ان الانطلاق في فحص طبقات الموروث القديم في الثقافة العربية من الصورة التي تقدمها لنا عنه المؤلفات العربية القديمة قد جعلنا أمام أمشاج من الآراء الفلسفية والدينية لا نجد لها مكاناً في التاريخ “الرسمي” للفلسفة السائد اليوم.
وهذا ليس راجعاً إلى أن تلك الأمشاج خالية تماماً من كل ما يثير اهتمام الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة، بل لأن تاريخ الفلسفة “الرسمي” المعاصر تحكمه “المركزية الأوروبية”، وبالتالي فهو لا يهتم إلا بالطريق الذي سلكته الفلسفة من بلاد اليونان موطنها الأصلي الى روما وأوروبا العصور الوسطى ثم أوروبا الحديثة. أما الطريق الذي سلكته الفلسفة من أثينا إلى الشرق، خلال فتوحات الاسكندر وبعدها إلى أن استقرت في بغداد عاصمة العباسيين، فهو لا يهتم بها. وإذا مر مرور الكرام بمدرسة الاسكندرية في القرن الثالث الميلادي فليشير فقط إلى أن أفلوطين (205م _ 270م) درس بها، على شخص يحيط به الغموض اسمه أمونيوس ساكاس، قبل أن يرحل إلى روما حيث أقام هناك مدرسته المشهورة التي ستستأثر وحدها باسم “الأفلاطونية المحدثة”.
هكذا يغيب عن المسرح، مسرح تاريخ الفلسفة “الرسمي”، الطريق الاخر الذي سلكته الفلسفة، أثناء فتوحات الاسكندر وبعدها، نحو الشرق. والنتيجة تجاهل اسكندرية ما قبل وما بعد أفلوطين وما تفرع عنها من مدارس أخرى كمدارس فلسطين، وتجاهل انطاكية وامتداداتها كمركز ثقافي خصب شمل اشعاعه سورية كلها، وتجاهل المدارس “الشرقية” الأخرى في العراق وفارس وخراسان. وبعبارة أخرى إن ما هو غائب في هذا التاريخ “الرسمي” للفلسفة هو بالضبط ما نحن في حاجة اليه هنا، هو تاريخ المراكز الثقافية في كل من مصر وفلسطين وسورية والعراق وايران، هذه المراكز التي احتضنت العلم والفلسفة “اليونانيين” مدة تزيد على عشرة قرون، ما بين موت الاسكندر سنة 323 ق م وعصر التدوين في الاسلام (القرن الثامن الميلادي).
نعم، يبرز كثير من المستشرقين دور المدارس السريانية في انطاكية ونصيبين وحران (بشمال سورية والعراق) وجنديسابور (جنوب فارس) في نقل الفلسفة والعلوم اليونانية إلى العربية. وبعضهم يريد أن يلتمس لهذه المدارس تأثيراً في النواحي الثقافية الأخرى في الإسلام كعلم الكلام مثلاً. ومع تقديرنا، التقدير الكامل، للدور الذي قام به أساتذة هذه المدارس السريانية وتلامذتها في حركة الترجمة في الاسلام، فإننا مع ذلك لا نجد فيها، أو على الأقل فيما يقدّم لنا عنها، ما يلبي حاجتنا. فلقد “كان ما يعلم في تلك المدارس ذا صبغة دينية غالباً ومتصلاً بالنصوص المقدسة، وكان موجهاً بحيث يواتي حاجة الكنيسة”. لقد كانت هذه المدارس مشغولة بتحديد العلاقة بين اللاهوت والناسوت في ذات المسيح، والنزاع كان أساساً بين اليعاقبة الذين أكدوا على وحدته فجعلوا منه إلهاً وبين النسطوريين الذين أثبتوا له خصائص بشرية في الوجود والإرادة والفعل مميزين بينها وبين ما فيه من عنصر إلهي. وقد استعان “المتكلمون” المسيحيون بالمنطق الأرسطي في معالجة هذه المشكلة الدينية. وغني عن البيان القول إن هذه المناقشات كانت تشكل أو تنتج ما يمكن التعبير عنه بـ “المعقول” الديني للمسيحية الشرقية، وهو يقع بعيداً عن تيارات اللا معقول “العقلي” التي تهمنا هنا أصولها وفصولها، تلك التيارات التي تحدث عنها الشهرستاني باسم آراء “الروحانيين من الصابئة” من جهة، وباسم فلسفة “الحكماء السبعة” من جهة أخرى.
