من المسائل الأساسية المطروحة بين العلماء، وخصوصاً في القرن الأخير هي مسألة الجبر والاختيار الفردي في قبال مقتضيات المجتمع، وبعبارة أخرى اختيار الروح الفردية وجبرها في قبال الروح الجماعية.
فإذا التزمنا بالنظرية الأولى في مبحث تركيب المجتمع، وقلنا بأنه تركيب اعتباري محض، وأن الأصيل هو الفرد لم يكن مجال لتوهم الجبر الاجتماعي، إذ ليست هناك قدرة وقوة سوى قدرة الفرد وقوته، ونكون بذلك قد أنكرنا قوة المجتمع وقدرته فلا يتوهم له سلطان على الفرد، فإذا تحقق جبر عليه كان من فرد أو أفراد آخرين لا من قبل المجتمع كما يقوله القائلون بالجبر الاجتماعي.
كما أنه إذا التزمنا بالنظرية الرابعة، وقلنا بان الفرد من حيث الشخصية الإنسانية مادة صرفة وكالإناء الفارغ مجرد استعداد وقابلية، وأن شخصية الفرد الإنسانية وعقله الفردي وإرادته الفردية التي هي أساس اختياره إنما هي شعاع من العقل الاجتماعي والإرادة الاجتماعية، وأن الإرادة الفردية إغراء من الروح الجماعية تبرز في الفرد لوصول المجتمع إلى مقاصد الاجتماعية. والخلاصة إذا قلنا بأصالة المجتمع محضاً لم يكن مجال لتوهم الحرية الفردية والاختيار الفردي في الأمور الاجتماعية.
يقول (آميل دور كايم) العالم الاجتماعي الفرنسي الذي يعتقد بهذه النظرية: (أن الأمور الاجتماعية أو (بتعبير أحسن) الأمور الإنسانية في قبال الأكل والنوم أو غيرهما مما يتعلق بالجهة الحيوانية في الإنسان ـ من مكتسبات المجتمع دون الفرد وإرادة الفرد. ولها ثلاث مميزات: 1ـ أنها خارجة عن ذات الفرد ـ 2ـ أنها جبرية ـ 3ـ أنها عامة. وإنما تعد خارجة عن ذات الفرد لأنها تصدر من المجتمع ويتقبلها الفرد، وهي موجودة في المجتمع قبل وجوده، وإنما يقبلها تحت تأثير المجتمع كالآداب والتقاليد الخلقية والاجتماعية والدين ونظائرها. وتعدّ جبرية لأن الفرد مقهور في قبولها ويتربى الوجدان الفردي وفكره وإحساسه وعواطفه حسب ما تقتضيه هذه الأمور. وجبريتها تستلزم عموميتها أيضاً).
وأما إذا التزمنا بالنظرية الثالثة، وقلنا بأصالة الفرد والمجتمع معاً فالمجتمع وأن كان له قدرة غالبة على قدرة الفرد، إلا أن ذلك لا يستلزم جبر الفرد في الأمور الاجتماعية الإنسانية. فالجبر الذي يقول به (دور كايم) إنما يقول به غفلة عن أصالة الفطرة في الإنسان الناشئة من تكامل الإنسان بجوهره في الطبيعة. وهذه الفطرة تمنح الإنسان نوعاً من الحرية والتمكن على العصيان أمام مقتضيات المجتمع. ومن هنا نقول أن علاقة الفرد بالمجتمع يتحكم فيها نوع من الأمر بين الأمرين.
والقرآن الكريم بينما يقول باستقلال المجتمع في طبيعته وشخصيته وعينيته وقدرته وحياته وموته واجله ووجدانه وطاعته وعصيانه، يصرّح أيضاً بأن الفرد قادر على العصيان أمام مقتضيات المجتمع. ويستند القرآن في ذلك إلى (فطرة الله). وقد ورد في سورة النساء آية/ 97 أن قوماً يعتذرون عن عدم قيامهم بمسؤولياتهم الفطرية بكونهم مستضعفين في مجتمعهم (المجتمع المكي)، وفي الواقع يريدون أن يتعذروا عن ذلك بكونهم مجبرين أمام مقتضيات المجتمع، فلا يقبل منهم هذا العذر، إذ كان بإمكانهم على أقل تقدير أن يهاجروا، ويتركوا ذلك الجو الاجتماعي الفاسد إلى مجتمع صالح.
