تقديم
قليلة هي الكتابات التي تؤرّخ سيرة مواطن عادي، وتصاحبه ابتداء من الطفولة إلى أن يصبح وشما في جبين التاريخ، وعلامة متحرّكة في الذاكرة الجمعية الوطنية.. فكم هم المشاركون في صنع الأحداث وتغيير الهمم، بيد أنهم يظلون جنودا مجهولين وأسماء بلا عناوين، وعطاء بلا أضواء ، وفواتير بلا دفاتر وبلا تفاصيل، ذلك لأنهم لا يؤمنون بغير الفعل الأرضي، والإنجاز التاريخي المتأِسس على قناعة الذوبان في الواجب الوطني، وتحويله إلى قيمة أخلاقية مع وضوح في الرؤيا، من أجل الوفاء للمبادئ ،الوفاء للأرض والوطن، والعمل في صمت وتواضع بعيدا عن دقّات الطبول، ودون الرغبة في الظهور… فمثل هؤلاء المواطنين لا تخلوا منهم كل الثورات الإنسانية، هؤلاء الناس لهم منطق آخر في نحت التاريخ، ولهم آليات تختلف عما هو معتاد، فهم المتخندقون في روح التضحية والعطاء دون مقابل، والواقفون في خطوط التماس دون انتظار المكافأة ، والمضحّون بدمائهم وأرواحهم دون خوف ودون تردد ودون تخصيب الكلام، مقابل الوفاء للمبادئ التي آمنوا بها، وفاء للعرض والأرض والوطن …هؤلاء الناس قد لا يسمع بهم أحد، قد لا يذكرهم أحد ، قد لا يعرفهم أحد، قد لا يؤرّخهم أحد، وقد لا يكتب عنهم أحد، ذلك لأنهم يزرعون ولا ينتظرون الحصاد، يبذرون ولا يترقبون الجني، يغرسون ولا يقطفون ، ويتحركون دون صخب ولا ضوضاء ضمن دوائر القيم والضمير… هؤلاء الجنود المجهولين وإن لم يكونوا مسجّلين في قوائم أصحاب الأوسمة والنياشين ، إلا أنهم، هم السماد الذي يمنح الأراضي خصوبة العطاء، ويحمي التربة من الإنجرافات ، ويظلون الوقود الذي يدثّر النفوس من حالات الصقيع الانشطارية، ويعقّمها من الإصابات بفيروسات النهب الحضاري، والدرع الواقي الذي يحمي العقول والحقول من هبوب رياح التصحّر والرمال المضطربة…
ومن بين هؤلاء الجنود المجهولين الذين كانت بصماتهم منقوشة على جبين الأرض ولم يطوهم الزمن، نقف هنا أمام علامة من علامات النضال الوطني، عبر تسطير بعض ملامح سيرة علي حمزة
من خلال كتاب ” العبور إلى النور ” ” مذكرات علي حمزة” / من تأليف الأستاذ علي أحمد
الكاتب والمهمة الثقيلة
منذ البدء وعند محاولة قراءة الكتاب، والإبحار بين هذه المذكرات الممتدة في عمق الرحلة، المترامية بين سنوات عمر نهشته الأحداث، ولوّنته الفواجع، وصبغته مسيرة طويلة من المساهمة في الكفاح الوطني، والانخراط في معارك النهوض والاستنهاض والتصدي للمظالم، والتدرّج منذ سنّ الطفولة إلى سن المسؤولية، يكتشف القارئ صعوبة هذا العمل، وضخامة المهمة التي ألقيت على الكاتب علي أحمد، الذي رافق وتتبّع آثار شخصية عادية منذ الطفولة، وواكب نموّها الاجتماعي والفكري والسياسي والنضالي، عبر تسلسل روائي يجمع بسلاسة ودقّة، بين التوثيق والرواية، واقتناص الأحداث وتفعيلها ورسم بيوغرافيا جيومترية للرمز، حتى وإن لم تكن بالمعنى الأكاديمي للكلمة، بل كانت بيوغرافيا ملتحمة بالأرض ومنتسبة إلى الإطار الزمني والمكاني والاجتماعي والسياسي والقيمي، والتوغّل في ثلاثية شعاع الوطن/الأرض/العرض، الذي نشأت فيه الأحداث وتزاحمت تزاحما وتريا، وتراصفت تراصفا، لم يغفل التدرّج في عمق المراحل، التي ساهمت في تشكّل شخصية علي حمزة، وعملية انجذابه من بيئته البسيطة وواقعه الأجدب، وإلى تفعيله تفعيلا إيجابيا ليكون له دورا طلائعيا، في رسم شخصية تساهم من موقعها في معانقة التاريخ، واحتضان الوطن في العقل والوجدان، وحراسته عبر فوهة البندقية وعبر التضحية بالروح والجسد، وتسجيل بعض الشرارات الضوئية، في اتجاه ثالوث الكرامة – الحرية – والمبادئ
