بدأ تجسيد قرار تونس بإطلاق مسارها الخاصّ للعدالة الانتقالية، الذي لاقى دعمًا واسعًا من المجتمع الدولي، حوالي سنتين بعد رحيل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ولا يبدو واضحًا بعد كيف سيتمّ قياس مسار البلاد نحو المصالحة في سياقه العامّ ولا كيف ستكون انعكاساته على التونسيين. لكن في نفس الوقت، يقدمّ السجل المتنامي للمسارات المشابهة حول العالم دروسًا وأمثلة للمؤسّسة المُكلّفة بالكشف عن الحقيقة في تونس؛ وهي تحاول الاضطلاع بمهامها في مواجهة تحدّيات سياسيّة وبنيويّة واستراتيجية.
البحث عن الحقيقة والكرامة بعد الثورة
صادق المجلس الوطني التأسيسي في ديسمبر 2013 على القانون الأساسي عدد 53/2013 المتعلّق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها. وبدأت هيئة الحقيقة والكرامة (ه.ح.ك.) مهمّتها، المحدّدة زمنيًا بأربع سنوات، في ديسمبر من السنة الموالية. وقد أنيط بعهدتها مسؤولية التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان المُرتكبة بين 1955 و2013. ومن صلاحيات الهيئة (المُعرّفة في الفصلين 39 و40) عقد جلسات، مغلقة أو مفتوحة للعموم، الإستماع للضحايا؛ والتحقيق في القضايا على أساس الشهادات والشكاوى التي يقدمّها هؤلاء؛ جمع المعلومات وتوثيق الانتهاكات في قاعدة بيانات؛ تحديد مسؤوليات أجهزة الدولة وبقيّة الأطراف؛ توضيح أسباب الانتهاكات واقتراح الحلول؛ وضع برنامج تعويضات شامل؛ تكوين أرشيف مفتوح للعموم وآخر خاصّ؛ طلب المساعدة من السلطات العمومية للقيام بالتحقيقات؛ تركيز عمليات بحث وحجز للوثائق.
بعد حوالي سنة واحدة من انطلاقها، تهدّد السجالات والخلافات الداخلية بإفشال أعمال الهيئة وأهدافها، إذ انتشرت في وسائل الإعلام المحلّية اتّهامات لسهام بن سدرين، رئيسة الهيئة، بالتورطّ في فساد مالي؛ كما أعدّت السلطة رؤيتها الخاصّة للمصالحة – بعد المصادقة على قانون جديد لمكافحة الارهاب قوبل بالادانة من منظمات الدفاع عن حقوق الانسان- وجسّدتها في مشروع القانون عدد 45/2015.
أثارت “الإجراءات الخاصّة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي”، التي ما تزال بانتظار مناقشتها في البرلمان، أسئلة حول مكانة وتداعيات المصالحة. وذلك في ظلّ تصوير السلطة الحالية للنموّ الاقتصادي والمطالبة بالعدالة كأولويّتين متنافستين.
إطلالة على تجارب العدالة الانتقالية
توسّعت قائمة البلدان التي انخرطت في مسار رسمي للعدالة الانتقالية إثر فترات نزاع أو ديكتاتورية عرفت انتهاكات صارخة لحقوق الانسان. مساريْ الكشف عن الحقيقة ببولونيا والمجر، والهيئة الوطنية للمفقودين بالأرجنتين، هيئة الحقيقة والمصالحة بجنوب إفريقيا، وهيئة المصالحة والإنصاف قريبًا منّا في المغرب الأقصى. ويبيّن الجدول أسفله العدد الهامّ للبلدان التي شهدت بعث هيئات للكشف عن الحقيقة خلال العقود الثلاث الأخيرة.
مراوغة التسييس وإدارة انطباع الجمهور
تُثبتُ الحالة التونسية أنّ العدالة الانتقاليّة هي مسار سياسي في جوهره. كورا أندريو، مواجهة إرث الديكتاتورية في تونس: تسييس العدالة الانتقالية (بالانجليزية). 31 أوت 2015.
أدّى ما بدا عمليّة اختيار متسرّعة وغير شفّافة (على الورق، اعتُبرت اجراءات اختيار أعضاء اللجنة سليمة وشفّافة) إلى جانب ما تبعها من استقالة ثلاثة من أعضاء الهيئة إلى تشويه صورة (ه.ح.ك.) لدى الرأي العام. تلاحظ ريم الڨنطري: «اليوم خلال تقريبًا كلّ النقاشات أو البرامج الحوارية بوسائل الاعلام حول الهيئة، يتمّ تحويل وجهة النقاش من تقدمّ الأخيرة في مهامها وتحدّياتها إلى السجالات حول أعضائها وخلفياتهم الايديولوجية وانتماءاتهم السياسيّة، أو التصريحات التي أدلوا بها في الماضي»1.
