مصير حداثة الوطن العربي بين تجميعيّة وعلمانيّة؟
كل ما يقوله هشام جعيّط يثير الجدل في صفوف المثقّفين ويثير أحيانا أخري زعزعة لدي الكثير، فمن الشخصية العربيّة الإسلامية والمصير العربي المشترك إلي أزمة الثقافة الإسلامية امتدّ فكر هذا الرجل بين المراجعة والتأصيل وما زال يتواصل. لذلك رأينا، علي الرغم من عسر المهمّة، أن لايمرّ هذا الفكر دون مجادلته في أعمق إشكالياته عبر محاورة مفكره، وكان اللـقـاء مع هشـام جعـيّط عبـر السـؤال :
طرحت في كتابك الأخير أزمة الثقافة الإسلاميّة مسألة الأزمة، فهل تعني بذلك أزمة الثقافة في العالم الإسلامي أم أنّ العالم الإسلامي أصلا متأزّم ثقافيا؟ وما مقوّمات هذه الأزمة؟
ــ إن المقصود في هذا المجال ليس أزمة الثقافة الإسلامية وانّما أزمة الثقافة في العالم الإسلامي وبالأساس في العالم العربي, كما أنّـي لم أقصد أنّ العالم الإسلامي في أصله متأزّم، إذ أنّ الثقافة العربيّة الإسلامية الراهنة في حالة أزمة ومفهوم الثقافة هنا واسع، إذ لا يعني فقط الإنتاج الثقافي المتعارف عليه بل تعني أيضا كلّ جوانبها بما في ذلك السياسي والفكري ومسألة العلاقة مع التراث ومع الحداثة. وفي رأيي فانّ أصل الأزمة هو امتناع العالم الإسلامي عن التحوّل في الرؤية إلي العالم الحديث ونحو الحداثة بما تعنيه الحداثة هنا باعتبارها منظومة قيم وليس التكنولوجي فقط. وبالتالي تكون الثقافة أساس لكلّ تحوّل. فالعالم الإسلامي من هذه الوجهة لم يكن ضمن هذا التحوّل ولم يقم بالتحوّل الثقافي الذي يؤهّله للحداثة.
وإنّ هذا التحوّل ينتشر صلب منظومة قيم مرتكزة علي الإنسان وعلي الإنسان عامة في كرامته، في حرّيته وهو القيمة العليا، وهذا ما يمكن اعتباره بالامتناع عن التحوّل، هو ما يجعل من العالم الإسلامي عالماً غير ديمقراطي وغير متأهّل للقيام بكلّ ما هو مرتبط بحرّية الإنسان في العادي وأيضا في السياسي, وغير متأهّل بأن يعطي للإنسان حريّة معتقده وهو مانجده في بعض البلدان العربيّة التي تنزع إلي إجبار الإنسان العربي علي هذه الإيديولوجيا أو تلك.
من يتحمّل مسؤولية هذا التحوّل؟
ــ ان المسؤولية ملقاة علي عاتق كل النخب من رجل السياسة ورجل الاقتصاد الي المثقف وحتي الجمهور بأقل درجة فالجمهور ينقاد الي قادته، والدور الكبير في هذا المجال لرجل السياسة الذي من المفروض أن تكون له أفكار وآراء لا تأتي الا من المفكرين سواء في بلاده أم من الخارج ودور المثقف أن يعطي مسحة محلية للوافد من الخارج ويعطيه طابعه الوطني أو القومي، بأنه لا بد من تدبر المستجلبات الفكرية من الخارج في المناخ العربي المسلم.
أي قراءة يفترضها النص الأصلي
ان ما تسميه بالثقافة الاسلامية يجد مرتكزه في النص الأصلي، فهل نقرأ هذا النص وفقا لما تقتضيه الحداثة أم نقرأه كما هو؟ وهل ان الأحداث التاريخية أو ما نسميه التراكم التاريخي في العالم الاسلامي لم يستوعبها هذا النص أم أننا لم نستطع اخراجها منه؟
ــ هناك عناصر لا توجد تماما في النص أو يجب تأويلها واستخلاصها منه وأيضا هناك قصور في تأويل هذا النص، فالاثنان معا.
