بقلم وليد غبارة،
لا يختلف اثنان في أن الثورة التونسية كانت شعبيّة بامتياز، اندفع الشعب في تحقيقها بكل عفويّة بعد أن تحققت شروط حصولها الموضوعيّة من ظلم وقهر واستبداد. وحتّى التدّخل التأطيري لبعض الفعاليات جاء لاستيعاب الثورة وليس لقيادتها. بحيث لا يمكن لأي تياّر فكريّ وسياسيّ أن يحتكر النطق باسم الثورة أو أن ينسبها لنفسه. كما لا يختلف اثنان أيضا في الدّور المركزيّ الذي لعبه الشباب في اندلاع الثورة ونجاحها. وبذلك حطّم الشباب الصورة النّمطيّة التي ارتسمت حوله، ومفادها أنه مستسلم للواقع وغير معنيّ بتغييره. فإحراق البوعزيزي نفسه مثل القادح والشرارة التي دفعت الشباب للثورة على النظام بعد أن تراكمت في النفوس مشاعر الغضب (I).
إلا أن الشباب سرعان ما تراجع بعد النجاح الأوليّ للثورة، فحصلت “الانتكاسة الأولى” وعدنا إلى المربّع الإيديولوجي. بحيث يمكن القول أنّ الثورة قامت على “وعي مطالبيّ” موحّد، فنجحت في إسقاط رأس النظام ولكن لمّا رامت الثورة بناء “وعي مواطنيّ” موحّد لبناء تونس الجديدة تسلّل السياسيّون وفرضوا أجنداتهم الإيديولوجيّة وعدنا بذلك إلى المربّع الإيديولوجي، فهل يستعيد الشباب الحلم ؟ (II)
I – الشباب وقيام الثورة : “الشباب الثائر” أو …”ثورة
لطالما عابت النخبة على الشباب استسلامه للواقع المتردي الذي يعيش فيه وعدم سعيه لتغييره إلى درجة اليأس من فاعليّته تماما. ولكنّ ذلك لم يكن سوى ظاهر الأمور إذ أن اللهيب كان يشتعل تحت الرماد (أ) وسرعان ما اندلعت الثورة وهبّ الشباب ليحطّم الصورة النّمطيّة التي ارتسمت حوله مندفعا نحو أفق “ما بعد الإيديولوجيا” (ب).
أ – الشباب وما قبل الثورة : إرهاصات الثورة أو … “اللهيب تحت الرماد”
تعتمد الأنظمة السياسية في العالم العديد من “تقنيات الإلهاء” على حدّ عبارة “نعوم تشومسكي”. وذلك لتحويل الوعي عن القضايا الهامّة وإلهائه بمسائل هامشيّة وجانبيّة. ويعتبر التركيز المتعمّد والمفرط من قبل النظام السابق على الرياضة بشكل عام وعلى كرة القدم بشكل خاص من بين الوسائل التي اعتمدها لإلهاء الشباب التونسي واستنزاف طاقته. ولكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر، إذ تحوّلت الملاعب الرياضية إلى “فضاءات للمعارضة السياسية” بامتياز. وليس أدل على ذلك من الأغاني والأهازيج التي كان يرّددها الشباب في المدارج والتي كانت تحمل طابعا سياسيّا لا يخفى على أحد. وأصبحت بالتالي الملاعب فضاءات للتعبير عن الرّفض بكل معانيه. بحيث تحوّلت الملاعب من فضاءات مخصّصة لإلهاء الشباب إلى فضاءات سياسيّة تبلور فيه وعي شبابيّ ساهم ولو من بعيد في قيام الثورة.
إضافة إلى ذلك فإن حدّة البطالة خصوصا في صفوف حاملي الشهائد العليا كانت بمثابة “اللهيب الذي يشتعل تحت الرماد”، إذ ذاق الشباب ذرعا بالفساد المستشري والمحاباة الواضحة والمفضوحة في الانتداب خصوصا في القطاع العمومي. وقد مثلّ إحراق البوعزيزي نفسه الشرارة التي أدت إلى اندلاع الثورة، وليس أدل على ذلك من أن إحدى الشعارات المركزية المرفوعة في الثورة كان “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق.”
ب – الشباب واندلاع الثورة : طموحات الثورة : “الحريّة والكرامة” أو … “أفق ما بعد الإيديولوجيا”
قاد الشباب الثورة بعقليّة، “ما بعد إيديولوجية”، وفي أفق “ما بعد الإيديولوجيا”. وتقوم هذه العقليّة على “وعيّ مطالبيّ” موحّد تجسّم في شعارين مركزيّين رفعهما الشباب الثائر :
شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” من جهة : هذا الشعار على ما فيه من حدّة ظاهرة لا يهدف إلى إسقاط الدولة، بقدر ما يهدف إلى إسقاط نظام سياسيّ بني على الظلم والقهر والاستبداد والفساد. ويهدف الشعار في جانبه الإيجابي إلى بناء نظام منشود يقوم على الحريّة.
وشعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق” من جهة أخرى : ويهدف هذا الشعار إلى بناء نظام يكفل التشغيل بوصفه معطى أساسي وموضوعي لتحقيق الكرامة الإنسانية.
