مصادقة تونس عليها في سنة 2008
إعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إتفاقية مكافحة الفساد بموجب القرار الأممي 4/58 المؤرخ في 31 أكتوبر 2003، و قد كانت خطوة مهمة لمواجهة جرائم الفساد المالي المستشري في عديد البلدان التي يحرمها من موارد ضخمة كان يفترض أن ترصدها للنهوض بالخدمات العمومية و الإجتماعية و التنموية لمواطنيها، و أكثر المتضرّرين هم ضعاف الحال و الفقراء منهم، كخدمات الصحة و الرعاية الإجتماعية و التعليم و النقل و السكن و العدالة.
هاته الإتفاقية تلزم ال174 دولة التي أبرمتها و تبنتها، و تحثّها على إتّباع سياسات و تشريعات فعالة لمكافحة الفساد بشدة و حزم في مراحل الوقاية و التجريم، و تتبُّع و مسائلة مرتكبي تلك الجرائم و ذلك مهما كانت فترة التقادم التي مرّت حتى لا يفلت الجناة الفاسدين من يد العدالة .
الإتفاقية تطلب أيضا من الدول تشجيع منظمات المجتمع المدني و تشريكها بصفة فعالة و دائمة في مواجهة هذا السرطان الخبيث.
لقد صادقت تونس على هاته الإتفاقية الأممية في سبتمبر 2008، مثلما نصّ على ذلك موقع الأمم المتحدة، و بذلك أصبحت دولتنا ملتزمة و متعهدة يإحترام مضامينها و توجيهاتها، و خاصة ما جاء في الباب الثالث من الإتفاقية و المتعلق بالأحكام و الإلتزامات الواجب تطبيقها في تجريم و إنفاذ القانون في جرائم الفساد المالي، من رشوة و إختلاس و نهب للمال العام و الممتلكات و إستغلال النفوذ أو إساءة إستعماله بهدف الإثراء الغير المشروع لصاحب النفوذ أو لجهة أخرى داخلية أو خارجية كانت، و تعقّب آثار جرائم الصرف و غسيل و تبييض الأموال و تهريبها في حسابات سرية مودعة في الخارج.
تعارض قانون المصالحة مع مكافحة الفساد
طبق الفصل 20 من الدستور التونسي تتمتّع المعاهدات و الإتفاقيات الدولية الموافق عليها من قبل مجلس النواب و المصادق عليها، بالعلوية على القوانين المحلية و بناء عليه لا يجوز منطقيا للمجلس الحالي سنّ قوانين تتعارض و تتناقض مع إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الفساد.
و لكن عِوَض أن تهتم الدولة التونسية و سلطاتها المختلفة بتطوير و إصلاح تشريعاتها و التأكد أنّ الأحكام القائمة تتوافق مع مقتضيات الإتفاقية، و تنزيل ما أتى في دستور الثورة إلى نصوص قانونية لتفكيك منظومة الفساد حتى يتوقف نزيف الجرائم المستفحلة في كل أجهزة الدولة، و إتخاذ ما يلزم من تدابير مستعجلة و شاملة و تشكيل جهاز مخابراتي مالي عصري يغطّي بؤر فساد المنظومة السابقة التي بقيت خارج السيطرة، مثلاً في السوق الموازية و التهريب و التهرّب الجبائي و القروض المنهوبة، و تحجز لدى الخزينة العامة العائدات المتأتية من ذلك قبل فوات الأوان،
و بدل أن تضع الحكومة الإمكانيات المادية و البشرية اللازمة على ذمة القطب القضائي المالي و هيئة الحقيقة و الكرامة، و مدّهم بالوثائق الضرورية و الدفاتر المصرفية و المالية و التجارية و الملفات الكبرى لكبار الفاسدين، حتى يتمكّنوا من أداء مهامهم الموكلة لهم على أحسن وجه و معالجة الآلاف من القضايا و الملفات إسترجاعا لحق الدولة المهضوم من مليارات الأموال المنهوبة و توجيهها لتنمية الجهات المحرومة ، و هذا ممكن بإقتلاع هذا السرطان من جذوره و تطهير إدارتنا من العناصر الفاسدة و هم قلة قليلة و إعتماد خطاب حازم ضد الفساد من أعلى هرمي السلطة التنفيذية لترسيخ ثقافة المسائلة و عدم الإفلات من العقاب و الشفافية و النزاهة و المصداقية و هي ضرورات حتمية ليتعافى إقتصادنا و يخرج من عنق الزجاجة.
