يصرح أركون مراراً وتكراراً بأنه يستعمل أمضى الأسلحة الفكرية وأكثرها فاعلية. أولاً لانه يستخدم أحدث الأدوات المنهجية والتقنيات العقلية؛ ثانياً لأنه لا يعتمد على منهجية واحدة، بل يتبنى استراتيجية منهجية “تداخلية متعددة الاختصاصات”، مستفيداً من كل الانجازات المعرفية التي تحققت في العقود الأخيرة، وهي فترة شهدت فيها الفلسفة وعلوم الانسان “طفرة” أدت إلى تغيير خارطة الفكر وقلب الرؤية إلى العالم.
وهو يعتمد بشكل خاص على المنهجية الحفرية الأركيولوجية. ولا شك أن لهذه المنهجية ميزتها قياساً، مثلاً، على المنهجية الابستمولوجية الباشلاردية التي يعتمدها محمد عابد الجابري. ففي المنهجية الأخيرة يُقيّم النتاج المعرفي على أساس الفصل الحاسم بين الخطأ والصواب، أو بين العلمي والخرافي، أو بين المعقول واللامعقول… أما المنهجية الحفرية فإنها تتعدى هذا المستوى للبحث عن آليات الخطاب في تشكيل المعنى أو عن ألاعيبه في إنتاج الحقيقة. بحسب منهجية الجابري ثمة أنظمة معرفية عقلانية وأخرى غير عقلانية، ثمة خطابات تتسم بالمعقولية وأخرى تفتقر إلى المعقولية، ثمة فرق ومذاهب تمثل أهل العقل وأخرى تمثل أهل النقل واللاعقل. من هنا يُدرج الجابري أهل التصوف والتشيع في خانة الغنوص والأسطورة والخيمياء وسواها من مظاهر اللامعقول. في المنهجية الحفرية التي يتبعها أركون تجري الأمور بصورة مختلفة. إذ هنا يمكن أن نضع السنة والشيعة على قدم المساواة، ذلك أن التحليل الحفري يبين أن الفرقتين، بالرغم مما بينهما من تضاد عقائدي أو فقهي، تستخدمان في خطاباتهما نفس المبادىء والقواعد والآليات، بمعنى أننا نجد عندهما نفس النظام المعرفي، ونفس العقلية الدوغمائية، ونفس المفهوم الأحادي للحقيقة، ونفس استراتيجية الرفض التي تبديها كل فرقة إزاء الأخرى (تاريخية ص 150). هذه هي ميزة المنهجية الحفرية. بها نتجاوز منطوق الخطاب للبحث عن مضمراته والكشف عن آليات اشتغاله. ولهذا فإن هذه المنهجية تفتح آفاقاً جديدة أمام التفكير وتقدم أدوات مفهومية تتيح قراءة ما لم يُقرأ في النصوص.
ومع ذلك فإن أركون لا يتابع حفرياته حتى النهاية. فهو يقرأ نصوصاً بعين حفرية، بينما يقرأ نصوصاً أخرى بعين ابستمولوجية. من هذا القبيل قراءته للتراث الصوفي والاشراقي. إنه يستبعد هذا التراث من دائرة العقل والتفلسف. ذلك أن أركون، كناقد للعقل، يميز على نحو حاسم بين العقل واللاعقل على طريقة ديكارت، معتبراً اللاعقل هو نقيض العقل. وهذا ما لا يُسلم به النقد المعاصر الذي يبيّن أن لا خطاب من دون استراتيجية عقلية ظاهرة أو باطنة، ولا نص من دون شكل من أشكال العقلانية أياً كان منطوقه اللاعقلاني. ولهذا فأنا لا آخذ مثلاً بما يقوله ابن عربي عن خطابه. فالنص اللامعقول في منطوقه قد ينكشف عند الحفر والتنقيب عن عقلانية واسعة من حيث بنيته وأجهزته المفهومية. ولو أخذنا صدر الدين الشيرازي، مثالاً آخر، نجد في خطابه انصهاراً لمختلف أنواع العقلانية، المشائية والإشراقية والعرفانية فضلاً عن النبوية. فهل نستبعده من دائرة التفكير الفلسفي؟ تقديري أن أركون لم يطلع على “الحكمة المتعالية” الكتاب الأبرز عند الشيرازي. أعرف أنه يعترض على كلامي بقوله إن الموقف الفلسفي يختلف عن الموقف الصوفي والاشراقي، من حيث كونه موقفاً نقدياً ورهاناً عقلانياً. ولكن ما العقل وما العقلانية؟ من الذي يفكر ويعقل ويشرع؟ أليس الموقف العقلاني نوعاً من الوهم مؤداه تطابق العقل والواقع؟ إننا نعرف اليوم أن الحديث عن ذات عاقلة تتصور العالم وتقبض عليه هو موضع للمساءلة والنقد. فالأنا أفكر هذه المقولة لم تعد بداهة من البداهات. وها إن فيلسوفاً كفوكو يعتبر أن التفكير فعل يشبه رمي النرد. حقاً إن المرء يتساءل: من يفكر في النهاية؟ أو بمعنى أدق، ما هو هذا الشيء الذي يفكر؟ أياً يكن إن الفلسفة هي انفتاح على العالم وقراءة للتجارب. قد تكون التجارب باطنية عرفانية. لا يهم ذلك، وإنما المهم أن تصاغ بلغة مفهومية تكشف عن علاقة بالوجود والحقيقة. لا يهم الموقف الذي نصرح به. وإنما المهم قدرتنا على الخلق والابتكار. فما هي المفاهيم التي يبتكرها أركون وما هي الحقول التي يفتتحها في قراءته للفكر الاسلامي؟
المصدر : الممنوع والممتنع
iThere are no comments
Add yours