وقال تعالى في سورة المائدة/ 105: (يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذ اهتديتم) والمراد أن ضلال الآخرين لا يجبركم على الضلالة إذا كنتم مهتدين.
وقال تعالى في آية الذّر التي وردت إشارة إلى الفطرة الإنسانية بعد أن أشار إلى أخذ العهد من الناس على توحيد الرب، وإيداع هذا العهد في فطرة الإنسان قال: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم …) (سورة الأعراف/ 173). فأشار إلى أن الفطرة تمنع من دعوى الجبر والإلجاء في اتباع سنن الآباء.
والتعاليم القرآنية كلها مبتنية على مسؤولية الإنسان بالنسبة إلى نفسه وإلى مجتمعه. والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر قرار يحكم بطغيان الفرد على الفساد الاجتماعي، وأكثر القصص والوقائع المذكورة في القرآن تتضمن طغيان الفرد وثورته على مجتمعه والجو الفاسد الاجتماعي، كقصة نوح (ع) وإبراهيم (ع) وموسى (ع) وعيسى (ع) والرسول الأكرم (ص) وأصحاب الكهف ومؤمن آل فرعون وغيرهم.
وأساس توهم الجبر للفرد أمام المجتمع والجو الاجتماعي هو توهم أن مقتضى التركيب الحقيقي اندماج الأجزاء بعضها في بعض، وانحلال كثرتها في وحدة الكل وحدوث حقيقة جديدة، فإما أن نلتزم باستقلال الفرد وكرامته وحريته، ونرفض التركيب الحقيقي للمجتمع ووجوده العيني، كما هو مقتضى النظريتين الأولى والثانية في بحث أصالة الفرد أو المجتمع، وأما أن نلتزم بالتركيب الحقيقي للمجتمع ووجوده العيني، فنرفض استقلا الفرد وكرامته وحريته كما تستوجبه نظرية (دور كايم). والجمع بين هذين الأمرين غير ممكن وحيث أن الأدلة والشواهد في علم الاجتماع تؤيد واقعية المجتمع فلابد من رفض ما ينافيه.
والواقع أن المركبات الحقيقية تختلف من وجهة النظر الفلسفية، ففي المراتب السفلى من الطبيعة، أي في الجمادات والموجودات غير الحية التي يحكم في كل منها نوع واحد من القوى البسيطة المحضة، تعمل على وتيرة واحدة (حسب المصطلح والتعبير الفلسفي) تندمج الأجزاء والقوى بعضها في بعض اندماجاً كلياً، وينحل وجودها تماماً في وجود الكل، كما في تركيب الماء من الأوكسجين والهيدروجين. ولكن كلما كان التركيب في مستوى أعلى اكتسبت الأجزاء استقلالاً نسبياً أكثر بالنسبة إلى الكل، وتحقق نوع من الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة. فنجد في الإنسان ـ مثلاً ـ أن القوى التابعة له لا تكتفي بالاحتفاظ على كثرتها فحسب، بل نجد بين القوى الداخلية له تضاداً وتعارضاً دائمياً. والمجتمع أرقى موجودات الطبيعة ولذلك فاستقلال الأجزاء نسبياً فيه اكثر من غيره.
إذن فالإنسان (وهو الجزء الذي يتركب منه المجتمع) حيث أنه يتمتع بعقله وأرادته الفطرية في وجوده الفردي والطبيعي قبل وجوده الاجتماعي، وحيث أن الاستقلال النسبي للأجزاء في المراتب الراقية من الطبيعة محفوظة (فالإنسان) أي روحه الفردية غير مجبر وغير مسلوب الاختيار تجاه الروح الجماعية.
……………………………
المصدر: المجتمع والتاريخ.
iThere are no comments
Add yours