و لكن ما راعنا أن خرج علينا رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، مرة ثانية، بقانون أسماه ”المصالحة الإقتصادية“، وقع عرضه للمناقشة الأسبوع الفارط بصفة مستعجلة و مفاجئة إلى لجنة التشريع العام و ذلك رغم إنشغال المجلس بِمَا هو أهمّ من مشاريع قوانين أكثر أولوية مركونة على مكتب المجلس كقانون الإنتخابات البلدية و مجلة الإستثمار و قانون التدقيق في المديونية و غيرها.
و عندما ندقّق بعض الشيء في مشروع قانون الحال نجد أنّ الغاية منه هي أساسا تبييض جرائم الفساد المالي المرتكبة طيلة حقبة الديكتاتورية، و ليس لذلك علاقة بالمصالحة التي تفترض المكاشفة و المصارحة و المسائلة و المحاسبة و تفكيك ميكانيزمات الفساد حتى نضمن عدم العود و حتى تتمكّن الدولة من وضع كل الآليات الرقابية،
إنّ مشروع القانون هذا فيه تعارض صارخ مع الإتفاقية الأممية التي أبرمتها تونس في 2008، و ذلك للأسباب التالية :
- فمشروع القانون يسمح لمرتكبي جرائم الفساد من الإفلات من المسائلة و المحاسبة، فبمجرّد تصريح الفاسدين، من موظفين و رجال أعمال و سياسيين و وسطاء، بذلك أمام لجنة غير قضائية مشكوك في مصداقيتها و إستقلاليتها، سيصدر بحقهم عفو كامل و شامل في كل جرائم التعدّي على المال العام و التهرب الجبائي و تهريب الأموال للخارج ، و تسقط بموجب ذلك في حقهم كل التتبعات و الأحكام الجارية،
علما و أنّ اللجنة التي ستنظر في الملفات غير قادرة و تعوزها آليات التثبت من حقيقة و صحّة الأرقام و الوثائق المعروضة أمامها.
- القرارات التي ستصدر على اللجنة المحدثة، ستضرب في الصميم المبدأ الثاني المضمّن في إتفاقية مكافحة الفساد، و هو الهدف من كل العملية، و المتعلق بالمصادرة و إسترجاع خزينة الدولة الأموال و الممتلكات المكتسبة بطرق غير مشروعة، فاللجنة حسب مشروع القانون لها سلطة تقديرية كاملة لإلغاء مثلاً كل قرارات المصادرة الناتجة عن لجنة تقصي الحقائق التي رأسها المرحوم عبد الفتاح عمر و وارد جدًّا العودة إلى مربع ما قبل الثورة.
مشروع هذا القانون سيشكل عقبة أمام إسترجاع تونس الأموال المهربة في الخارج
كما بينّا فإنّ قانون ”المصالحة“ يتناقض في الصميم مع إتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الفساد و خاصة مع المادتين 17 و 23 في الباب الثالث من الإتفاقية :
تعتمد كل دولة طرف ما قد يلزم من تدابير تشريعية و تدابير أخرى لتجريم قيام موظف عمومي عمدًا، لصالحه هو أو لصالح شخص أو كيان آخر، بإختلاس أو تبديد أي ممتلكات أو أموال أو أوراق مالية عمومية أو خصوصية أو أي أشياء أخرى ذات قيمة عهد بها إليه بحكم موقعه، أو تسريبها بشكل آخر.المادة 17
و تونس إعتمدت في الماضي القريب على هاتين المادتين تحديداً لتفعيل الإتفاقيات و المعاهدات الدولية بمساعدة الجهاز التابع بالشراكة بين البنك الدولي و الأمم المتحدة (STAR: STOLEN ASSET RECOVERY INITIATIVE) لإسترجاع الأموال التي هربتها حرم الرئيس المخلوع في أحد البنوك اللبنانية و قيمتها 28 مليون دولار و حكمت المحاكم اللبنانية بإرجاعها للدولة التونسية، و لا يزال هناك ملفات أخرى مفتوحة و معروضة أمام القضاء و تطالب فيها الدولة التونسية إسترجاع أموال مهربة من طرف رموز النظام السابق و العائلة الحاكمة في مل من سويسرا و بريطانيا و كندا و عدة دول أوروبية، بالإعتماد على مساعدة الهياكل الأممية و بالإعتماد على نفس المواد 17 و 23 من الإتفاقية الأممية، فهل يعقد حينذاك في صورة مرّ قانون تبييض الفساد، أن تواصل هيئات الأمم المتحدة مساندة و دعم الدولة التونسية بالإستشارات و تضليل العقبات و هل نترجى أن تحكم محاكم تلك الدول بإرجاع الأموال المنهوبة محلّ التتبع حاليا إلى لدولة غير جادة في مكافحة الفساد بل تشجّع عليه و تعفو على الجناة من الفاسدين و كَأَنَّ شيئا لم يكن ، و تمكّنهم ممّا سرقوه و إستحوذوا عليه؟