في كينيا، أدّى النزاع السياسي والجدال الذي أحاط بهيئة العدالة والمصالحة خلال السنوات الأربع لعملها (2009-2013) إلى حلّها تقريبًا. وبغضّ النظر عن الحوار الوطني المثمر نسبيًا الذي أخذ بعين الاعتبار الأولويات المختلفة للأحزاب والمجتمع المدني، وعمّا بدا على الورق عملية اختيار سليمة، ثبت أنّ تعيين بيتهوال أ. كيبلاڨات أثار خلافات داخلية أدّت إلى استقالة نائب رئيس الهيئة باتي مورون ڨي. كما أدّى بشكل مباشر تقريبًا إلى «تشتيت تركيز و طاقة الهيئة في تنفيذ مهمّتها الأصليّة.»2 ويقول منتقدو الهيئة في كينيا أنّها “حافظت على ثقافة الإفلات من العقاب“، كما أنّ ما عرفته من انقسامات كان انعكاسًا لـ”غياب قطيعة واضحة مع الماضي.”
أما في ڨواتيمالا فقد واجهت لجنة التوضيح التاريخي (1997- 1999) عند بدايتها حالة من الريبة والتشكيك العامّ، إلاّ أنّها نجحت خلال مدّة تكليفها في كسب ثقة المواطنين، عبر التنسيق مع منظمّات المجتمع المدني. في نهاية المطاف، صار يُنظر لأعضاء اللجنة الثلاث (أحدهم أجنبي عيّنته الأمم المتحدة واثنان محلّيان تمّ اختيارهما عبر التشاور مع المجتمع المدني) على أنّهم مستقّلون وعُرفوا بأنّهم «يأوّلون مهامهم ويتخّذون قراراتهم بناءا على ما هو أنسب لمصالح الضحايا».
يُعزَى العدد المرتفع للشكاوى التي تلقّتها هيئة الحقيقة والكرامة من الضحايا – حوالي 15 ألف في السنة الماضية – إلى الآمال والانتظارات الكبيرة التي خلقها مسار الكشف عن الحقيقة لدى الجمهور. ويعود الأمر كذلك إلى غياب التواصل والاستراتيجية التحسيسيّة تجاه المواطنين. وقد أوضحت كورا أندريو، الخبيرة في حقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة، أنّ المقاربة المجزّأة في وضع قائمة للضحايا خلقت انقسامات وتنافس بين الأفراد الساعين للحصول على تعويضات.
التعويضات: كيف، متى، ولمن؟
لم يحن الوقت بعد لتبيّن كيف وبأيّ طريقة ستقوم هيئة الحقيقة والكرامة بتحديد طلبات الضحايا والردّ عليها، خاصّة وأنّ العديدين منهم يقطنون بالجهات الداخلية بعيدًا عن العاصمة. وكما مثّل الانتقال الديمقراطي في تونس سعيًا لإصلاح التهميش والتمييز الجهوي، تناول مسار المصالحة في بيرو «التهميش التاريخي للسكّان الأصليين والمجتمعات الريفيّة التي كانت الأكثر تضرّرًا من النزاع»3.
فبارغم من نقص التعاون الحكومي، نجحت هيئة الحقيقة والمصالحة في البيرو (2001-2003) في «التخلّي عن الخطاب المتمحور على الذات» للعاصمة والنفاذ إلى المجتمع الريفي، وذلك رغم ما اعترض عملها وتركيزها لإرساء برنامج تعويضات شامل من عراقيل.
أعطى العمل التشاركي الذي قامت به الهيئة خلال وضعها لتوصياتها، عبر سعيها لتشريك ضحايا ومنظمات المجتمع المدني، أُسُسًا صلبة ومشروعيّة لهذه التوصيات… هذا التمشيّ، والجهود المتواصلة لتنظيم وتعبئة الضحايا، مازال يمنح إلى اليوم المنظمات والقيادات القدرة على مساءلة المقاربة الضيّقة التي اتبّعتها الحكومات المتعاقبة في مجال التعويضات.
يبدو بديهيًا، من خلال دراسة سريعة لبعض الأمثلة أنّه يجب إشراك الحقلين السياسي والعامّ في مسار المصالحة وأنّ «التوافق الجماعي يجب أن يُبنى على قاعدة تصوّر مشترك للكيفيّة التي يجب أن تنظر بها البلاد لماضيها ولالتزاماتها تجاه الضحايا». وفيما يخصّ التجربة التونسيّة، تصف أندريو العدالة الانقالية كصراع من أجل إيجاد تأويل ومعنى للتاريخ يشكّل الهُويّة المستقبلية للبلاد، و كمسار «يهدف إلى تغيير المجتمع، وليس مجرّد “التعاطي” مع ماضيه العنيف، وذلك من خلال الإرساء المتسلسل لجملة من الممارسات الواضحة”.