فمثلا اذا تناولنا مسألة الأخلاقية القرآنية فهي أخلاق رفيعة ومع ذلك نجد من لا يهمهم في القرآن الا قوانين الجزاء ولا يقبلون بهذه الأخلاقية، اذا من الضروري أن يقرأ القرآن من قبل المثقفين المسلمين، فهو كنص ديني مقدس يجد مرتكزه علي الشخصية الالهية من ناحية وعلي قيمة الانسان من ناحية أخري. ويعتبر هذا النص أن تاريخ الكون من بعد خلقه، محوره الأساسي هو العلاقة بين الله والانسان وليس بين الله والطبيعة اذ يعتقد النص أن الطبيعة راضخة للأوامر الالهية وهي مستقرة.
بقي أن هذا النص له أبعاد دينية عميقة وعديد الأبعاد الأخري، فهو اذاً نص ثري لا يمكن فقط قصره علي ما ينفعنا وما لا ينفعنا وله قيمة في تحديد الفكر كما له قيمة في حد ذاته في جميع الجوانب، اذ لايجب أن يكون استقراء القرآن استقراء تعسفيا مثل أن يعتبر البعض أن القرآن مرجعا لكل العلوم الفيزيقية فهذا في الحقيقة أمر خاطئ، انه كتاب روحاني وليس كتاب علم أو سياسة، فهو ليس بكتاب سياسي وان كانت فيه بعض الأساليب السياسية مثل الشوري.
لانه لا يطرح مثلا التنظيمات السياسية وانما يذكر فقط أسسا أخلاقية مثل استبعاد الظلم ومفهوم الحق والعدل… بمعني مفاهيم عامة لا غير، أما ان نقرأه قراءة سياسية فهذا تعسف علي القرآن.
بقيت نقطة دقيقة متعلقة بالنص القرآني لابد من اثارتها وهي كون هذا النص باعتباره نصا الاهيا يكون بالتالي الاعتقاد في ألوهيته كونه وحيا، هو ما يجعل المسلم مسلما فانه في رأي سيأتي اليوم الذي يعتبر فيه المسلمون أن هذا النص الموحي به لن يربطنا في كل شيء بمعني أن توجد أمور لا ينص عليها النص وليست من القرآني في شييء ومع ذلك نعمل بها. فنحن سنكون بين النص والمصلحة العامة وحتما سنختار الثانية أي أننا ندين بالنص القرآني كنص مقدس وعلي الرغم من ذلك لا يمكن أن نحبس أنفسنا فيه أو في الحديث النبوي، فهذه أمور تدخل ضمن مجري التاريخ، اذ أغلب القوانين ليست مستوحاة من القرآن بل ان قسما منها قوانين جارية في الطبيعة… فهي مشكلة دقيقة لانها تنسف الي حد ما المعتقد وفي النهاية لا أدري هل سننتفع بحداثة علمانية كما حصل في أوروبا أم أنه سيكون أمراً تجميعياً بين أبعاد متعددة، روحية ودنيوية، وهذا لا يمكن للمفكر أن يقول فيه قوله، اذ التطور التاريخي وحده الذي يمتلك الكلمة الحاسمة، والأقرب في رأيي وحسب تاريخ الحضارات الأخري فان الانسان سيبتعد في المستقبل أكثر فأكثر عن الأديان الروحية.. وهذا ما حصل مثلا في خصوص المسيحية والبوذية ولم يبق سوي قطبان في العالم الحديث هما الاسلام باعتباره ديناً عالمياً ليس منحبسا علي شعب معين ثم الهندوسية وهي ديانة قديمة جدا مازال تأثيرها كبيرا.
ومع ذلك فان ما نلاحظه اليوم أن هناك يقظة اسلامية قوية تصل الي درجة الحرب الأهلية وهو ما تسمي بالاسلامية الأصولية ما هي الا ردّة فعل علي الشعور المضمر أو الواضح بأن مصير الاسلام في تدهور وهذا في الحقيقة مأساة، مأساة المؤمن ومأساة المسلم في فترة التحولات، ولكني أعتقد أن ساسة العالم الاسلامي اليوم يتخذون سبيلا متزنا ومقبولا ومعقولا بينما عدد كبير من المثقفين العلمانيين يجبّون الاسلام وهو حق من حقوقهم ولكنهم لا يهتمون كما يجب بالتراث الديني الضخم علي الأقل كتراث واعتقادي ان الدين مفترض فيه أن يبقي كمعتقد الي فترة طويلة وأن يتحول أيضا إلي تراث يدرس أو تاريخ، إنما من الواضح أن اعتبار الدين كإيمان واعتباره كتراث أو تاريخ ليس الشيء تماما نفسه.