العواقب ستكون وخيمة على إقتصادنا الوطني و سمعة تونس بين الأمم
إنّ نهب المال العام و إستشراء الفساد يؤثر في قدرة الحكومات على توفير أبسط مقومات العيش الكريم لأنه يحرم الدولة من إمكانيات القيام بالتنمية و تحقيق الإستقرار و السلم الأهلي، و يتسبّب في نفور المستثمرين الأجانب و عزوفهم على ضخ أموالهم في مناخ يسيطر عليه الفساد و تغيب فيه فرص المنافسة المتكافئة، و ما يسمى بقانون المصالحة سيعتبر خطوة إلى الوراء و إنعكاسات ذلك وخيمة على سمعة الدولة التونسية و مصداقية كل مسار الإنتقال الديمقراطي السائرة فيه، و قد تفهم الأمم المتحدة و هياكلها المكلفة بالمراقبة أنّ تونس تتنصّل من إتفاقية مكافحة الفساد و تأخذ منحى مغاير يشجع على الفساد و يضمن بالقانون الإفلات من المسائلة و من العدالة و يرجع الأموال و الممتلكات المنهوبة للفاسدين، و الحال أنها جرائم قامت عليها ثورة شغلت العالم، بسبب ما تسبّبت فيه من تعطيل للتنمية الإقتصادية و الإجتماعية لشعب كامل طيلة عقود، و أشاعت الفقر و الخصاصة و الحرمان و كانت سببا مباشرًا في خسارة نقاط ثمينة في التنمية كانت قادرة أن تمتص البطالة المستفحلة و تحدث عشرات آلاف مواطن الشغل.
هذا سيمثل ضربة موجعة لشفافية و نزاهة و مصداقية و سمعة عالم المال و الأعمال في تونس و الإقتصاد الوطني و الإدارة و سيتسبّب ذلك في إتخاذ إجراءات من مؤسسات الترقيم المالي تؤدي إلى مراجعة و تدحرج التصنيف التونسي ممّا قد يرفع من نسب الفائدة على القروض المستقبلية لأنّ ثقة سوق المال في الدولة التونسية ستكون قد إهتزت.
مراجع المقال
قضايا إسترجاع الأموال في الخارج المتابعة من الأمم المتحدة.
ما كان لديّ الرغبة في التعليق على هذا المقال لولا أنّ كاتبه (وله صفة حزبية) يمعن في ترديد نفس المصطلحات التي بنى عليها النظام البروقيبونوفمبري في نسخته 2.0 (المعروفة بالتوافق البجبوجوغنوشي) شرعيته وسلطته، ومنها
دستور الثورة: كم مرّة يجب أن نردّد أنّ ما حدث في هذا البلد المنكوب لا علاقة له بالثورة وإنما هو مجرّد انتفاضة اجتماعية تمّ الالتفاف عليها ذات مساء، وأنّ الدستور الذي حبّره بنو اخونج لا يحمل أية معالم ثورية
الانتقال الديمقراطي: لا يمرّ هذا البلد الموبوء بانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية كما يردّد أعوان النظام ومعارضته على حد سواء، وإنّما الواقع أنّ هذا النظام يشهد الانتقال الثاني في تاريخه، الأوّل كان في سنوات 1989/1987 من دكتاتورية الزعيم إلى نظام أوليغارشي كليبتوقراطي، ونشهد منذ 2011 دمقرطة الفساد والجريمة المنظّمة في هذا النظام وتحوّله المتسارع إلى نظام المافيات والعصابات، يعني يجدر تسمية هذه المرحلة بالانتقال المافيوي لا الديمقراطي
أحد أهم أسباب الفشل الجذري والهيكلي في مواجهة الأزمة التي يمرّ بها هذا البلد/المزرعة هي نزوع المتحزّبين (الذين يطرحون أنفسهم كنخبة مفكرة تصنع البدائل أو هكذا يتوهّمون) إلى ترديد نفس الملازم الإنشائية للنظام مع انعدام قدرتهم على التمييز بين الواقع والمنشود
أما فيما يخصّ قانون “المصالحة” الذي اقترحه السبسي وزكّاه الغنوشي فسيمرّ كالسكين في الزبدة، وكلّه بما لا يخالف تقاليد الجماهيرية التجمّعية الإسلاموية البوليسية العظمى في الفساد والاستبداد