مصمِّم الأزياء المبدع أكثر فاعلية من المثقف أو “المفكِّر”

السعيُ إلى ضخامة الألقاب تعبيرٌ عن هشاشة الأفكار

JPEG

في العالم العربي قلما تُسمَّى المِهَنُ المعرفية والصناعات النظرية بأسمائها الحقيقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحقول ومجالات كالفلسفة والفقه واللاهوت وعلم الكلام والدراسات الإسلامية أو الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، فضلاً عن المشاريع الحضارية والنهضوية، حيث تُستخدَم، في الغالب، مسمَّياتٌ وألقابٌ مثل “المفكِّر” و”المفكِّر الكبير” أو “العلامة” و”حُجَّة الإسلام” أو “آية الله” و”آية الله العظمى” إلخ.

وأنا أوثر إعادة الأمور إلى نصابها وتسمية الأشياء بأسمائها، أسوةً بما يجري في حقول أخرى، كالشعر والرواية والرسم أو السياسة والإعلام والأعمال إلخ، وذلك حيث الأمر يتعلق بمهن واختصاصات لها وقائعها ومفاعيلها، بعيدًا عن تهويمات الألقاب وادِّعاءات التراتب، أو بصرف النظر عن أوهام الرسالة ودعوى الوصاية على الحقيقة.

من هنا صرتُ أميل إلى استبعاد لقب “المفكِّر” بالنسبة للعاملين في مجال الفلسفة، وذلك لغير سبب: الأول كون اللفظة تزرع بين الناس قسمة جائرة وخادعة تَصدُر عن ادِّعاء وتشي بالفظاظة. ذلك أن فعل “التفكير” هو ميزة الكائن البشري وخاصته أو حيلته، بصرف النظر عن الاختلاف في المهن والأعمال بين الفاعلين الاجتماعيين. فالمرء إنما يمارس علاقته بوجوده بالفكر الحيِّ والمتجدد، على سبيل الفاعلية والحضور، بحسب المقولة الديكارتية الشهيرة: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، بل “أكون”. وما صاغه ديكارت بلغته المفهومية يدركُه بحدسه أيُّ إنسان، أكان فيلسوفًا أم لا، خريج مدرسة أم لم يدخل إلى المدارس – بدليل أن الواحد، إذا أراد أن ينتقص من قدر آخر، يتهمه بقلة التفكير أو بانعدام الفكر، لكي يجرِّده من الصفة الإنسانية.

وليس الفيلسوف أرقى من سواه أو أوثق منه صلةً بالحقيقة، بما يبتكره من الصيغ والمقولات؛ وإنما هي ميِّزتُه وفرادتُه، بقدر ما هي صناعتُه النظرية ولغتُه المفهومية. والفلسفة “صناعة”، كما كانت العرب تسمي العديد من المهن والاختصاصات النظرية والعملية، كالفقه والطب والهندسة أو الحياكة والنجارة والحدادة.

وكلُّ مهنة تتصل بالحقيقة بقدر راهنيَّتها وحاجة الناس إليها؛ أي بقدر ما تخلقه من الوقائع الفعالة في تشكيل المشهد، سواء على مستوى مجتمع أو على مستوى العالم بأسره. ولا أعتقد أن مقولات هنتنغتون وفوكوياما تفعل وتؤثر في تشكيل المشهد العالمي أكثر مما يفعله المطربون والممثلون وعارضات الأزياء ونجوم الإعلام ولاعبو الكرة. ولا مراء أن هؤلاء يفعلون ويؤثرون في العالم العربي أكثر بكثير من العاملين في ميادين الفكر والمعرفة!

مبتكر الأزياء أم المثقف؟

وأيًّا يكن الأمر، لا أحد يَعْرى من فكره، لأنه لا إتقان من دون نظر، كما لا عمل بلا معرفة، ولا سيما في عصر أصبح الإنتاج في أيِّ قطاع يعتمد على استخدام أنظمة المعلومات. والفرق بين واحد وآخر هو في طريقة استخدامه لعقله وفي حصيلة تفكيره، بصرف النظر عن مهنته ودائرة عمله. ثمة عاملون في حقول النظر والمعرفة لم يولِّدوا أفكارًا ذات جِدَّة أو أصالة من خلال الأعمال التي قرأوها واشتغلوا عليها: منهم الدارس المتواضع الذي يعرض ما عند غيره ولا يدَّعي ما ليس عنده؛ ومنهم الذي يدَّعي فكرًا فيما الإنتاج له من بنات أفكاره.