لماذا لم يفرز ما يمكن أن نسميه التراكم التاريخي أرضية مناسبة لنهضة العالم العربي والإسلامي وهل له علاقة بواقع هذه الأزمة؟
ــ إن للتراكم التاريخي دلالات كبيرة سواء النظم السياسية أو تركيبة المجتمع وحتي التركيبة العسكرية والاقليمية… وأما النقطة الثانية فمفهوم النهضة أو الثقافة ماهو إلا جزء فقط من هذا التطور التاريخي فهو أوسع بكثير، ثم من قال لك أن التطور التاريخي يفرز النهضة بالعكس فالقطيعة التاريخية هي التي افرزت الحداثة لدي الغرب. وفي العالم العربي فإن مسألة التراكم هي التي جعلته في هذا الوضع المتأزم.
فنحن نعتقد دائما بأننا تأخرنا وأن الغرب تقدم وهذا سؤال خاطئ.
فالغرب قام ابتداء من القرن السادس عشر بتحولات داخلية ضخمة، في بعض الأحيان عن غير قصد، قامت بتكوين ثورة علمية تشمل التحول في مجال السياسة والاقتصاد كما إبداع الرأسمالية إضافة إلي الثورة الصناعية والثورات السياسية و أيضا لا ننسي القوة العسكرية التي جعلت الغرب يسيطر في آخر القرن 19 علي كل المعمورة.
وإن هذا الأمر لا يعني أن حضارة معينة تغلبت علي باقي الحضارات الأخري، فالأمر مرتبط بوقوع تحولات تاريخية تتجاوز الحضارات والرقاع الحضارية في نقطة معينة هي بالذات أوروبا الغربية ولأسباب معينة. إذن سؤال لماذا تقدم غيرنا في حين تأخرنا نحن سؤال مغلوط لأن المسألة تطرح علي النطاق العالمي، إذا أننا كعرب لم نكن في نفس ندية أوروبا إذ في فترة نهوض أوروبا كانت هناك الصين والهند وحتي روسيا… كما هناك رقع انسانية لم تعرف إلا البؤس مثل افريقيا، وكذلك البلدان العربية التي كانت خاضعة للسلطان العثماني. فالعملية إذن عملية إتيان حديثة لا تدخل ضمن جدلية الأنا والآخر بل تدخل في نطاق جدلية ضخمة وهي جدلية انسانية.
وعموما فالعالم العربي منذ خمسين أو ستين سنة يعيش حالة نهضة علي الرغم من المصاعب التي تواجهه.
ما يمكن ملاحظته أنك بدأت أبحاثك بالفترة الاسلامية الأولي منذ صدر الاسلام، ولاحظنا أن هناك تدرجاً تاريخياً نحو السياسي الراهن والأزمة الراهنة، فهل هي عملية لرصد جذور هذه الأزمة أم بحث عن منهج تاريخي لكشف هذا الراهن وتجاوز تلك الأزمة؟
ــ في الحقيقة هناك اتجاهان كبيران في أعمالي، الأول تاريخي أكاديمي مدقق يهتم بصدر الاسلام والإسلام الأول سواء في المغرب، إذ كتبت مقالات مبعثرة في المجلات وهي الآن بصدد الجمع، أو أساسا عن المشرق الذي هو قلب العروبة والإسلام. فأنا أعير البحث العلمي أهمية كبري خلافا لكثير من المثقفين عندنا والذين يهتمون أكثر بالعموميات وبما هو سياسي آني ولا يهتمون كثيرا بالمعرفة، خلافا للغربيين.
أما الاتجاه الثاني فهو ذاتي لكنه فكري عام يهتم بالعالم الاسلامي الحديث ويدرس هموم هذا العالم التي هي هموم الوطن العربي الكبير، ويعطي حلولا في بعض الاحيان لبعض القضايا ولكن هذه الحلول تبقي فكرية وليست سياسية كما هو الشأن لدي رجال السياسة.
فأنا عندما أكتب في العلم فإنني أكتب بصفة دقيقة وموضوعية ولا أكتب بما هو إيديولوجي، وحتي كتاباتي الأولي فهي ليست إيديولوجية بل هي نوع من استقطاب العلوم الانسانية وفكر فلسفة التاريخ وجدل معها حول حاضر ومستقبل الوطن العربي.