نعم هناك مدرسة حران التي لم يَنتصّر أهلها والتي احتفظت بسبب ذلك بالطابع اليوناني الوثني، مع عناية خاصة بالعلوم الفلكية التي انتقلت إليها من بابل مع ما يرتبط بها من عبادة الكواكب والاشتغال بالتنجيم والسحر. وتزداد أهمية حران بالنسبة لموضوعنا لكونها كانت مقراً للصابئة الذين تشكل فلسفتهم الدينية الهرمسية أحد التيارين الرئيسيين في قطاع اللا معقول في الموروث القديم، هذين التيارين اللذين نريد التعرف على مصادرهما وتاريخ تشكلهما والنظام المعرفي الذي يؤسسهما.
نعم لقد قام الحرانيون بدور كبير في حركة النقل والترجمة في الاسلام وبكيفية خاصة في مرحلتها الثانية، فنقلوا كثيراً من تراث مدرستهم العلمي والفلسفي الى العربية بما في ذلك بعض المؤلفات الهرمسية. غير أن معلوماتنا الراهنة عن مدرسة حران لا تسعفنا كثيراً في موضوعنا، فكل ما نعرفه عنها أنها اشتهرت منذ أوائل الميلاد، وأنها قد عنيت بالعلوم الكلدانية الى جانب عنايتها بتيارات من الفلسفة اليونانية. وأهم حدث علمي يرتبط اسمه بحران هو انتقال “مجلس التعليم” (= الكتب والأساتذة) إليها في خلافة المتوكل التي دامت من سنة 232ه إلى 247ه . وكان “مجلس التعليم” هذا قد استقر قبل ذلك لمدة مائة وأربعين سنة في انطاكية التي كان قد انتقل اليها من الاسكندرية أثناء خلافة عمر بن عبد العزيز أي ما بين سنة 99 ه وسنة 101 ه. ونحن نعرف أن هذا “المجلس” لم يدم مقامه طويلاً في حران إذ انتقل إلى بغداد في خلافة المعتضد التي دامت من سنة 279ه إلى سنة 289ه، “وعلى هذا لم تستمر الدراسة في حران أكثر من أربعين سنة”، وهي فترة تقع كما قلنا ما بين خلافة المتوكل وخلافة المعتضد. وبما أن الأدبيات الهرمسية كانت قد انتشرت في الثقافة العربية الإسلامية قبل هذا التاريخ، فإن مدرسة حران، أو على الأقل “مجلس التعليم” الذي انتقل اليها، لا يمكن أن يكون المصدر الوحيد للهرمسية في الإسلام، فلابد أن يكون هناك مصدر أو مصادر أخرى سابقة. وبما أن موطن الهرمسية الأصلي هو الاسكندرية، فإننا نرجح أن يكون انتقال الأدبيات الهرمسية الى الثقافة العربية الإسلامية قد تم على مرحلتين: في المرحلة الأولى كان المصدر هو الإسكندرية نفسها ولربما أيضاً بعض فروعها في فلسطين. أما في المرحلة الثانية فلقد كانت مدرسة حران هي المصدر الأساسي. ومن دون شك فإن ما نقل من حران يرجع معظمه الى مدرسة الاسكندرية التي كان مجلس تعليمها قد انتقل إليها.