وبالعكس: ثمة فاعلون خارج القطاع الثقافي يمارسون علاقتهم بفكرهم بصورة خلاقة ومثمرة في أعمالهم ومشاريعهم. وأستحضر هنا مثالاً من الخياطة الرفيعة يجسِّده اللبناني إيلي صعب، بتصاميمه المبتكرة والرائعة التي تخرق الحواجز الوطنية والقومية نحو دور الأزياء العالمية. هذا في حين هناك مثقفون ومنظِّرون يكرِّرون منذ عقود مصطلحاتهم المستفادة، من غير تجديد أو تطوير. وهناك دعاة يشحنون النفوس، باسم الهوية الإسلامية أو العربية، تعصُّبًا وعداء، بصورة ترتدُّ وبالاً على العرب في الداخل وفي الخارج.

والسؤال الذي يُملي نفسه هنا: من ينفع بلده ويُغْنِي هويتَه أو يمثِّل عالمه العربي: مبتكر التصاميم والأزياء التي تغزو الأسواق العالمية، أم المثقف الداعية الذي لم يجدِّد حرفًا في مقولات العقلانية والديموقراطية أو الثقافة والهوية؟ لا تعسُّف في القول إن مصمِّم الأزياء المبدع هو أكثر فاعلية من المثقف أو “المفكِّر” الذي تشلُّ طاقتَه على الخلق هواجسُ الهوية ووساوسُ التراث أو هواماتُ التحرُّر وأطياف التقدم.

من الأسباب الأخرى لاستبعاد لقب “المفكِّر” أنه بات من العمومية والخواء أو الادعاء، بحيث يُطلَق في أحيان كثيرة على من لا عمل له ولا مهنة، أو على من يمارس مهنته بصورة فاشلة.

بالطبع يُقصَد بـ”المفكِّر”، على وجه التحديد، المنتج للأفكار الخلاقة والخارقة، أكان من الفلاسفة، أم من المنظِّرين العقائديين والاستراتيجيين، أم من علماء اللغة والاجتماع والاقتصاد والإنسان بعامة؛ كما يتمثل ذلك في افتتاح حقول للمعرفة، أو اجتراح مناهج للدرس والتحليل، أو ابتداع صيغ ونظريات حول الوجود والواقع، أو ابتكار قواعد وأساليب للعمل والتدبير.

فالمرء عندما يستحضر أرسطو، مثلاً، تقفز إلى ذهنه جملةُ مصطلحات مبتكَرة دالَّة على ميادين معرفية أو على مفاهيم وجودية أو على تقنيات عقلية قد خرقت حواجز اللغة وعصور الثقافة، كالمنطق والماورائيات والجوهر والعَرَض والمادة والصورة والعلل الأربع والمقولات العشر إلخ. كذلك فنحن عندما نستحضر الفارابي تقفز إلى ذهننا نصوصُه ومقولاتُه، كالمدينة الفاضلة والسياسة المدنية وواجب الوجود والعقل الفعال إلخ. وهذا شأن أعلام كهيغل وماركس وسارتر ورسِّل وفوكو، كلُّ واحد منهم يُعرَف بنظرياته ومقولاته المتداولة على ساحات الفكر أو في ميادين الثقافة. وهذا أيضًا شأن مفكرين أحياء طرحوا مقولات فعلت فعلها على ساحة الفكر العالمي، مثل “العقل التواصلي” لهابرماس، أو “نهاية التاريخ” لفوكوياما، أو “صدام الحضارات” لهنتنغتون، أو “الميدياء” (علم الوسائط) لريجيس دوبريه، إلخ.

مقابل ذلك، نجد أن الألقاب كثيرًا ما تُطلَق عندنا بصورة اعتباطية، كما نسمع أو نقرأ في الندوات والاحتفالات أو عبر الشاشات، حيث يتم تكريس أسماء مفكرين أو علماء ليسوا من المنتجين للأفكار والمعارف. قد يكون الواحد منهم خطيبًا أو محدِّثًا يُحسِن عرض أفكار الآخرين أو تنسيق معارفهم العلمية؛ ولكن ذلك لا يجعل منه مفكرًا أو عالمًا بالمعنى الأصلي للكلمة. والأسوأ هم الذين يستعملون مقولات الغير من غير إحالة أو إشارة؛ والأكثر سوءًا هم الذين يأخذون من غيرهم لكي يغفلوا ذكرهم أو يشيدوا بسواهم.

