سبق لموقع نواة أن نشر تحقيقا حول ملف اللوالب القلبية منتهية الصلوحية، تضّمن معطيات تشير إلى وجود شبكة فساد في قطاعي الصحة والتأمين الاجتماعي متورطة في هذه القضية. وفي ظل انعدام القدرة الرسمية على احتواء الملف –لأنه أصبح قضية رأي عام- اتخذت وزارة الصحة إجراءات تأديبية ضد بعض المصحات بعد صمت دام لأسابيع. وفي الأثناء سَال حبر كثير حول هذه الإجراءات وعدد المصحات والأطباء استنادا للبيانات الوزارية، ولكن ظل الحديث عن شبكة الاتجار باللوالب القلبية يقبع خارج الاهتمامات أو بالأصح يُرَاد له ذلك.

يجري الاتجار باللوالب القلبية منتهية الصلوحية في إطار شبكة مترابطة، تتوزع خيوطها على أكثر من مركز: وزارة الصحة، المزوّدين، بعض أطباء القلب، المصحات الخاصة، الصندوق الوطني للتأمين على المرض. أمام هذا التشابك سعت كل الأطراف المعنية إلى التملص وإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر، والدخول في حرب تصفية حسابات مفتوحة في بعض الأحيان، وهو ما ساهم في إخفاء الجوانب المهمة للقضية. يسعى هذا المقال إلى إماطة اللثام عن العناصر المسكوت عنها، والتي تعتبر مفاتيح رئيسية لفك شيفرات هذا الملف.

المزوّدون خارج الأضواء

رغم خطورة القضية –إذ تتعلق بمصائر مرضى أبرياء- فإن وزارة الصحة لازمت الصمت طيلة 40 يوم أي في الفترة الممتدة بين 10 ماي 2016 (تاريخ إنهاء التفقدية الطبية التحقيق) وبين 21 جوان (تاريخ أول بيان رسمي أصدرته الوزارة حول الملف). ولعل الشروع في اتخاذ إجراءات تأديبية ضد بعض المصحات ليس بالجديد مثلما فَهم ذلك البعض من الندوة الصحفية التي عقدها الوزير في 2 أوت 2016، إذ سبق أن أغلقت الوزارة أواخر شهر جوان الفارط قاعتي قسطرة بكل من مصحة ضفاف البحيرة والمصحة العامة لأمراض القلب والشرايين بتونس، وقد تم هذا الإجراء في كنف التكتم، حتى أن بعض المسؤولين في هاتين المصحتين رفضوا الإجابة على سؤال موقع نواة بخصوص موقفهم من قرار الوزارة.

غلق قاعات القسطرة بتعلة أنه الإجراء الداخلي الوحيد الذي يمكن اتخاذه، كان الهدف منه احتواء القضية ووضعها في سياق الأخطاء الطبية العَرضية، دون الذهاب في مسار محاسبة فعلية من شأنها أن تميط اللثام عن شبكة فساد مالي وإداري تمتد إلى وزراة الصحة. وهنا يبرز دور مزوّدي المعدات الطبية من أكثر الأدوار المسكوت عنها، إذ يرتبط نشاطهم بوزارة الصحة وخصوصا بالمخبر الوطني لمراقبة الأدوية LNCM الذي يقوم بتكليف من إدارة الصيدلة DPM بإجراء التحاليل اللازمة لعينة من المعدات الطبية التي يتم توريدها من طرف المزودين. وبالعودة إلى الوثيقة -التي بعث بها احد المبلغين عن الفساد إلى النقابة الأساسية لوزارة الصحة في منتصف جويلية الفارط والتي أكدت الندوة الصحفية للوزير صحتها- (انظر الوثيقة) يتبين أن المدة الفاصلة بين تاريخ معاينة اللوالب القلبية من طرف المخبر وتاريخ انتهاء صلوحيتها لا تتجاوز السنة وتصل إلى الـ9 أشهر في بعض الحالات. وهنا يطرح سؤال مهم كيف يسمح المخبر الوطني لمراقبة الأدوية بتوزيع اللوالب القلبية دون أن يبدي تحفظاته حول اقتراب مدة انتهاء صلوحيتها؟ مع العلم أن معدل الصلوحية المعمول به في المستلزمات الطبية يصل إلى 3 سنوات.

الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في صمت وزارة الاشراف عن ملف فساد ، حيث أكدت مصادر مطلعة من وزارة الصحة لموقع نواة أنه تم في شهر مارس 2016 إيقاف رئيسة مخبر بالمخبر الوطني للأدوية عن العمل وإحالتها على مجلس التأديب بعد أن ضُبطت متلبسة بسرقة عينات من المستلزمات الطبية التي يتم إيداعها بالمخبر، وأثناء فتح تحقيق من طرف التفقدية تبيّن أن هذه الأخيرة تتقاضى مبالغ مالية من شركات التزويد مقابل إعفاء معداتهم المُورّدة من التحليل الشامل، علاوة على تمكينهم من استعادة العينات التي تصل إلى 4 أو 6 في بعض الأحيان، وضمن العيّنات التي يتم استرجاعها حسب تقرير التفقدية توجد اللوالب القلبية.

الصندوق الوطني للتأمين على المرض يكنس بعيدا عن بيته

الملفت للانتباه أن جل الأطراف المتورطة في الملف تسعى إلى التملّص وتبرئة ذمتها، وهو ما ينسحب على الصندوق الوطني للتأمين على المرض، إذ أشار نورالدين الخلفاوي مدير الشؤون القانونية والنزاعات بالصندوق -في الندوة الصحفية الأخيرة- إلى أنه ”تم التحيل على الصندوق بنيل أموال دون وجه حق“، ملمّحا بهذا الاتهام إلى الأطباء والمصحات المتعاقدة مع الصندوق. ولكن بالمقابل فإن الصندوق الوطني للتأمين على المرض يشكل عنصرا رئيسيا في شبكة الاتجار باللوالب القلبية من خلال الدور الذي لعبه بعض موظفيه في تسهيل إجراءات تكفّل إدارة الصندوق بثمن اللوالب القلبية، والتي قدر ثمن الواحد منها مؤخرا بـ2600 د. هذا بالإضافة إلى التواطؤ في مراقبة ملفات زرع اللوالب، وقد جاء تفطن أحد الأعوان للتجاوزات بمحض الصدفة نظرا لأن أحد الأطباء أودع سهوا ملفات بها ملصقات لوالب طبية منتهية الصلوحية. هذا ويُشار إلى أن عون المراقبة المذكور تم نقله إلى مصلحة أخرى كإجراء تأديبي.

من جهته أيضا سعى وزير الصحة إلى الإيهام بأنه بصدد اتخاذ إجراءات صارمة على غرار إعفاء رئيسة قسم أمراض القلب بمستشفى سهلول وإحالتها على مجلس التأديب بسبب وضع 2 لوالب منتهية الصلوحية، في حين أن الوزير لم يتعامل بنفس المنطق الحازم مع أطباء آخرين مورطين في شبكة الاتجار باللوالب رغم اطلاعه على حقيقة الملفات. وبخصوص هذا الإجراء أشارت مصادر طبية إلى أن إعفاء رئيسة قسم القلب بمستشفى سهلول يندرج في إطار تصفية الحسابات لأن هذه الأخيرة قادت حملة تشهير ضد الوزارة أثناء تعطل قاعة القسطرة بالمستشفى لمدة 5 أشهر. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن قاعات القسطرة بالمستشفيات العمومية تمر بأوضاع سيئة نتيجة تقادم التجهيزات على غرار قاعة القسطرة بمستشفى المنجي سليم بالمرسى التي تم إغلاقها منذ 5 أشهر.

أما المصحات الخاصة التي شكلت حاضنة كبرى لزرع لوالب قلبية، فقد كشف المسؤولون فيها عن نزعة ”قطاعوية“ من خلال التضامن مع الأطباء المتورطين، رغم أن الطبيب يعد المسؤول الأول على قاعة القسطرة والمخوّل الوحيد لاختيار نوعية اللوالب القلبية والجهة المصنّعة لها، وهو في ارتباط مباشر مع المزود. وفي هذا السياق أصدرت الغرفة النقابية الوطنية للمصحات الخاصة يوم أمس بيان هددت فيه بغلق كل قاعات القسطرة بالمصحات الخاصة بداية من يوم 1 سبتمبر القادم، وهذا التصعيد يكشف عن لَيْ ذراع ووضع صحة المرضى على المحك مقابل الإفلات من المحاسبة.