني التأسيسي لسنة 2014 ما يقارب 25,234 مليون دينار كنفقات تصرّف، أمّا مؤسّسة الرئاسة فقد> بلغت مخصّصاتها 78,256 مليون دينار.

إنّ المجلس الوطني التأسيسي الذّي يباشر للسنة الثالثة أعماله قد كلّف المجموعة الوطنيّة ما يقارب 100 مليون دينار، وفي حين يزداد ضغط الأزمة الاقتصاديّة على المواطن العادّي الذي تتناقص مقدرته الشرائيّة بشكل متسارع، يبدو نوّاب الشعب غير مبالين بثقل اعتمادات مجلسهم وحجم التكاليف التي يحمّلونها لدافعي الضرائب من المواطنين العاديّين. بل وتمادت لا مبالاتهم لترتفع مطالبهم بزيادة المنح أو الترفيع في الأجور التي يتقاضونها عن أداء “واجب وطني” بالإضافة إلى التمطيط الغير مفهوم لمأموريتهم التي كان من المفترض أن لا تتجاوز سنة واحدة.

أمّا مؤسّسة الرئاسة، والتيّ تجاوزت اعتماداتها 78 مليون دينار لسنة 2014 ، فهي تظلّ محل الكثير من الشكوك والتساؤلات حول مبرّرات تخصيص هذه المبالغ. فبعد انتخابات 23 أكتوبر بان جليّا أنّ السلطة الحقيقيّة آلت إلى القصبة وأنّ قصر قرطاج فقد هيمنته المطلقة في تقرير مصير البلاد ورسم سياستها، بل وتحوّل شيئا فشيئا إلى مؤسّسة رمزيّة بروتوكوليّة، إذن هل تستحقّ هذه المؤسّسة بوضعيّتها الحاليّة وفي ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الراهنة أن تنال ذلك النصيب من المال العامّ؟

الثروة المهدورة

إنّ إهدار المال العامّ لا ينحصر فقط في سوء التصرّف بموارد الدولة وإمكانياتها أو تضخّم ميزانيّات بعض المؤسّسات بالنظر إلى دورها ومردوديّتها بل يشمل الخسائر التي تتكبّدها الدولة نتيجة التهريب والخسائر الجمركيّة.

يساهم هذه االنشاط في هدر ملايين الدينارات سنويّا نتيجة ضياع حق الدولة والمواطنين في العائدات الجبائيّة التي من المفروض أن تتأتّى من التبادل التجاريّ والأرباح التي يحقّقها الأفراد من خلال نشاطاتهم الاقتصاديّة.

وقد كشف تقرير حديث صادر عن البنك الدولي حجم التجارة الموازية والتهريب على الحدود التونسية الليبية والحدود التونسية الجزائرية، وبيّن التقرير أنّ التجارة الموازية تلعب دورا هاما في التجارة الثنائية مع ليبيا والجزائر وخصوصا في قطاعات معينة.

voiture-militaire-tunisie-marche-noir
سيارة عسكرية تونسية تتزود بالبنزين المُهرّب. المصدر: صفحة الحملة الوطنية على السيارات الادارية بالبلاد التونسية

وبيّنت الدراسة أن التهريب يمثل أكثر من نصف المعاملات التجارية للبلاد مع ليبيا، وأنّه من الصعب تقدير مستوى التجارة غير الرسمية مع الجزائر لأنها أكثر انتشارا وأكثر سرية. وأنّه مع ذلك يمكن التقدير أن ما يقارب 25 % من البنزين المستهلك في تونس هو في شكل واردات غير رسمية من الجزائر وكشف التقرير أنّ تجارة الوقود وزيت الوقود هي الأكثر رواجا وتعتمدها أكثر من ٪60 من الشاحنات المشاركة في هذا النشاط وأن التهريب ينشط كثيرا في ميدان السجائر بين تونس والجزائر. وقد بلغ إجماليّ حجم التهريب بين تونس ومختلف جيرانها ما قيمته 1,8 مليار دينار تونسي سنويّا وهو رقم هائل بالنظر إلى محدوديّة السوق التونسيّة والوضعيّة الاقتصاديّة الحاليّة ويعكس مدى تطوّر السوق الموازية في النسيج التجاريّ العامّ للبلاد.