ملامح الشخصية
قبل محاولة السباحة بين منعرجات كتاب مذكرات علي حمزة، وعملية تشخيص الهموم المرتبطة عضويا وواقعيا بجملة من الأحداث، التي عصفت ببطل الكتاب والتي تراوحت بين الأسر والسقوط، والاستيقاظ والمشاركة، والاختفاء والمواجهة، والانسحاب، ومحاولات تحرير الرهائن، والتمركز على قمة الأحداث، والكرّ والفر والإرادة في التعلم، والاستفادة والمشاركة في المعارك، والمساهمة في تغيير جغرافية الأحداث… قبل هذا نكتشف بين فواصل الكتاب تمركز الكاتب علي أحمد، من خلال لمسات حسيّة وأخرى انتمائية إلى مدرسة فكرية نضالية تجمع بين القلم والبندقية، بين الساكن والمتحرك بين العقل والفعل، حيث لم يكن الكاتب علي أحمد منفصلا عن الكتاب ومجرد سيناريست بل كان شريكا في الأحداث، متقاسما أمواج الوجع، ولم تكن مشاركته مباشرة بحكم فارق السن، حيث الكاتب وبطل الكتاب من جيلين مختلفين، ولكنهما من نفس المدرسة الحزبية، وكلاهما خاض تجربة ميدانية تختلف عن الآخر في الزمان والمكان الملموس، فرغم أن الكاتب كان متقمّسا دور الراوي الأمين، في ترجمته للأحداث التي بصمت مسيرة علي حمزة، إلا أن البعد الفكري والسياسي كان حاضرا، حيث نكتشف ان الكاتب لم يتناول السيرة الذاتية لعلي حمزة تناولا سرديا بسيطا، بل كان نبها في جعل القارئ يحبّ ويتأثر ببطل القصة، خصوصا وأنه نفض عنه الغبار، وجاء به من عمق الريف، ومن عمق الأميّة ليصاحبه على مدى سنيين طويلة، إلى أن صار شخصية محورية من العيار الثقيل، وبإشارات خافتة يعلمنا الكاتب، أن تحول ذلك الطفل المشرد في شوارع لبنان، وإن كان تحولا عفويا، من قبيل الصدفة إلا أنه وقع احتضانه سياسيا وفكريا، من طرف بعض قيادات الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهنا أيضا يجرّنا الكاتب، من خلال ومضات متسرّبة بلباقة الإنسان العارف بتضاريس وجغرافية الواقع السياسي الحزبي ولحظات نموّه وتصدّعه، الذي نعتقد أنه كان بدوره أجزاء مفتتة في الأبعاد الفلسفية، والفكرية والإنتمائية التي ارتبط بها كما ارتبط بها علي حمزة، ليعلمنا بطرق إيحائية بعيدة عن الخطاب المباشر، عن النبضات المبدئية والدور اللامع، الذي قام به بعض قيادات الحزب السوري القومي الاجتماعي في احتضان علي حمزة، حين كان طفلا معدما لا يجد أين ينام، ولا يعرف الكتابة ولا القراءة، وهنا أيضا يقف في التفاته خافتة ليشعرنا من حيث لا نشعر، ودون أن يكون راكدا في مسلسل الأحداث عن البعد الإنساني، في تعامل هؤلاء القيادات قبل البعد السياسي، وقبل زرع جملة المبادئ التي شكّلت لاحقا عقلية علي حمزة.
فقد جعلوا من علي حمزة بطل قصة الواقع المعاش، الطفل الذي وجب رعايته اجتماعيا، ومحاولة إعطائه حرارة الدفء العائلي، وتدثره برحيق الحنان الذي فقده عندما فقد مزارع أرضه وعائلته، دون التفكير مسبّقا في الاستفادة من هذا العطاء، مما جعل الطفل علي حمزة ينمو في هذا الجو المعبأ بالود والمثل الأخلاقية والتآزر، حيث ليست له قرابة عائلية ولا تربطهم بهم مصالح مادية، فقط هو الرابط الوطني والبيئي واللغوي والانتماء لنفس البلد الواحد، كما أراد الكاتب من خلال بعض السطور الكاتمة للصوت، أن يبرهن على إرادة هؤلاء القيادات في التعامل مع هذا الطفل والصبر الطويل، لمحاولة إعداده ميدانيا، للقيام بدور وطني يتطلب الكثير من الجهد، والتأني في تثوير الوعي لدى هذه الشخصية.