القطع مع الماضي والانتقال إلى الديمقراطيّة
اتبّعت كل من جمهورية التشيك، وبولونيا والمجر مقاربة متميّزة تمامًا للعدالة الانتقاليّة: التطهير، أو البحث مع الأفراد المتورّطين في الانتهاكات السابقة والنفاذ إلى الوثائق التي كانت بحوزة الأجهزة الأمنيّة (مقاربة لم تكن متناسبة مع الحالة التونسيّة نظرًا لاستحالة النفاذ إلى الأرشيف الرسمي).
في مقال نشر بالنيويورك تايمز في 2012، يشير الكاتب إلى مسارات المصالحة في أوروبا الشرقيّة كنقطة مرجعيّة بالنسبة للعالم العربي «حيث أسقطت انتفاضات شعبيّة ديكتاتوريات مديدة، مثيرةً أسئلة محرجة حول المسؤوليات الفرديّة عن جرائم الأنظمة الاستبداديّة. فالبلدان العربيّة مُجبرة على التعاطي مع نفس قضايا الإدانة والمسؤولية التي عدات بولونيا وباقي أوروبا الشرقية إلى معالجتها من جديد».
في دراسة قارنت استعمال مقاربة تطهير الدولة و مؤسساتها ممن تورّط في جرائم الدكتاتورية بمقاربة هيئات الحقيقة صلب مسار العدالة الانتقالية وردت ملاحظة غعتبرت أن «التعبير عن الانقسامات السياسيّة في بلدان أوروبا الشرقيّة حديثة العهد بالديمقراطيّة يتمّ عبر استحضار النظام القديم». وبغضّ النظر عن الخطاب المحتفي بالوحدة الوطنيّة والنموّ الاقتصادي، يدلّ حنين السلطة الحالية في تونس إلى الماضي، ودفعها نحو “إسترجاع” الأمن ومنح عفو استثنائي لمن يشتبه بتورطهم في قضايا فساد في ظلّ النظام السابق، على رؤية سياسية لا تتضمنّ في أولوياتها العدالة الانتقاليّة، ومن باب أدنى المطالب والطموحات التي عبّرت عنها الثورة. وبالفعل، يعزّز غياب التغييرات الملموسة في الحياة اليوميّة للناس، تحديدًا نسبة البطالة المرتفعة لدى الشباب (حوالي 34% حسب صندوق النقد الدولي)، الانطباع بأنّ الثورة التونسية لم تحقّق القطيعة مع الماضي التي تمنّاها الكثيرون.
في أغلب الحالات لم تمثّل هذه الثورات تغييرًا جذريًا، وانّما كانت انتقالاً معتدلاً للسلطة… ففي بولونيا جرت عودة الما-بعد شيوعيين بشكل أسرع من المجر، عبر تحالف اليسار الديمقراطي… ممّا ضاعف الاستقطاب داخل المجتمع، البولوني بين من هم على استعداد لتجاوز الماضي ومن لا يستطيعون ذلك. نيكولا كوليش، بولونيا تقود موجة عهد شيوعي جديد. نيويورك تايمز، 12 فيفري 2012.
إن لم تُجسّد الثورة و لم تحقّق التغيير الذي تخيّله التونسيون، فإنّ مسار العدالة الانتقالية ذاته – المتفرّد والكوني في ذات الوقت – سيقود إمّا إلى التغييرات العميقة المنشودة أو أنّه سينتهي بنا إلى نفس الصيغة القديمة للتاريخ.
هوامش
1. اقتباس منسوب إلى ريم الـڨنطري في نصّ (بالانڨليزيّة) من موقع المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة: سبتمبر 2015
2. الاقتباسات والمعلومات حول كينيا وڨواتيمالا مصدرها سبعة دروس مكثّفة حول لجان الحقائق. 28 سبتمبر- 2 أكتوبر 2015. المركز الدولي للعدالة الانتقالية (مطبوع). الكتاب، سلسلة من النصوص ودراسة الحالات، تمّ توزيعها في ورشة مؤخّرًا للمركز ببرشلونة.
3. الاقتباسات والمعلومات حول بيرو مصدرها : التعويضات في بيرو: من التوصيات إلى الإنجاز، كريستيان كورّيا. المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة، جوان 2013.
iThere are no comments
Add yours