العلاَّمة وحجة الإسلام

وما يصح على لقب “المفكِّر” يصح على ألقاب أخرى نستسهل إطلاقها، كالعلاَّمة وحُجَّة الإسلام. وما زلت أذكر أنني عندما كنت أدرِّس الفلسفة، وأُرفِق اسم الغزالي بـ”حجَّة الإسلام”، وابن خلدون بـ”العلاَّمة”، كان الطلبة يتساءلون عن حقيقة هذه الألقاب التي شاع استخدامُها بعد قيام الثورة الإيرانية وخروج رجال الدين من الظلِّ إلى الواجهة. وكانت أجوبتي أن ابن خلدون استحقَّ لقب “العلاَّمة” لأنه ابتكر علم العمران، وأن الغزالي استحقَّ لقب “الحجة” لأنه كان من أبرز المتكلِّمين الذين نبغوا في الملَّة الإسلامية. وعلى ذلك يكون القياس وتجري المقارنة.

هكذا كان الأمر في الماضي، أو هكذا هو في الأصل. أما اليوم فإننا كثيرًا ما نوزِّع الألقاب من غير جدارة أو استحقاق. من هنا الحاجة إلى ممارسة النقد الذي يطال العقليات والمقولات، كما يطال الألقاب والممارسات – هذا إذا كنَّا حقًّا نعتقد بأن على المثقف أن يحمل المسؤولية، فلا يقف على الحياد من قضايا الأمة ومشكلات الساعة. والنقد لا يعني دومًا نقد أنظمة الحكم التي غالبًا ما عارضها المثقفون بصورة فاشلة وبسلطات أسوأ. ولا غرابة؛ فنحن نطالب بالحرية والعدالة وندافع عن مبدأ التساوي بين الناس، فيما نحن نتهافت على جمع الألقاب وحصد الجوائز أو احتلال المناصب – باستحقاق أو بغير استحقاق!

وليست هذه مسألة شكلية، وإنما لها صلتها الوثيقة بأزمة الإنتاج الفكري والمعرفي. ولنقارن بيننا وبين الغرب الذي ندَّعي مقاومة هيمنته الثقافية في مسألة شائكة تشغلنا اليوم، هي إشكالية الدين والحرب، أو الإسلام والإرهاب، بعد أن أعلنت شرذمةٌ من العرب الحربَ على الغرب باسم الإسلام، وردَّ الغرب، بزعامة أمريكا، بالتهجم على الإسلام، أو بالمطالبة بتغيير مفهومنا له وطريقتنا في ممارسته.

ففي مسألة الدين حوَّل علماءُ الغرب علاقتَهم بالظاهرة الدينية إلى ميادين معرفية خصبة. وهذا ما فعله علماء الإسلام في عصور الازدهار الحضاري، حيث صرفوا علاقتهم بنصِّ الوحي، تفسيرًا وتأويلاً، أو تحليلاً وتركيبًا، إلى عملات معرفية مختلفة، لغوية وبَلاغية أو فقهية وتشريعية أو كلامية ولاهوتية أو فلسفية وصوفية إلخ. أما اليوم فإننا نكاد نُحيل علاقتَنا بالدين إلى “دكاكين”، كما يعترف أحدُ أبرز دعاته وعلمائه؛ أي نمارسه على الضدِّ من القيم التي امتاز بها والتعاليم التي دعا إلى نشرها.

في أيِّ حال، كان الإسلام في المبتدى حدثًا ملهِمًا وخارقًا أسهم في تغيير أهله ودعاته لكي يسهموا في تغيير العالم وقيادته عبر إنتاج المعرفة والثروة والقوة. أما اليوم فإنه يُعامَل كتراث متحجِّر نخشى عليه من المتغيِّرات، لكي تعمل هذه على تهميشنا وصرفنا عن المشاركة في صناعة الحياة واختراع المستقبل.

