Cine firma 1
يقول المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد “مُبرّر وجود المثقف هو تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى ويغفل أمرها على نحو روتيني”. ولعل الالتصاق العميق بقضايا الفئات المَنسية يدفع المثقف المُرهف نحو الحفر عن الأشياء الهامشية وتحويلها إلى أمور تستحق الانتباه.

عدنان الهلالي، كاتب ومسرحي تونسي، يجعل من ركام بيت فلاحي مُكيف قاعة سينما و ورشة مفتوحة للمسرح، سيتردد عليها مستقبلا الأطفال والأهالي المنسيين في منطقة غرداية من ولاية نابل. هذه القرية الفلاحية البعيدة التي لم تصلها قنوات الثقافة الرسمية امتزجت فيها صباح الأحد الفارط رائحة الأرض بسحر السينما.

سينما القرية المنسية

بجانب المدرسة الابتدائية بغرداية تنتصب دار السينما الجديدة على أرض تطل على السهول المنبسطة. الولوج من الباب يَحمِلك إلى فضاء فسيح، جدرانه البلاستيكية المُعلقة على الأعمدة زيَّنتها صور “شارلي شابلن” وعمالقة الفن السابع، وكراسي الجمهور قُدّت من حزم التبن المخزّن، الذي يستعمله القرويون أعلافا لحيواناتهم، وفي آخر الفضاء تَلوح شاشة السينما الكبيرة وركح المسرح الذي يلامس التراب.

العطش إلى شيء يكسر رتابة الحياة القروية، جعل أهالي غرداية يحتشدون أمام الفضاء الجديد، معظمهم من النساء والأطفال الباحثين عن الفرح، صفّقوا ترحيبا بفاطمة سعيدان وجمال المداني، وجهان في السينما والمسرح لم يعتادوا مصافحتهم عن قرب.

“أتمنى أن لا تكون خطوة أولى لأن الخطوة يمحوها الغبار، بل أرجو أن تكون بذرة لأنها ستعطي الثمار”. هكذا صافحت فاطمة سعيدان أهالي غرداية.

من جهته أكد الممثل جمال المداني أن مشروع سينما القرية يحمل دلالات لتغيير الواقع الثقافي في بلادنا، مضيفا “”سيولد من بين هؤلاء الأطفال شاعر ومسرحي ومبدع سينمائي، سينشأ فيهم من سيصل يوما ما إلى القمة”.

من ثقافة “الإسمنت” إلى ثقافة الشعب

سينما القرية أو “سيني فيرما”، شكل نقطة تحول  من الفضاءات الرسمية المغلقة إلى أخرى تعبر عن انتماء ثقافي أكثر تجذرا في حياة الهامشيين والناس المنسيين، في هذا السياق يؤكد عدنان الهلالي صاحب هذه الفكرة “يجب أن نحرّر الثقافة من زنازين الإسمنت، الطبيعة هي الركح الحقيقي للإبداع والفضاءات المغلقة يفرّخ فيها النفاق و وهم الإبداع”.

أما بخصوص الجمهور الريفي، الذي عادة ما تقصيه النزعات النخبوية من دوائر الفعل الثقافي، فإن الهلالي يشير إلى أن هذا الجمهور مُثقف ومتعطش وله ما يكفي من عشق الثقافة والفن، مضيفا “أما المرابطون في الفضاءات المغلقة، هم مصّاصو خزينة المندوبيات ويكتفون بتنظيم لقاءات فلكلورية عادة ما تكون باهتة ومبنية على النفاق المتبادل”.

Cine firma 2

القصبة و الكمنجة و درويش

في افتتاح “سيني فيرما” اختلطت المرجعيات الثقافية وتعددت الألوان وسط اختلاف آلات العزف. تناغم الناي الجبلي”القصبة” مع الكمنجة في إطار عرض قدّمته “مجموعة” التروبادور، المغنين الرحل الذين يعزفون أنماطا موسيقية مختلفة ويجوبون القرى والمناطق الجبلية أين يشاركون الرعاة أناشيدهم.

كان لمحمود درويش وفلسطين حضور صاخب أيضا، من خلال الأغاني الفلسطينية التي رددها الأطفال ” يمشي على الجمر شبل” و”عصفور طل من الشباك”، وعُرضت قضية الحصار التي يواجهها الشعب الفلسطيني من خلال شريط الرسوم المتحركة “حدود” أنتجه أطفال في فلسطين المحتلة، يصوّر معضلة الحدود القسرية التي صنعها الاحتلال الصهيوني بين أبناء الشعب الفلسطيني عبر جدار الفصل العنصري.

تأمين المعادلة بين الفن النخبوي والثقافة الشعبية يعد من الإشكاليات المطروحة في العديد من الفضاءات الفكرية والثقافية، لأن سؤال: كيف نخلق حالة شعبية محبة لفن راق؟ ظل محل جدل دائري في العديد من الأحيان، وفي هذا السياق يؤكد الكاتب عدنان الهلالي “لا يجب أن نفرض على الشعب فرجة محدّدة وعندما يلفظها نتّهمه بمقاطعة الإبداع، السينما ليست موجّهة إلى الجمهور التونسي لأن شخصيتها أنهكتها التبعية لكل شيء إلا لشخصيتنا الوطنية”.

وأشار الهلالي إلى أن القرى والأرياف تعيش حالة فراغ ثقافي رهيب أصبحت مُوجعة في الكثير من الأحيان خصوصا مع ظهور آفة الإرهاب في الجبال والخلاء، في حين أن أهل القرى يعشقون “اللمّة” وهي سوق واعدة للسينما على حد تعبيره. ويواصل محدثنا انتقاد الثقافة السينمائية السائدة “هي سينما عائلية منغلقة على ذاتها وليس بمقدورها أن تكسب جمهورا كبيرا للفن السابع في الجهات. المناسباتية لا تخلق التقاليد و لا تهذّب و لا تترك أثرا”.

ينطلق “سيني فيرما” في النشاط يوم الأحد 6 مارس 2016 من خلال تنظيم ورشات تكوين للأطفال والتلاميذ في الإخراج وكتابة السيناريو والمونتاج و ورشة فن الممثل، سيُديرها مكونون مختصون من بينهم عدد كبير من المتطوعين. ومن المنتظر أن ينظم “سيني فيرما” عروضا سينمائية تحتفي بحياة القرويين وتلامس مشاغلهم اليومية وسُتتوَّج بتنظيم مهرجان غرداية أيام 16 و17 و18 أفريل 2016 تزامنا مع موسم جني الزهر. وقد أكد عدنان الهلالي أن مشروع سيني فيرما لن يكون الأخير وسيتم العمل من أجل تعميمه على القرى الفلاحية المنسية في منطقة نابل والعديد من المناطق الأخرى.