هذا النشاط الغير قانوني، كان ذا اتجاهين، فالمواد المهرّبة لم تقتصر على تلك الواردة من الجزائر أو ليبيا من محروقات وسجائر وبضائع متنوّعة، ولكنّ قوافل التهريب التي تدخل البلاد كانت تغادرها محمّلة بمختلف السلع التونسيّة وخصوصا المواد الغذائيّة، وهي عمليّة أدّت إلى الضغط على الأسواق التونسيّة خصوصا بعد أن أصبح التهريب يشمل بعض المنتجات المدعمة مثل السكر والمعجنات الغذائية والزيوت النباتية والحليب، والتّي ارتفعت نفقات دعمها خلال الأربع سنوات الأخيرة بنسبة 270 %، هذه الأرقام المذكورة تثير الفزع خاصّة في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة المترديّة التّي تعرفها البلاد و ارتفاع الأسعار و النقص الحاد لاحتياطيّ العملة الصعبة، ممّا يجعل من مشكلة التهريب نزيفا حقيقيّا وهدرا للمال العام الذي كان سيغذّي خزائن الدولة لو تمّت المبادلات عبر المسالك الطبيعيّة وتحت رقابة مؤسّسات الدولة. كما أدّى تنامي التهريب في الاتجاهين إلى انتشار ما يصطلح على تسميته بالسوق الخفيّة، التّي تنخر الاقتصاد الوطنيّ، كونها سوق في الظلّ، لا تخضع للقوانين والآداءات والنواميس والمسالك المتعارف عليها وهو ما يسبّب خسائر جبائيّة سنويّة تُقدّر 1200 مليون دينار منها 500 مليون دينار كخسائر جمركيّة حسب تقديرات تقرير البنك الدولي.

كما أنّ طبيعة العقود الممضاة مع الشركات الأجنبيّة الناشطة في تونس تعتبر من الأولويّات القصوى التي ستضمن استرداد جزء من الثورة الوطنيّة المهدورة، حيث تتسبّب تلك العقود الجائرة من قبيل شركة “كوتوزال” وبريتش غاز” ولغز الثروة النفطيّة جريمة في حقّ المواطنين عبر حرمانهم من حقوقهم في عائدات عادلة من ثروات بلادهم.

لا أحد بإمكانه إنكار الوضع الاقتصادي الحرج الذّي تمرّ به البلاد منذ أكثر من ثلاث سنوات، إلاّ أنّ الجدل الأساسي يتمحور حول طبيعة الحلول المطروحة للخروج من عنق الزجاجة وانقاذ الاقتصاد الوطنيّ من حالة العجز والركود التي يعاني منها. فالحلول السهلة عبر التداين أو التفريط في المؤسّسات العموميّة والتخلّص من عبء المسئوليّة التي يجب على الدولة تحمّلها على المستوى الاقتصادي ليس سوى هروبا إلى الأمام وتجنّبا للمشكلة لا حلاّ لها. فالمعالجة الحقيقيّة تكمن في إصلاح الأسباب الحقيقيّة لتراجع مردوديّة الاقتصاد المحليّ والسعيّ لتطبيق إصلاحات هيكليّة للمؤسّسات العموميّة تنبع من الحاجة الوطنيّة لبناء اقتصاد يعزّز السيادة الوطنيّة وليس عبر تبنّي “الإصلاحات” المسقطة من هياكل النقد الدوليّة والدول المتصارعة على تعزيز نفوذها السياسيّ والاقتصاديّ في البلاد.