يتّضح ممّا تقدّم أن الشباب الثائر لم يرفع أيّ شعار ذا بعد إيديولوجيّ أو إقصائي أو فئوي، وإنما كانت شعارات الثورة جامعة وموحّدة، تنطلق من القواسم المشتركة للمجمتع لبناء جمهوريّة يكون مواطنوها أحرارا بالدرجة الأولى ويكفل فيها حق التشغيل بوصفه الضامن لتحقيق كرامة الإنسان بالدرجة الثانية. إذ لا حريّة بدون كرامة ولا كرامة بدون حريّة. ولكن هذه “العقليّة ما بعد الإيديولوجيّة” كانت تفتقد إلى آليات تطبيقها على أرض الواقع، بمعنى أن الشباب الثائر كان يحمل أهدافا سامية ويفتقد لآليات تحقيقها في الواقع الملموس، فاستغلت الأحزاب السياسيّة ذلك تحت غطاء “تحقيق أهداف الثورة” ومرّت عبر انتخابات المجلس التأسيسي لتحقيق أهدافها في الحكم وفق منطلقاتها ورؤاها الإيديولوجيّة، فحار الشباب الثائر في أمره.
II – الشباب و”ذكرى” الثورة : الشباب الحائر أو …”أين شباب الثورة ؟؟”
في الذكرى الثالثة للثورة : أصبح المشهد واضحا للعيان وهو أنّ جميع الأحزاب السياسيّة “تغوّلت” بسرعة رهيبة بعيد النجاح الأوليّ للثورة وسرعان ما نصّبت نفسها “حامية” للثورة. واندفعت دون تفويض واضح وصريح من الشعب لـ”تحقيق أهداف الثورة”. وجاءت انتخابات المجلس التأسيسي لتدعّم “سطوة” الأحزاب، فانتخبها الشعب و”فوّضها” تفويضا مفتوحا وغامضا لـ”تحقيق أهداف الثورة”، ولكن دون تحديد تلك الأهداف بكل دّقة. فاستغلّت الأحزاب هذا الغموض وطفقت تسعى، بمعزل عن الشعب تماما، لتحقيق أهدافها وأجنداتها وفق إيديولوجيّاتها الخاصّة (أ). ولكن أي دور للشباب الآن ؟ هل سيظل حائرا، واقفا على الرّبوة يراقب ما يحدث ؟ أم سيندفع من جديد لاستعادة الحلم ؟ (ب).
أ – الشباب و”ألم الذكرى” : الإنتكاسة الأولى أو … “العودة للمربع الإيديولوجي”
للأسف الشديد فإن الشباب سرعان ما فقد زمام المبادرة، وتراجع بسرعة رهيبة مقابل بروز السياسيّين وتصدّرهم للمشهد السياسي والإعلامي، فأصبحت الثورة بالنسبة للشباب مجرّد ذكرى يستحضرها بكل ألم مقارنا ما بين ما كان ينشده من القيام بها وما آلت إليه الأمور. وانحدرت الثورة بذلك وللأسف إلى المربّع الإيديولوجي وبدأت الإنقسامات تظهر، وهي انقسامات لا تنتمي أبدا إلى أفق الثورة التونسية وإنما هي انقسامات على أسس إيديولوجيّة أتى بها السياسيون من “رفوفهم القديمة” وأرادوا فرضها فرضا على واقع الثورة التونسية، فوجد شباب الثورة نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ : إما الاندراج كرها في سياق “الصّراع الإيديولوجي”، وإما الوقوف على الربوة ومراقبة ما يحدث. وفي كلا الحالتين تفقد الثورة التونسية طرافتها وفرادتها لتندرج في نسق قديم يؤدي إلى نتائج قديمة لا تجلب الخير المنشود.
وحتّى الدّستور الجديد لم يكن في مستوى توقّعات طموح الشباب التونسي إذ تمّ تخصيص فصل “شعاراتيّ” للشباب مفرغ من كل محتوى قانوني، وهو الفصل 8 الذي ينصّ في فقرته الأولى على أن “الشباب قوّة فاعلة في بناء المجتمع” في حين نصّت فقرته الثانية على أنه “تحرص الدولة على توفير الظروف الكفيلة بتنمية قدرات الشباب وتفعيل طاقاته وتعمل على تحمله المسؤولية وعلى توسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية”. وهو ما يندرج أيضا في سياق الشعارات و”الخطابة” القانونية أكثر من إندراجه في سياق النصوص القانونية الملزمة.
ب – الشباب و”ما بعد الذكرى” : الطموح المتجدّد أو … “استعادة الحلم”
في ظلّ واقع الثورة الآن يلوح في الأفق خيار ثالث للشباب، وهو خيار البحث بكل جديّة عن آليات تمكّنه من تحقيق أهداف ثورته، ويمرّ هذا البحث حتما عبر التنظّم في مؤسسات المجتمع المدني وخصوصا الجمعيات المدنيّة التي تضطلع بمهمّة البحث في سبل تحقيق أهداف ثورة الشباب، ويكون ذلك عبر ورشات العمل وحلقات النقاش والبحوث والدراسات والندوات الفكرية والسياسية، حتى يهيّأ الشباب أرضيّة فكريّة تمكّنه من تحديد آليات تحقيق أهداف ثورته، فالطموح المتجدّد ضروري لبناء المستقبل. كما أن الإصرار على استعادة الحلم ضروريّ أيضا ولو طالت المدّة.
كما يجب على الشباب أيضا إمتلاك ناصية العلم، باعتباره القاطرة الوحيدة نحو التقدّم والإزدهار، إضافة إلى ممارسة التّعبيرات الثقافية المختلفة بوصفها أدوات فكرية وثقافية تسمح بتكوين رؤية للذات والآخر، وتسهّل التعامل مع الفضاء “المعولم”.
[…] البناء العام يستدعي تجميع العناصر المكوّنة له أولّا. فبعد الحديث عن الشباب في المقال السابق، بما هو جزء رئيسيّ في النسيج المجتمعي، في علاقته […]