يبقى بعد هذا ذلك الخليط من الآراء الفلسفية المنحولة لـ “الحكماء السبعة”، وفي مقدمتهم امبادوقليس المنحول الذي كان المصدر الخصب الذي غرفت منه التيارات الباطنية في الإسلام مشرقاً ومغرباً. ومع أن تلك الآراء الفلسفية المنحولة ذات النزعة الغنوصية الواضحة تلتقي في كثير من جوانبها الأساسية مع العناصر الرئيسية في الفلسفة الدينية الحرانية الهرمسية فإن كون الشهرستاني يعرضها على أنها تمثل رأي الفلاسفة “الأوائل”، تمييزاً لها عن فلسفة أرسطو وشراحه من جهة، وعلى أنها من جهة أخرى غير مرتبطة بآراء الروحانيين من الصابئة (= الهرمسية) التي عرضها عرضاً مستقلاً باعتبار أنها لا تدخل في “الفلسفة”، إن هذا وذاك يشيران إلى أن المصادر التي استقى منها الشهرستاني تلك الفلسفة المنحولة لـ “الحكماء السبعة” هي غير المصادر التي استقى منها آراء الصابئة الحرانيين. وإذا رجعنا إلى ابن النديم والبيروني، وقد عاشا قبل الشهرستاني (الأول بنحو قرن ونصف والثاني بنحو قرن) فإننا سنجد لديهما ما يزكي هذا الفصل الذي اقامه الشهرستاني بين آراء الصابئة وحكمة “الحكماء السبعة”، فالحديث عندهما عن الصابئة ومعتقداتهم يَرِدُ منفصلاً عن الفلسفة والفلاسفة، مما يؤكد فعلاً أن الأمر يتعلق بمصدرين مختلفين.
هناك جانبان آخران يلفتان النظر في العرض الذي قدمه الشهرستاني عن الفلسفة والفلاسفة ويتصلان بموضوعنا. الجانب الأول يتمثل في إشارته إلى أن فلاسفة الاسلام قد أغفلوا ذكر “الحكماء السبعة” و “أهملوا ذكر مقالاتهم” مما يدل على وعيه التام بأن فلسفة هؤلاء الحكماء تختلف عن فلسفة فلاسفة الإسلام “الرسميين” (= الكندي، الفارابي، ابن سينا) الذين يقول عنهم إنهم “قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس في جميع ما ذهب اليه وانفرد به، سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين”، أما الجانب الثاني الذي يلفت الانتباه في عرض الشهرستاني فهو تصنيفه لأفلوطين (= باسم “الشيخ اليوناني”) ضمن الفلاسفة المتأخرين الذين يضع على رأسهم ارسطو والذين يضعهم جميعاً في الطرف المقابل لفلسفة “القدماء” فلسفة “الحكماء السبعة”.
والواقع أن أفلوطين (205م _ 270م) غائب تماماً عن الفضاء الفلسفي في الإسلام.
هناك إذن مصادر لم تصل الينا استقى منها الشهرستاني ما عرضه من الآراء الفلسفية المنسوبة إلى “الحكماء السبعة”، وفي وضعية كهذه لا يبقى أمامنا إلا طريق واحد للبحث عن أصولها وفصولها، وهو مقارنتها بما يمكن أن يكون مصدراً لها، قريباً أو بعيداً. إن الارتباط الممكن إقامته في هذه الحالة هو الارتباط البنيوي بين الأفكار وليس رد هذه الأفكار إلى أشخاص تربطهم علاقة التلمذة: بمعنى أننا لا نستطيع أن ننسبها لشخص أو أشخاص معينين، ولكننا نستطيع _إن وجدنا إلى ذلك سبيلاً _ ربطها بهذا الفيلسوف أو ذاك، بهذا الاتجاه أو ذاك، على أساس القرابة البنيوية بين المذاهب. وإذا كنا نلح كل هذا الالحاح على تحديد مصدر تلك الفلسفة المنحولة فلأنها لقيت رواجاً كبيراً في الثقافة العربية الاسلامية وبكيفية خاصة لدى الاتجاهات الباطنية من اسماعيلية ومتصوفة. وبعبارة أخرى إن الأمر يتعلق أساساً بالبحث عن أحد المصادر الرئيسية للا معقول “العقلي” في الفكر العربي الإسلامي، المصدر الذي شكل مع الهرمسية تياراً قوياً في هذا الفكر منذ بداية عصر التدوين واستمر يحتل مواقع رئيسية داخله إلى أن اكتسح ساحته كلها تقريباً في “عصر الانحطاط”. إنه تاريخ ما يهمله “تاريخ الفلاسفة في الاسلام” وما يسكت عنه تاريخ الفلسفة “الرسمي” الأوروباوي النزعة الذي يؤرخ لـ “العقل الأوروبي” وحده، تاريخ “اللا معقولة العقلي” في الثقافة العربية الإسلامية.