لا وجود لإمكانيات أخري غير الحداثة
تحدثنا عن الحداثة وامكانية حداثة الوطن العربي، هل أن الحداثة التي حصلت، علي الرغم من كونيتها، في جغرافية أوروبية، الإمكان الوحيد أم أن هناك امكانيات أخري غيرها؟
ــ أنا لا أعتقد أن هناك امكانيات أخري، فهي الإمكانية الوحيدة لأنها تركيبة عامة تطال تقريبا جميع أنشطة الانسان فلقد تسربت إلي قسم كبير من العالم، إذ لا وجود لخيار آخر، إنما هناك فروق في الآتي من الماضي أو من الجغرافيا في استيعاب هذه الحداثة حتي في العالم الغربي، فالحداثة في الأسس موجودة في كل العالم الغربي ولكنها كتركيبة عامة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة… ولكنها ليست هي نفسها في فرنسا أو إيطاليا أو الولايات المتحدة وفي اسكندينافيا، إذ ثمة خصوصيات صلب هذه الحداثة ذاتها.
لقد قلت في أحد حواراتك بأن المعني العميق للديمقراطية هو أن الانسان همجي بالطبع وأن الشعوب بطبعها همجية وبربرية والعملية الديمقراطية تدمجها في عمل حضاري أليس هذا تأثر بفلاسفة الأنوار وتحديدا مفكري العقد الاجتماعي الذين يعتبرون أن هذه المرحلة الطبيعية ماهي إلا مرحلة افتراضية تطلبتها اجراءات البحث: باستثناء روسو الذي حددها علي أنها الفترة الاقطاعية؟
ــ لا أذكر أني قلت مثل هذا الكلام إذ أنني لا أستعمل كلمة همجية أما في ما يتعلق بهذه الاشكالية فإن الديمقراطية تختلف بين لحظاتها الكلاسيكية والأخري الحديثة. إذ أن الإنسان البدائي كان له نظام نصف ديمقراطي ونصف ارستقراطي علي الأرجح ولكن الحضارة عندما أتت كانت في تنسيق جهود البشر من أجل السيطرة علي الطبيعة لضمان الأمن الفردي والجماعي للقبائل والشعوب، وفي ضمان المعيشة أساسا، وهذا ما لم يكن موجودا في ما قبل الحضارة أي ما قبل الفتر;ة التاريخية، في سومر مثلا وحتي في ما قبلها… إنما الحضارة أتت بالخير من وجهة تضمين المعيش، ولكن من ناحية أخري فلقد فرضت علي البشر مثلا الشغل أو العمل الذي لم يكن محبذا لدي الإنسان، فمثلا لدي المصريين القدامي الذين بنو الأهرامات علي الرغم من كونه عملاً إجبارياً لفترة معينة كل سنة، فلقد كان في الوقت نفسه غير محبب ولكن لم يكن مكروها حيث كانت هناك ألفة في بناء الأهرام وكيفية بنائها، كانت هناك ألفة وعمل جماعي عكس ما قيل بأنه عمل اجباري استبعادي فيه جبروت وقوة.
إنما الأساس أن الحضارة التي في أصلها زراعية خلقت ضرورات وقيودا علي البشر كان لا بد منها لأنها هي التي جعلت البشرية تنمو وتعيش وتتمايز أيضا من الناحية الاجتماعية، إذ هناك معشر السعداء كما هناك معشر الأشقياء وهذا الأمر جار إلي اليوم وموجود حتي في تركيبة الحداثة ولكنه بأقل حدة علي الرغم من أنها أتت بصعوبات لم تكن موجودة من قبل.
نيتشه.. فرويد.. وتأسيس اللاعقلاني صلب العقلاني
إن أبرز ما بشرت به الحداثة هو العقلانية وعقلنة نمط الإنتاج… لكن الإشكال أنه وأثناء هذه الحداثة التي نجدها جغرافيا في أوروبا في أصلها نجد من يؤسس للاعقلاني مثل نيتشه وفرويد. ألا تعتبر أن ذلك تجاوز للمنطق الذي أتت به الحداثة من داخلها؟
ــ في الحقيقة هذا إشكال كبير، وأنا لا أعتبر ذلك تجاوزا إنما ردّة فعل علي جفاف العقلانية وغطرستها، وأنت تكلمت علي نيتشه الذي كانت معه المدرسة الرومنطيقية التي كان لها دور أكبر في الأدب وكذلك عديد التيارات في أواخر القرن 19 سواء في الرسم أو الأدب مثل السريالية. لكن يمكن أن نقول أنه في ردود الأفعال هذه تقوية للعقلانية ذاتها، إذ استوعبت العقلانية اللاعقل وتفتحت علي آفاق أخري منها ماهو لا عقلي فمثلا المدرسة التحليلية مع فرويد كانت عقلانية مستوحاة من الانوار وعصر التنوير ومع ذلك فلقد اكتشفت أن الإنسان في الحقيقة ليس عقلا وأن به قوي حيوانية قوية جدا حيث اكتشفت اللاعقلي في الإنسان ولكن بطريق العقلانية فالعقلاني يستجلي اللاعقلاني ويكشفه.