وكانت الحضارة الإسلامية، إبان ازدهارها، فضاءً لتبادل السلع والأفكار، أو مساحة للتعارف والاختلاط والتفاعل بين الأجناس واللغات والثقافات، بعكس ما يجري اليوم حيث حُماة الهوية، من إسلاميين وقوميين وماركسيين أمميين، يتصرفون كالمذعورين من العولمة، بشبكاتها وأسواقها ومعلوماتها ومبادلاتها. ولا عجب أن تكون النتيجة مزيدًا من الفقر والتخلف والتبعية.

وكان الغالب، في الماضي، أن يمارَس التديُّن، بين الناس، على سبيل الخشية والورع، بحيث يخشون به من أنفسهم لكي يتَّقوا بعضهم بعضًا في أجسادهم ومشاعرهم وأرزاقهم. أما اليوم فهناك من يعمل على تحويله إلى مؤسَّسة سياسية لنُرهِب بعضنا بعضًا والناس أجمعين، أو إلى سجن عقائدي لمصادرة العقول وإلغاء المختلف في الداخل والآخر في الخارج؛ فتكون الحصيلة، بالطبع، المزيد من الجهل والاستبداد.

وكان المسلمون، في ما سلف، يتصرفون كراشدين يشغِّلون عقولهم ويُعمِلون فكرَهم؛ ولذا فقد أبدعوا وابتدعوا، وغيَّروا وبدَّلوا، بقدر ما غيَّروا صورة العالم؛ بعكس ما نحن عليه اليوم، حيث نتصرف كقاصرين نحذو حذوهم في كلِّ أمر، شعارنا في ذلك “كلُّ بدعة ضلالة”! ولا غرابة أن يكون المآل إعادة إنتاج الماضي، على سبيل العجز والفقر أو المسخ والتشويه أو الانتهاك والتضليل.

وأخيرًا، كان علماء الإسلام يُنهون أقوالهم ويوقِّعون أعمالهم باستخدام عبارات دالَّة على التقى الفكري والتواضع الخلقي، مثل “والله أعلم” أو “الفقير والحقير”، تعبيرًا عما يعتور كينونة الذات العاقلة من النقص والفقر أو الحيرة والقلق أو الجهل والنسيان. أما اليوم فإن العلماء يستخدمون مفردات مثل آية الله وآية الله العظمى – وهي ألقاب تدل على النرجسية والتألُّه وكمال العلم، مع ما في ذلك من الادِّعاء أو الخواء.

لذلك كلِّه، لا عجب أن نحصد ما نشكو منه، أو نُفاجَأ بما نقوم بزرعه، أو نكتشف بأن الدين يتحول إلى “تجارة” بعد عقود من الدعوة والتعليم والممارسة. وتلك هي حصيلة العمل الديني من غير أفكار خصبة ومبتكَرة، تمتلك قدرتها التداولية وطاقتها على التحويل، بحيث تتيح إعادة بناء الذات وتشكيل الواقع بصورة إيجابية، غنية وفعالة.

بالنسبة إلى الحرب، نحن نتخذ منها مواقف إيديولوجية نضالية، فنقف معها أو ضدَّها، أو ندعو إلى حرب مضادة. فخطابنا عن الحرب هو خطاب خُلُقي مثالي. أما الغربيون والأمريكيون فإنهم لا يكتفون بالموقف الخُلُقي الذي يدعو مثلاً إلى “الحرب العادلة”، ولكنهم يتجاوزون ذلك للتعامل مع الحرب كمعطى اجتماعي ونشاط بشري، لكي ينتجوا حولها تعريفات علمية أو مقولات وجودية أو مدارس استراتيجية، كما هو دأبُهم منذ كلاوزفيتس الذي تعاطى مع الحرب كميدان للدرس المعرفي، وكما هو شأنهم الآن حيث يخترعون مفاهيم ويضعون استراتيجيات تتلاءم مع المتغيِّرات العالمية التي نشأت بعد حقبة الحرب الباردة، مثل “سياسة الاحتواء”، و”الحرب الافتراضية”، أو “الحرب الاستباقية”، أو “الحرب اللامتناظرة”، إلخ.

وهذه أيضًا ليست مسألة شكلية أو هامشية. بالعكس: إنها تقع في الصميم مما نفتقر إليه. فمن ينتج الأفكار والمفاهيم أو الصيغ والنماذج حول الواقع يُسهِمُ في صناعة العالم أو يُحسِن قيادة نفسه، أو، على الأقل، يملك القدرة على تدبُّر مشكلته ومعالجة أزمته. ومن لا يفعل يشهد على عجزه وهامشيَّته، أو يصنع ذاته على النحو الأسوأ.