فإلى أين سنتجه؟
من حسن حظنا أن أبحاثاً حديثة نسبياً تنتمي “رسمياً”، في الثقافة الأوروبية، إلى “تاريخ الأديان”، تسعفنا بعض الشيء فيما نحن بصدد البحث عنه، فضلاً عن أنها تلقي أضواء كاشفة على الحياة الفكرية في مركزين هامين من المراكز التي تشكلت فيها بعض طبقات الموروث القديم، وبالخصوص منها طبقات “اللا معقولة العقلي” موضوع بحثنا، فهي تقدم لنا من جهة دراسة علمية وافية عن الهرمسية وتاريخ تشكلها ومضمونها الديني والفلسفي و “العلمي”، كما تضع أمامنا من جهة أخرى صورة واضحة عن الأفلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية التي نقرأ فيها بوضوح العناصر الأساسية للفلسفة المنحولة لـ “الحكماء السبعة” كما عرضها الشهرستاني.
لعل أحدث وأوفى دراسة عن الهرمسية، هي تلك التي قام بها الباحث الفرنسية المقتدر فيستوجيير الذي حقق النصوص الهرمسية وترجمها إلى الفرنسية.
يستعرض فيستوجيير العوامل الإجتماعية والتاريخية التي أدت أو ساعدت على تفكك العقلانية اليونانية وانحلالها مع القرن الأول للميلاد، وفي مقدمة تلك العوامل التمزق الإجتماعي والنفسي الذي تسببت فيه الحروب المتوالية منذ فتوحات الإسكندر في القرن الرابع قبل الميلاد إلى ما بعد قيام الامبراطورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد. ومع إبرازه لهذه العوامل التاريخية الإجتماعية فإنه يؤكد بكيفية خاصة على التمزق الذي أصاب العقلانية اليونانية بعد أرسطو مباشرة حيث تعددت المدارس الفلسفية المتناحرة، وظهر الشكاك وانتشرت أطروحاتهم مما جعل العقل اليوناني يبدو “وكأنه يلتهم نفسه”. ويعزو فيستوجيير هذا الإنفجار الداخلي للعقلانية اليونانية إلى اعتمادها على المنشآت الفكرية الاستنباطية دون اللجوء إلى التجربة، بله الاحتكام اليها. لقد أطلق العقل اليوناني العنان لنفسه محتقراً التجربة مستنقصاً من المعرفة الحسية معتمداً كل الاعتماد على ديالكتيكه الداخلي “فكان من الحتم أن تكون تلك القوة الديالكتيكية، التي كانت تتميز عند الاغريق بكيفية خاصة بالمرونة والدقة والنفاذ، والتي تولت التشييد، كان من الحتم أن تكون هي نفسها التي تتولى تقويض البناء” الذي شيدته.