غير أن هذه العقلانية، عقلانية في كل ماهو راق في الإنتاج الإنساني يعني في العلم وهو أهم ما أنتجت الحداثة وأعني بالعلم هنا علم الطبيعة ثم الفلسفة والعلوم الإنسانية ثم الإنتاج الصناعي في أواخر القرن 19. وباستثناء العلم فالعقلانية تقيّد الإنسان إلي حد كبير، إذ العمل الصناعي أشد وطأة من العمل الإجباري القديم في الحضارة الزراعية، إنها عقلانية ولكنها استعبادية في الصناعة، وهذا ما نجده في القرن 19.
في اللحظات الأولي للعقلانية نجد ما قاله ديكارت أنا أفكر فأنا موجود حيث أرجع العالم إلي هذه الأنا الواعية، ولكن ألا تري أن هذه الأنا أصبحت في ما بعد مركزية فحاولت بذلك نفي الآخر وبالتالي أنتجت، برغم انتاجها لقيم مثل العدالة والحرية والمساواة… أنتجت أيضا نفيا وازدراء للآخر وهو ما تجلي لاحقا في الحركات الاستعمارية، وبالتالي الا تري أن من يبرر كل ما أتت به الحداثة إنما يبرر الوجه الآخر الذي يمكن أن نسميه وجه الجريمة في الحداثة؟
ــ أنا لا أعتقد بذلك إذ في رأيي لا علاقة لديكارت بحركات الاستعمار فديكارت عاش في النصف الأول من القرن 16 والاستعمار كان في آخر القرن 19، إذ العقلانية الديكارتية إنما هي رافد مؤسس للعقلانية العلمية فقط وليست مؤسسة لكل تطور الحداثة الأوروبية وبالأساس لا علاقة للعقلانية الفلسفية والعلمية وحتي العلم بالثورة الصناعية، فالثورة الصناعية عندما قامت في بريطانيا في اواخر القرن 18 لم تكن لها أية علاقة مع العلم إنما المسألة كانت مرتبطة بحركة توسع لرؤوس أموال صغيرة وضعيفة بيد تجار وصناعيين صغار في الأول ثم استفحلوا.
أما عن الديكارتية فأنا لا أظن أنها لعبت دورا كبيرا في الأول بل كانت أساسا، ولكنها كفلسفة فقد تم تجاوزها لاحقا في القرن 17 نفسه من قبل لايبنتنز ثم بعد ذلك (كانت)…
إن الإستعمار وقع في القرن 19 لوجود أسواق مفتوحة للتجارة والصناعة إضافة لما يقوم به العسكريون والساسة الذين لم يكونوا دائما متفقين مع الحركة الاستعمارية، إنما يقوم بها أساسا أصحاب رأس المال، ولا علاقة لديكارت بهم.
دور البرجوازية في الحداثة؟
ألا نعتبر أن مفكري عصر الانوار كان لهم دور في إقلاع المجتمع الأوروبي في اتجاه العصر الحديث، حيث كان المثقف آنذاك له الجرأة في نقد ماهو سائد وبالتالي التأسيس للحداثة لأنه كان محميا وله درع تمثله الطبقة الناشئة آنذاك وهي البورجوازية في حين أن الوطن العربي لم تتشكل فيه الطبقة البورجوازية التي يمكن ان تحمي ذلك المفكر حتي يتمكن من الدفاع عن مقولاته وشعارات واقعه بحيث يمكنه تجاوز الراهن والتأسيس لحداثته؟
ــ لقد قلنا ان العالم العربي، اثناء فترة تكون الحداثة كان في حالة ضعف ووهن ولم تعد له المركزية منذ زمن بعيد وإنما كان تابعا، لذلك لا يجوز أن نتكلم عن فترة عربية في تلك المرحلة، فالجزيرة العربية في القرن 19 وعام 1850 رجع أهلها الي حياة نصف بدائية ، ومع ذلك فإن هذه الحياة نصف البدائية كانت مريحة للإنسان آنذاك علي الرغم من صعوبة المناخ ولكن لا ننسي أنه ومنذ سنة 1516 إلي ما بعد 1900 كانت المنطقة العربية خاضعة وغير قادرة حتي علي استكمال مسارها القديم التقليدي في الوقت الذي استطاع فيه الفرس ذلك.
