النص يمارس حجباً مضاعفاً، إذ هو يحجب ذاته كما يحجب ما يتكلم عليه. مثال ذلك الخطاب الإلهي، أي القول بأن الله هو الحكم. فإن مثل هذا القول يحجب أولاً طبيعة السلطة أي ناسوتيتها. ويحجب ثانياً رغبة القائل به في ممارسة سلطته على من يتوجه إليهم بالخطاب. ويحجب ثالثاً ذاته وحجبها أي كون النص نفسه يمارس سلطته على السامع أو على القارئ. وهذا شأن الدعاة وذوي العقائد. فما يصرح به الداعية هو أنه يدافع عن العقيدة والحقيقة أو يحرس الذاكرة والهوية. ولكن مبنى قوله، أي ما يسكت عنه القول ولا يقوله، هو أنه يدافع عن مرجعيته وسلطته أو سلطانه، وأنه يتصرف إزاء سواه بوصفه أولى منهم بأنفسهم. وبكلام أصرح فمنطوق خطاب الداعية أنه يدعوك إلى أمر ما، قد يكون الإيمان والصدوع بأمر ربك وقد يكون الانخراط في مشاريع الثورة والتحرير أو التغيير، ولكن ما يتستر عليه خطاب الداعية هو كونه يمارس سلطته عليك فيما هو يدعوك إلى الأمر، أي كونه يصبح مصدر الأمر والنهي، ولهذا فإن داعية الحرية يؤسس لسلطته على غيره فيما هو هو يدعوهم إلى ممارسة حرياتهم. ووظيفة الخطاب أن يحجب ذلك. مثال آخر بارز يقدمه الخطاب الماركسي. فهذا الخطاب إذ يدعوك إلى محاربة الإمبريالية والهيمنة، يخفي ذاته، إذ هو يجعلك تغفل عن كونه يمارس عليك أمبريالته، واعني المقولات والتصورات. هكذا لا ينفك الخطاب عن الحجب.
وهذا شأن خطاب نفسه، ذلك أن الذي يدّعي رواية الحقيقة يخفي أولاً حقيقة الخطاب الذي يُنسى في معرض الرواية. ويخفي ثانياً ما يتكلم عليه، أي الحقيقة نفسها، إذ هو بتسميته لها يحولها إلى شيء لاهوتي ما ورائي، أي إلى شيء أحادي مطلق يتعالى على حدثيته ويفارق محايثته، وذلك باستخدامه مفهومات كالذات والحضور والوعي والتطابق واليقين والثبوت… هذه هي الأدوات المفهومية التي تُستعمل في خطاب الحقيقة والتي يعمل النقد على تفكيكها واختراق كثافتها. إنها البداهات المنسبة التي يسكت عليها الخطاب ويستبعدها من دائرة النقد والفحص أي هي ما ينبغي مساءلته واستنطاقه. بهذا المنظار إلى الخطاب تستوي خطابات متعارضة من حيث المضامين والطروحات والشعارات، ولكنها تستخدم نفس البداهات ونفس آليات التفكير، كما يستوي، مثلاً، هيغل وماركس، لأن الخطاب عند كل منهما يحجب بداهته وما يتأسس عليه، أعني أن كليهما يتعامل مع الحقيقة بالطريقة نفسها، أي بوصفها تطابق الذات والموضوع أو تواطؤ اللفظ والمفهوم. فالبداهات واحدة وإن اختلفت المذاهب والاتجاهات. كذلك تستوي، من هذا المنظار، الخطابات العقائدية على اختلافها وتعارضها، لأنها تستخدم، جميعها، نفس النظرة الأحادية إلى الحقيقة ونفس المنطق القائم على الحصر والاستبعاد أو على الإدانة والإقصاء. بذلك يستوي الماركسي والإسلامي والقومي وكل ذي معتقد أو صاحب مذهب أو أدلوجة، إذ الكل يستخدمون نفس الأدوات المفهومية ونفس آليات الحجب والتضليل ونفس البداهات المنسية من فرط انكشافها. وهذه هي خاصية الخطاب، إنه يحجب البداهة التي هي مبناه وشرط إمكانه, تماماً كما يحجب الخطاب اللاهوتي ناسوتيته التي هي من الوضوح بحيث يتناساها الكلام فيما يتكلم عليه، وتلك هي مخاتلة الكلام.
حتى الخطاب الانطولوجي، أعني خطاب الوجود، لا يخلو هو الآخر من حجب وستر، ليس لأن الوجود يحتجب بذاته كما ذهب إلى ذلك هيدغر، بل لأن الكلام يحجب أصلاً كما أذهب إليه. وما يحجبه الكلام على الوجود هو الموجود نفسه. وإذا كان هيدغر قد بيّن أن الفلسفة الماورائية منذ أفلاطون قامت على نسيان الوجود، فإنه لم ينج هو نفسه من شباك النظرة الماورائية، بقدر ما وقع في شرك الكلام، أي بقدر ما ظل يستعمل كلمة “الوجود” بطريقة ماورائية. والحال فإن هذه الكلمة هي نفسها ذات أبعاد وظلال ماورائية لاهوتية. إنها تحجب ما يوجد بإحالته من شيء محايث مشروط إلى شيء لاهوتي يتعالى على كل شرط. فما يوجد في النهاية ليس الوجود بالحرف الكبير، وبالمعنى الماورائي أو اللاهوتي، وإنما الذي يوجد هو هذا الشيء الذي لا ينفك يحدث أو يتزحزح عن مركزه أو يختلف عن ذاته أو يتجاوز اسمه. من هنا وجه الإشكالية في التسمية. ومن هنا فالكلام هو مصدر الحجب والمخاتلة. وتلك هي ضريبة الثقة المفرطة بالأسماء والكلمات.
المصدر : نقد النص
iThere are no comments
Add yours