ويضيف فيستوجيير قائلاً: “هكذا قامت العقلانية الاغريقية، بعدما قوضت نفسها بنفسها، برد فعل مشؤوم ووجهت الناس إلى اللا معقول، إلى شيء ما يقع، فوق العقل أو تحته أو خارجه على الأقل، يقع على مستوى الحدس الصوفي أو على مستوى الإشراق وأسراره أو على مستوى السحر وعجائبه، وأحياناً اتجه الناس إلى هذه المستويات جميعاً. لقد تعب الناس من تلك الحجج التي لم تكن تصلح إلا في إظهار العقل بمظهر المتناقض المتهافت. وفي انتظار (= الحصول على مصدر للمعرفة مباشر ويقيني أي في انتظار “الكشف”) كان لابد من العيش، لابد من إعطاء معنى للحياة، وبالتالي فإن ما كان الناس في حاجة اليه هو تعليمات تصدر إليهم، هو سلطة تطلب منهم الخضوع لها، هو الإيمان والتسليم. لم يعودوا يرغبون في البراهين فلقد كانوا يريدون ان يؤمنوا (…) لقد كانوا يبحثون عن الوحي والإلهام النبوي. ذلك لأنه لما كان الله هو وحده الذي يُحسن الكلام عن نفسه فإنه من الضروري توجيه السؤال إليه. ولا فرق بين أن يجيبك شخصياً بواسطة أحد العرافين أو يكلمك خلال رؤيا ينعم بها عليك، وبين أن تصدق برسله الذين كانوا على اتصال به في ماض سحيق والذين سجلوا في كتب مقدسة ما أخذوه منه”، ومن هنا اتجهت الأنظار إلى بلاد الشرق، الى “الشعوب التي ترى قبل غيرها اشراقة الشمس”.
تتجلى هذه الميول اللا عقلانية، أولا وقبل كل شيء، وفي مجال الفلسفة بالذات، في الإقبال على بعث الفيثاغورية وتجديدها. ويقرر فيستوجيير “أن الإيمان بفيثاغورس كان يزداد بمقدار ما كان يتناقص سلطان العقل”. ويفسر ذلك بأن ما كان يشكل قوة الفيثاغورية الجديدة هو أنها لم تكن فلسفة، أي منظومة من الأفكار المتكاملة المتناسقة حول الله والعالم والإنسان، فهي لم تكن تعتمد البرهان، وإنما كانت عبارة عن نظام كهنوتي يكرس الانقياد الأعمى لما يقوله كائن يأتيه الوحي والإلهام، لا يهتم بإقناع الناس، بل يريد أن يسلموا له تسليماً. لقد كان على كل نقاش أن يتوقف بمجرد ما يرتفع صوت يفوه بتلك الكلمة التي كان لها فصل الخطاب، كلمة: “نطق المعلم فقال..”. أما هذا “المعلم” فهو إما إله أو نبي أو ولي، وعلى كل حال فآيته الإتيان بالخوارق والكرامات، وبالتالي امتلاك للحقيقة”.
لقد كانت الفيثاغورية الجديدة في جوهرها قراءة لأفلاطون بواسطة فيثاغورس، الشيء الذي يعني “تتويجه بتاج النبوة”.
العودة إلى فيثاغورس وإلى من هم أقدم منه من الفلاسفة وأصحاب النبوة وأهل الحكمة العتيقة، ذلك هو الإتجاه الذي ساد القرن الثاني والثالث للميلاد في الامبراطورية الرومانية وبكيفية خاصة في جزئها الشرقي مصر _سوريا… الخ. والنتيجة هي ذلك التيار الفلسفي الديني الذي يحمل امشاجاً من آراء فلاسفة ما قبل سقراط معروضة عرضاً افلاطونياً دينياً على الشكل الذي رأيناه عند الشهرستاني في حديثه عن الفلاسفة الاوائل “اساطين الحكمة” أو “الحكماء السبعة”.
ففكرة الإله المتعالي والقول بالعنصر الأول ثم بالعقل الذي فيه صورة العالم، ثم بالأصل الالهي للنفس وبالتطهير… كل تلك عناصر مشتركة اساسية نجدها منسوبة إلى الحكماء السبعة كلاً أو بعضاً وبالخصوص منهم إلى انبادوقليس، وهي نفس العناصر التي تأسس عليها أساس الفلسفة الالهية وعرفانه المشرقي.