صحيح أن أوروبا كانت ضعيفة في القرون الوسطي أمام العالم الإسلامي، وذلك إلي حدود 1700، ولكن بعد ذلك تمكنت أوروبا وبسرعة فائقة من القوة في كل المجالات وحتي من الناحية العسكرية. وفي ما يتعلق بالممالك التي كان لها شأن في القرن 18 فلقد كانت المملكة العثمانية، مركزيتها الاتراك والعرب ماهم إلا أتباع، ثم نجد المملكة الفارسية وأيضا المملكة التيمورية في الهند. بحيث لا يجوز الحديث عن نوع من الموازاة بين العالم الذي نسميه الآن عربياً وبين أوروبا. إذ لم يكن موجودا هذا العالم الذي نسميه عربيا أثناء لحظات الحداثة، فقط كان وجوده يقتصر علي ما هو ديني وما هو لغوي ولا غير مقابل تبعيته للسلطان العثماني بحيث لا مجال للمقارنة بين كل العالم الإسلامي في القرن 19 بما في ذلك السلطة العثمانية، وحتي الصين وبين ما وصلت إليه أوروبا في النصف الثاني من القرن 19 فقط أوروبا كانت في لحظة ما ضحية نفسها من خلال حروبها الداخلية.
وإن ما نسميه اليوم تقدما أوروبيا في إفراز الحداثة يتجاوز مصير هذه الرقعة الجغرافية التي تسمي أوروبا، فهو إنقلاب في مصير الإنسانية شبيه بما قام به الإنسان الشرق أوسطي عندما أبدع الحضارة من خلال الزراعة وتدجين الحيوان وإبداع القري والتجمعات… ثم في التطورات الأخيرة الدولة والمعابد والاديان، بحيث أتي هذا التطور في رقعة محددة وكان لذلك أسباب وإن لم نستكنهها تماما كانت الحضارة الأولي منذ 10 آلاف سنة في الشرق الأوسط وبقي ذلك اصلها ثم اتسعت علي مدي العالم، وهو ما أسميه الحضارة ثم أتت الحداثة ليس باعتبارها حضارة خاصة وإنما إبداعات جديدة تكونت في رقعة جغرافية معينة، وكان انقلابا كبيرا في مصير الإنسانية قد يدوم ألف أو ألفي سنة وسيطوّر بدوره مثلما تطورت الحضارة الزراعية في يوم ما.
إذن المسألة ليست مسألة حضارة معينة غلبت غيرها وتقدمت عليها فهذا سؤال مغلوط لأن التقدم علي الغير يفترض وجود منافسة بمعني كان من المفترض من ذلك المنطق أنه أثناء بحث نيوتن عن قوانين الجاذبية كان أيضا من في العالم الاسلامي ينافسه في ذلك غير أن نيوتن تمكن من مجاوزته هذا غير معقول وغير صحيح بل أنهم لم يكونوا أصلا يفكرون في مثل هذه المسائل في المقابل كانت أوروبا تعيش هذا التنافس مثلا في ما يخص الرياضيات اللانهائية بين نيوتن ولايبنتز. نعم لقد اعتمدت أوروبا علي تطور داخلي وهو ما تسميه أنت بالبرجوازية ولكن اعتمدت أيضا علي تراث الإنسانية مثلا العالم الإسلامي الرياضيات والفلك، والعالم الإسلامي بدوره أخذ عن الهند واليونانيين عن بابل والمصريين (الهندسة).
وإنه من الأكيد لو كانت أوروبا وحيدة في الجغرافيا ولم يكن العالم آنذاك موجودا لما أمكن لها أن تصل تلك النهضة، إذ أنها اعتمدت علي ما هو ذاتي كما اعتمدت أيضا علي تراث البشرية ولكنهم استطاعوا تطويره.
المصدر : الزمان بتاريخ 3/3/2002.
حاوره: منجي الخضراوي
iThere are no comments
Add yours