محطات في سنين الرحلة الطويلة
كبر علي حمزة في جو من الحلقات الوطنية التكوينية، وحين كان لا يعرف القراءة والكتابة، اعتمد على طاقة الاستيعاب، واستنفر جهدا أكبر في التركيز على اقتناص آليات المشافهة والخطابة، حتى تعلم البراعة في التعبير الشفاهي، لترجمة مبادئ الحزب المنتمي إليه، وإلى تفعيله ملتحما بالشعور بالمسؤولية، تجاه الوطن وتجاه الحرية في أبعادها، المتجاوزة للجغرافيا السياسية المرتهنة لا فقط بالبنود العامة الذي ينتمي إليها، بل تجاوزت إلى الإيمان بحرية الإنسان في كل مكان، بعيدا عن النظرة المحصورة في الزوايا المربعة.
فقد كانت حياة علي حمزة، متحركة على أرضية أحداث غير ثابتة مع ثبوت وولاء للمبدأ، وكانت مسيرته موزعة بين المساهمة في الثورة والسجن والاختفاء والتفاوض والتواري والمواجهة والمساندة، فقد ظل وفيا لمنطلقاته وفاء الفلاحين لحقولهم، وفاء الطيور لأوكارها، وفاء الغرباء لأوطانهم، فلم يخرج علي حمزة من القصور الشامخة، بل خرج من رحم الوجعية، وانبثق من رحم المعاناة في قريته المنهوبة، التي تعرّضت إلى القهر، خرج من مأساة عائلة عضها الظلم وافترسها الاستبداد… فكانت الأحداث المأساوية التي عاشها في قريته قد ضخّت في شرايين طفولته، روحا مقاومة حوّلته من مواطن عادي إلى مواطن انقلابيي…
علي حمزة من طفل مشرد إلى رمز وطني
لم تكن حياة علي حمزة طيلة مسيرته هادئة، كما لم يكن الواقع الذي نشأ فيه هادئا، بحكم عدة عوامل داخلية وخارجية، كما لم يكن هو ذاك المستكين للراحة، خصوصا وهو الذي يحمل في كيانه هموم شعبه المتعطش للعدل والحرية، فمن خلال مواقفه ومشاركته في صنع الأحداث، ونحت الواقع السياسي ثوريا وميدانيا واجتماعيا، كان يرى نفسه صاحب رسالة وذو مسؤولية جسيمة لا يمكن إلا أن يساهم بدمه وروحه وماله في إجلاء ليل القهر، وفعلا فقد تنقّل بين العديد من المسؤوليات التنفيذية والقيادية والمهمات المستحيلة، وقد تعرّض للسجن، الذي كان بالنسبة له نقلة نوعية حيث احتضن من جديد من طرف بعض كوادر حزبه الذين قابلهم في السجن، ليتعلم على أيديهم القراءة والكتابة واللغات، وبذلك استيقظ مرة أخرى من عالم الأمية، ليصبح متعلما ويضيف عنصرا جديدا لرصيده النضالي، وقدرته الخطابية وقدرته الميدانية، فيتعزز بذلك موقعه أكثر على مسرح الأحداث.
وهذه التقلبات التي عصفت بحياة علي حمزة، تلازمه حتى في حياته الخاصة، حيث كثيرا ما ينجح في بعث مشاريع اقتصادية باهرة، ثم تعتري هذه المشاريع السقوط بفعل عوامل سياسية، ليعود معدما كما كان ثم لا يستسلم، ويعود للبناء من جديد ضمن أطر ومشاريع أخرى، وهنا تبرز إرادة المقاومة عند علي حمزة الذي لا يستكين للإحباط، ويتواصل الصراع، كصراع صخرة سيزيف..
ويظل علي حمزة رغم الهزات والزوابع، واقفا بنظراته النافثة وشاربه المتوثب على كل مظاهر الضيم والظلم والذل…
الفواصل والسكون
1 / مع المرور بين منعرجات الكتاب والوقوف في بعض المفترقات في يوميات الكتاب، نكتشف أن الكاتب علي أحمد، كان متأثرا تأثرا أخلاقيا بشخصية علي حمزة، ومنتبها في التقاط كل الذبذبات الحسّية والوصفيّة، التي تفرزها حالات الصعود والنزول، التي عاشها بطل الرواية وتسريب بعض طروحات الحزب السوري القومي الاجتماعي وإدغام المبادئ في هذه الشخصية، وتمرير العديد من الأفكار لمحاولة الاستقطاب…
ولئن كان الكاتب علي أحمد قد نجح في نزع الغبار عن العطاء الوطني لعلي حمزة، فإنه أيضا نجح في نشر منطلقات الحزب السوري القومي الاجتماعي، وجعل القارئ يقترب من أفكار هذا الحزب ومعرفة تصوراته، وملامسة بعض المبادئ العامة والجلوس وجها لوجه أمام بعض مقولات ونصوص أنطون سعادة، مؤسس هذه المدرسة والتعرّف ولو بإيجاز على الخيارات والمناهج.