عندما مات الاسكندر سنة 323 قبل الميلاد (أي قبل وفاة استاذه ارسطو بسنة واحدة) اقتسم قواده امبراطوريته الشاسعة: فكانت بلاد اليونان ومقدونياً في يد القائد انتيجونس وعاصمته اثينا وكانت البلاد الاسيوية في يد القائد سلوقوس مؤسس دولة السلوقيين وعاصمته انطاكية، اما مصر فقد كانت من نصيب بطليموس واسرته وعاصمتها الاسكندرية. وكما توزعت السلطة بين هذه العواصم الثلاثة فقد توزع الفكر اليوناني، علماً وفلسفة، بينها ايضاً. غير ان نصيب الاسكندرية كان أكبر واغنى.
فما هي الهرمسية، ما حقيقتها وما نوع الفلسفة والعلوم التي كانت تنشرها وما طبيعة النظام المعرفي الذي يؤسسها؟
الهمرسية نسبة إلى هرمس “المثلث بالحكمة” كما هو شائع في المؤلفات العربية أو “المثلث بالنبوة والحكمة والملك” كما ورد في كتاب المبشر بن فاتك.
وهرمس في الاصل اسم لاحد آلهة اليونان المرموقين عندهم. وقد طابقوا بينه وبين اله مصري قديم هو الاله طوط، كما طابق بعض اليهود بين هرمس طوط هذا وبين النبي موسى. أما في الميثولوجيا المصرية القديمة فقد ظهر طوطا كاسم لكاتب الإله أوزيرس اله الدلتا المسؤول عن الموتى والمصير البشري. ومن وظيفة طوط كـ “كاتب” نسب إليه اختراع الكتابة، وبالتالي جميع الفنون والعلوم التي تعتمد الكتابة وتمارس في المعابد كالسحر والطب والتنجيم والعرافة. ثم ارتقى الاله طوط درجة في سلم الالوهية داخل الأساطير المصرية فنسب إليه خلق العالم بصوته لانه كان مطلعاً على قوة تأثير الصوت والكلمة. وتقول الأساطير المصرية ان صوته يتكثف بنفسه فيصير مادة، ومن هنا كانت قوة طوط كامنة في صوته، أي في “النفخ” الصادر عنه، ومن هذا النفخ يخلق كل شيء، فهو إذن الإله الخالق والمعلم. هذا في الاساطير المصرية القديمة، أما في الأساطير اليونانية فلقد كان هرمس محترماً عندهم إذ كان ابنا للإله الأكبر زوس وقد نسبوا اليه هم أيضاً اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والاوزان والمقادير… أما في الأدبيات العربية الهرمسية فقد كان هرمس يقدم على انه النبي ادريس المذكور في القرآن وانه أول من علم الكتابة والصنعة والطب والتنجيم والسحر… الخ.
أما الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية فترجع إلى مجموعة من الكتب والرسائل تنسب إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الاله وأحياناً يقدم على أنه هو نفسه اله، ولذلك كانت تعتبر تلك المؤلفات وحياً إلهياً. غير ان البحث العلمي الحديث (= دراسة فيستوجيير خاصة) اثبتت بما لا يقبل لاشك ان تلك المؤلفات ترجع في جملتها الى القرنين الثاني والثالث للميلاد، وأنها كتبت في الاسكندرية من طرف اساتذة يونانيين، او من طرف اساتذة قبطيين يعرفون اليونانية، وانها مستمدة في جانبها الفلسفي الديني من الفيثاغورية الجديدة والافلاطونية المحدثة وفي جانبها العلمي (= التنجيم خاصة) مما انتقل الى مصر من العلوم الكلدانية عندما كانت تحت السيطرة الفارسية. أما الكيمياء الهرمسية فهي مزيج من الكيمياء النظرية اليونانية وفن صناعة الذهب المصرية. هذا بالإضافة إلى تأثرها بالزراديشتية والعلوم السحرية المجوسية التي كانت منتشرة في مصر، إذ يقدر بعض المؤلفين حجم الأدبيات الزراديشتية في مصر عام 200 ق.م بنحو مليوني سطر.