ذلك هو الفارق بين ما يجري عندهم وعندنا، على مستوى وجودي، أي من حيث إرادة الفهم والقدرة على التأثير في المجريات، كما تشهد المواقف وردَّات الفعل على الحرب التي تُقرَع طبولُها الآن: فإذا كان ثمة إمكانية لكبح جماح هذه الحرب أو وضع حدٍّ لدعاتها، أو، على الأقل، تسويغها بقرار دولي جامع، فلن يكون ذلك بسبب الضغوط التي تمارسها دولُنا ومجتمعاتُنا، بل بسبب التظاهرات والاحتجاجات والانتقادات التي تمارَس في الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة بالذات، وذلك حيث المجتمعات تمارس حيويتَها الفكرية والسياسية عبر حركة النقد وحرية الاعتراض والتعبير.

عندنا لم تصبح الشعوب فاعلة، لأنها مازالت تُعامَل من جانب النُّخَب الثقافية والسياسية كجماهير تُشحَن وتعبَّأ أو تمتثل وتصفق، لكي تنتج الأنظمة الاستبدادية التي هي ضحيتها أكثر مما هي ضحية المؤامرات والحروب من الخارج؛ مما يعني أن الجماهير والديكتاتورية وجهان لعملة واحدة؛ إذ كلاهما تُسهِم في صنع الأخرى.

حُماة الهوية

بهذا يتبدَّى الفرق بيننا وبينهم. فالمجتمعات الغربية هي فاعلة ومؤثرة بقدر ما هي مدروسة وشفافة، أو بقدر ما هي مصنِّعة ومنتجة للمعرفة والثروة. عندنا المجتمعات ميتة سياسيًّا، والشعوب كسولة فكريًّا وبائسة ثقافيًّا؛ فيما الدول واقعة تحت العجز والدَّيْن، والأنظمة باتت مستهلكة ومعيقة للنموِّ والتقدم.

وأما الدعاة من حُماة الهوية والأمة والأمناء على العدالة والحقيقة، فهُم الأكثر بؤسًا وإعاقة. فهُم يقاومون إرادة الهيمنة من الخارج ويتشبثون بها في الداخل. ولذا نراهم، بحجة مجابهة أمريكا التي تزداد هيمنةً بدفاعاتهم الفاشلة وأفكارهم العقيمة، يدافعون عمَّن يهدر الثروات والكرامات ويصنع الهزائم والكوارث. إنهم لا يتعلَّمون من الغربيين والأمريكيين ميزة وقوة النقد والمراجعة والمحاسبة. فكيف إذا كانت الأخطاء جسيمة وقاتلة؟!

وذلك هو التحدِّي والرهان: مواجهة الذات بالكشف والتعرية لتغيير الأفكار والأنظمة التي تُسهِم في توليد العجز والخراب.

ولكننا لا نرى وسط الرؤية: لا نرى الأولوية التي يعطيها الأمريكيون للفكر ودوره، كما تشهد على ذلك تكاثر مؤسَّساته ومراكز بحثه حول مختلف أنشطة الحياة وأوضاع العالم. وهُم في ذلك لا يتعاملون مع الأفكار كمتحجِّرات قديمة ينبغي صونها، ولا كأيقونات حديثة ينبغي تقديسها، بل يهتمون بإدارتها وتداولها أو بتغييرها وتحويلها، بحيث تُصرَف في الواقع الحيِّ واليومي معرفةً وثراءً وقوة.

مما يعني أن مشكلتنا الأولى هي فكرية، أي تتصل بمشروعية استخدام الألقاب، بقدر ما تتصل بمصداقية المقولات. وإلا كيف نفهم أنه، مع كثرة المفكِّرين، بألقابهم الكبيرة ونياشينهم العلمية وأوسمتهم المعرفية، لم يقدَّر لنا حتى الآن أن نبتكر صيغة أو نظرية أو قيمة تخلق مجالها التداولي على مساحة الفكر العالمي؟

هل نخشى مما يحدث على الإنسانية والثقافة والهوية؟ الممكن في مواجهة التحدي أن نتقن عملنا لكي نستحق ألقابنا ونثبت جدارتنا الفكرية أمام الذات والغير على حدٍّ سواء.

المصدر : السفير، 29/11/ 2002