2 / قد تكون تراكم الأحداث وتشعبّها في حياة علي حمزة، هي التي جعلت الكاتب يعتني بالشخصية ويتابع أخبارها ميدانيا وعمليا، متغافلا بعض الشيء عن التيارات الأخرى والعائلات السياسية التي كانت تحيط بالمساحة التي يتحرّك فيها علي حمزة، حيث كما نعرف لبنان لم يكن ذو لون واحد، بل فيه فسيفساء حزبية وأيديولوجية وسياسية وعقائدية، وهنا نرى الكاتب كان مناصرا من خلال كاميرا القلم التي تتابع وتابعت باهتمام كل التحركات العسكرية لعلي حمزة، وبالمقابل فإنه لم يهتم كثيرا بمساهمة الآخرين في الأحداث وتركهم على حدود الخط الدائري لمنصّة الفعل، لقد اجتهد ولكنه لم يجتهد كثيرا، في تفتيت كل الأسوار المحيطة بالمراحل الزمنية والسياسية التي نشأت فيها القصة، رغم أنه تناولها ولكن كان حسب تصورنا تناولا برقيا لا يمكّن القارئ من الإلمام بكل خبايا الأحداث.
3 / مرة أخرى يذوب الكاتب في الواقع اللبناني، ويغرق في خصوصيات الرصيف اللبناني المتنوع، معتمدا على فلبنانيتهف ومعرفته بواقع بلده، دون أن ينتبه إلى القارئ من خارج الحدود اللبنانية الذي لا يدرك كثيرا تشكّل ذهنيات مثل هذا الواقع، وتضاريسه السياسية المتداخلة، وتشابك خصوصياته وتنوع أحزابه، وتزاحم صراعاته وتغير ولاءاته…
4 / لا ندري لماذا مثل هذه الشخصية، شخصية علي حمزة التي ساهمت في تجسيد جزء من مبادئ الحزب على الأرض، لم تأخذ حظها في أدبيات الحزب وظلت أسيرة كتاب يتيم، لم يقع إعادة طباعته ولا تفعليه دراسيّا، رغم أن الكاتب علي أحمد لم يكن روائيا فقط، بل كان تقنيا وسياسيا ومؤرخا استطاع أن يصطحب علي حمزة إلى ساحات المعركة، ليرصد ويترجم كل الانفعالات الحسيّة والتاريخية والاجتماعية والإيديولوجية، وتأريخ الأحداث من أوجه متعددة، مع إفادة القارئ بالتواريخ والأسماء، وكل اللذين ثبتوا على المبادئ، واللذين غيّروا جلودهم سواء حقيقة أو مناورة، بحكم فقههم للواقع الذي يتحركون فيه.
4- لم يكن الكتاب في رأينا مجرد مذكرات عادية حدثيه ميّته يمكن طيها بمرور الزمن، بل هي وثيقة تاريخية غائصة في عمق التاريخ، تترجم بوعي الإطار الزمني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإيديولوجي، لمرحلة من مراحل الحزب السوري القومي الاجتماعي، بكل تجاذبته وتصدعاته وتداعياته وانتصاراته وانحصاراته، لتبقى علامة في رفّ الذاكرة الوطنية ومحفورة في الوجدان الشعبي، وضمن الارتباط التطبيقي بين الفكر والممارسة.
5 / من المحزن أن شخصية مثل علي حمزة، الذي جسّد حضوريا وميدانيا بناء العلاقة بين القول والفعل، من خلال توزّعه وانتشاره دون تحفظ، وتخندقه منذ شبابه في كل المعارك التي عصفت ببلده، ومشاركته الإيجابية في المساهمة في جعل منطلقات الحزب السوري القومي الاجتماعي تتمازج بالتربة، وتغوص في ثراء الأرض، حيث كان في كل خطواته يتحرّك ويسير ضمن إيمانه العميق بقيم ومبادئ الحزب الذي آمن بتصوراته، واستمد منه قوته، واستند إلى مرجعيته في محنته، وعبر كل مسيرته تبقى رهينة النسيان…!
من خلال هذا التوصيف تحت سطح العمودي والأفقي، ومن خلال العلاقة غير الالغائية، ما بين النص وما بين الحمم الانفعالية، المنسكبة بحرارة المذكرات عبر النص المحموم والانقلابي في مجمله، ضدّ تغييب شخصية علي حمزة سهوا أو عمدا من أعمدة التاريخ، يجعلنا نتساءل مرة أخرى، وهذه المرة بكثير من الغبن هل
التاريخ هو فقط حكر على الأموات دون الأحياء؟؟؟…
* صحفي وكاتب
iThere are no comments
Add yours