والآن ما هو مضمون التعاليم الهرمسية، مضمونها الفلسفي الديني خاصة؟
تقدم لنا الهرمسية نظرية كونية بسيطة: “ففي قمة الكون وفوق سماء النجوم الثابتة يقيم إله متعال، لا يقبل الوصف، منزه لا تدركه العقول ولا الابصار، مالك العالم. وازاءه توجد المادة غير المتعينة، وهي مبدأ الفوضى والشر وميدان النجاسة والقذارة. أما العالم السماوي وكل ما يشتمل عليه وكذلك الإنسان فقد تولى صنعه الاله الصانع القابل للمعرفة والادراك، وذلك بتكليف من الاله المتعالي. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان عالم ما تحت فلك القمر خاضع كله لتأثير الكواكب السبعة وافلاك البروج. ومن هنا توزع البشر الى سبعة اصناف يخضع كل صنف منهالخصائصبرج من البروج الفلكية السبعة. والإنسان مؤلف من جسم مادي، أي غير طاهر، يسكنه الشر ويلابسه الموت، ومن نفس تشتمل على جزء شريف ينحدر من العقل الكلي. هذه النفس الشريفة _بل هذا الجزء الشريف من النفس _ يعيش في صراع دائم مع الرغبات والاهواء التي سببها وجود الجسم. ولجعل حد لهذا الصراع جاء الإله هرمس، الوسيط بين الإله المتعالي والإنسان بتوسط العقل الكلي ليعلن الخلاص ويبين طريق النجاة. غير ان أقلية من الحكماء والاصفياء هي وحدها التي تستطيع ان تتحمل اشراقة العقل (= الكلي) الهادي الى طريق المعرفة الحق، طريق اندماج النفس في الله _= الفناء باصطلاح متصوفة الاسلام). وهؤلاء الحكماء الحقيقيون، المطهرون المقدسون المجتنبون لكل نقص، هم وحدهم الذين يتحررون من المادة ويفلتون من قبضة القدر (= الضرورة) فتصعد نفوسهم الناجية إلى السماء بينما تندمج أجسامهم، بعد الموت، مع جسم كوكب من الكواكب. وقد ترتقي النفس في معراجها الى السماء الثامنة (= السماء العليا) محفوفة بجوقة من الملائكة حراس الاجواء العليا. ذلك هو مصير الحكماء، أما النفوس غير المطهرة فان الزوابع الجوية تلقي بها في سحيق جهنم”، وتشاهد النفس في معراجها هذا كائنات روحية عديدة، ملاك الحياة، ملاك المادة، ملاك الفرح، ملاك الراحة، ملاك الخوف، الإله المنزه من الرغبات الذي ذكره افلاطون في محاورة فادن وطيماوس والإله الأرفي (نسبة إلى النحلة الارفية) كما تشاهد “البرزخ الذي يقول عنه الرواقيون والمنجمون انه يفصل العالم السماوي عن العالم الارضي”.
واضح من هذا الملخص، الذي نقرأ فيه، رغم تركيزه كثيراً من الأفكار التي راجت فيما بعد في الثقافة العربية الاسلامية، وفي أوساط المتصوفة والتيارات الباطنية خاصة، ان المسائل الرئيسية التي تعالجها الفلسفة الدينية الهرمسية تدور حول قضية الالوهية ونشوء العالم، وقضية النفس وخلاصها، وقضية وحدة الكون وتبادل التأثير بين اجزائه.
هذا باختصار عن مسألة الالوهية في الأدبيات الهرمسية. أما عن قضية النفس، اصلها وطبيعتها ومصيرها فهي مسألة يعني بها بكيفية خاصة التيار المتشائم الذي يتبنى نظرية الإله المتعالي. ان اصحاب هذا الاتجاه اذ يقيمون فاصلاً لا نهائياً بين الله والعالم واذ يؤكدون بالتالي ان الله لا تدركه العقول ولا الابصار، يؤكدون من جهة أخرى ان الطريق إلى معرفة الله هي النفس لأنها جزء من الإله. انها تستطيع معرفته حق المعرفة عندما تتمكن من الاتصال به والعودة اليه. اما العقل فهو في نظرهم انما يستمد مدركاته من الاجسام وما في حكم الاجسام، والاجسام لا يمكن ان تؤدي باية صورة من الصور الى معرفة الله.
هذا الطريق، طريق معرفة الله بالنفس لا بالعقل، يقول به جميع الغنوصيين (= العرفانيين). غير ان ما يميز غنوصية الهرمسية هو تأكيدها على الاصل السماوي _الإلهي للنفس. والنصوص الهرمسية تشرح ذلك من وجهين: اما القول بأن النفس هي من اصل الهي لكونها “بنت الله” حسب حرفية بعض النصوص، واما القول بأنها عبارة عن مزيج، من عناصره “شي من الله نفسه”. وتؤكد نصوص هرمسية أخرى ان الله لم يخلق من الانسان الا ذلك الجزء الذي هو من طبيعة الهية، أي النفس، والذي يحمل في ذاته صورة الله في الانسان، وهذا هو المعنى الذي تعطيه هذه النصوص للعبارة الرائجة يومئذ والقائلة: “خلق الله الإنسان على صورته” بإعادة الضمير إلى الله.
النفوس البشرية كائنات الهية، كانت تعيش في الأصل في العالم الإلهي، ثم ارتكبت ذنباً فكان عقابها هبوطها إلى الابدان سجنها. فكيف يمكن تخليص النفس والنجاة بها من الضياع في المادة وما يتبع ذلك من سوء المصير: سحيق جهنم؟
ليس هناك شيء يُخلَّصُ النفس البشرية في نظر الأدبيات الهرمسية غير “المعرفة”. ولكن أية “معرفة”؟ انها تلك التي يرشد إليها هرمس الذي جاء يعلن الخلاص. وهذه المعرفة لا تعني “العلم”، أي اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل قصد التطهير والتخلص من المادة والاندماج من جديد في العالم الإلهي، لا بل الفناء في الله. انه التصوف الهرمسي الذي نقرأ ملامحه واضحة في التصوف الاسلامي.
والواقع أن التصوف الهرمسي بنوعيه الانتشاري (= الاتحاد، الفناء) والانكفائي (= الحلول) ليس سوى مظهر من مظاهر هذه النظرة الواحدية إلى الكون ونتيجة من نتائجها. ذلك أن القول بالأصل الالهي للنفس وهبوطها إلى البدن عقاباً لها، ثم القول بإمكانية عودتها إلى أصلها للاندماج في الله معناه القول بوجود قوة روحانية في العالم تسري فيه سريان النفس في الجسد. وإذا كانت هذه النظرة قد سادت العالم القديم كله بما في ذلك الفكر اليوناني في أوج عقلانيته، فإن الفرق كبير جداً بين التوظيف العلمي الفلسفي لهذه الفكرة من طرف العقلانية اليونانية وبين التوظيف اللا عقلاني _ السحري لنفس الفكرة.
وحدة الكون، الترابط بين أجزائه، تبادل التأثير بينها بالتجاذب والتنافر.. تلك هي الأسس التي يقوم عليها التصور الهرمسي للكون والذي يؤسس في ذات الوقت العلوم “السرية” الهرمسية من كيمياء وتنجيم وسحر.
دمج العلم في الدين والدين في العلم علامة من العلامات البارزة التي يكشف فيها “العقل المستقيل” عن نفسه وهويته. إنه يطلب أن “يعقل عن الله” حتى تلك الأمور التي تركها الله للانسان كي يعقلها مباشرة عن الطبيعة فيسخرها لمصلحته أو يتخذ منها دليلاً وهادياً إلى إثبات وجود الله نفسه، هذا فضلاً عن تلك الأشياء التي قال فيها نبي الإسلام (ص): “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”. فلنتبع آثار ومواقع هذا “العقل المستقيل” في الثقافة العربية الإسلامية التي استشرى خطره فيها رغم الحديث المذكور، بل رغم كل ثقل “المعقول الديني” البياني العربي.
………………………….
المصدر:تكوين العقل العربي
iThere are no comments
Add yours