JPEG

من خلال عرضه للمقولات المنطقية


1- لغة النصوص الأرسطية ومهمة ابن رشد

من المسلم به أن فلسفة “أرسطو” نُقلت إلى العربية، إما مباشرة من اليونانية، وهذا هو شأن كتاب المقولات الذي نقله “حنين بن إسحاق”، وإما عن طريق السريانية التي طبعتها أساليب اليونان في التعبير مثل مقالات ما بعد الطبيعة التي نقلها “أسطات”.

وقد عرف النقلة الطريقتين المتبعتين في الترجمة، وهما طريقة الترجمة الحرفية وطريقة الترجمة الحرة، إلا أنهم كانوا يؤثرون الأولى باعتبارها تمثل الأسلوب العلمي الصحيح للنقل أو، بتعبير “حنين بن إسحاق”، “لأنها أبلغ وأفحل”.

كما كانت معرفة هؤلاء المترجمين بالعربية غير متينة، بل كانت أحياناً لا تتجاوز معرفة العامية، وقد كانت صلتهم بكثير من الألسن بدورها حائلاً دون امتلاك إحداها امتلاكا حقيقيا.

أما معرفتهم بالفلسفة، فلم تكن حقا معرفة المختصين، ولم تكن مقصودة لذاتها، بل كانت عندهم وسيلة لإتقان الترجمة، وربما اكتسبوها عن طريق التمرس على نقل النصوص الفلسفية.

وهناك عنصر أخير فات الباحثين الوقوف عنده لهذا الاعتبار أو ذاك، لكنه عندنا يكتسي في تقويم أعمال الترجمة العربية أهمية لا تقل قدراً عن أهمية عنصر معرفة اللسان أو معرفة الفلسفة، وهذا العنصر هو أن هؤلاء النقلة كانوا في غالبيتهم على ملة السيد المسيح عليه السلام، وقليل منهم صابئة، وليس فيهم مسلم واحد، مما ترتب عليه أنهم تركوا تعاطي الاحتكاك بالنص القرآني، مع أن هذا الاحتكاك هو الذي سيعمل على تكوين “اللغات الاصطلاحية” العربية أو، قل إن شئت، “اللغيّات” التقنية العربية وتسديد أساليبها وفق المقتضيات البيانية للتعبير العربي السليم.

واجتمعت هذه العوامل كلها: “الترجمة الحرفية” و “النقص في امتلاك ناصية العربية” و “الضعف في التكوين الفلسفي” و “قوة المعتقد غير الإسلامي” لكي تؤدي إلى وضع لغوي جدا معقد لا تفيد معه معرفة قواعد اللسان العربي ولا أساليب الكتابة العربية، إذ يستحيل على العارف باللسان العربي وحده أن ينفذ إلى معمياته؛ فلنسم هذه العوامل الأربعة بـ “عوائق الترجمة العربية للفلسفة” ولنشرع في بيان ما نتج عن هذه العوائق من قلق في العبارة وغموض في الأغراض.

1.1- قلق العبارة وغموض الأغراض

1.1.1- قلق العبارة: من آثار تعقد هذا الوضع اللغوي في نطاق النصوص المذكورة، نذكر ضربين من القلق التعبيري، وهما:

أ- القلق الصرفي: ينشأ هذا القلق عن النقل الحرفي للصيغ الصرفية اليونانية؛ ومثاله:

(1)- استعمال لفظ “الموجود” حيث يجب استعمال لفظ “الوجود”.

-  استعمال لفظ “الصادق” حيث يتعين استعمال لفظ “الصدق”.

-  استعمال الصيغ الطويلة: “المتفقة أسماؤها” / “المتواطئة أسماؤها”/ “المشتقة أسماؤها” حيث يحسن استعمال الصيغ القصيرة: “المتفقة”/ “المتواطئة”/ “المشتقة” على التوالي.

كما ينشأ القلق الصرفي عن استعمال بعض الصيغ العادية بغير ما تدل عليه عند الجمهور؛ ومثاله:

(2)- استعمال “يقال على” حيث يصح استعمال “يدل على”.

وينشأ كذلك عن استحداث بعض المفردات التي لا تخضع للصرف العربي؛ ومثاله:

(3)- استحداث المفردتين: “المتى”/ “المعا” من غير ما حاجة إليهما، إذ توجد اللفظتان: “الزمان” و “المصاحبة”.

ب- القلق النحوي: مرد هذا القلق الثاني إلى إقحام أدوات وألفاظ مختلفة في الجملة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك؛ ومثاله:

(4) استعمال “يوجد”/ “هو” في مواضع من الجملة لا يصح استعمالهما أو يُستغنى عنهما فيها.

كما أنه قد يرجع هذا الضرب من القلق إلى عدم إظهار المعاني النحوية المقدرة في اليونانية والتي يخل حذفها بنظام الجملة في اللسان العربي أو على العكس من ذلك عدم إضمار المعاني اليونانية التي يكون ذكرها في الجملة العربية مخلا بنظامها، فضلا عن عدم التزام الشروط التبليغية للتقديم والتأخير بالنسبة لعناصر هذه الجملة؛ ومثاله:

(5) استعمال الجملة العسيرة: “المتفقة أسماؤها يقال إنها التي الاسم فقط عام لها، فأما قول الجوهر الذي بحسب الإسم، فمخالف، حيث يمكن استعمال الجملة اليسيرة: “الأسماء المتفقة هي الأسماء التي لا تشترك مسمياتها إلا في الاسم، ولا اشتراك لها في المسمّى”.

1.1.2- غموض الأغراض: من مظاهر التعقيد اللغوي الناجم عن عوائق الترجمة العربية غموض الأغراض؛ فقد كان لابد لركاكة التعابير التي تتسم بها النصوص المنقولة من أن تؤثر أيما تأثير في مستواها التبليغي، هذا المستوى الذي تحصل به للمخاطب القدرة على الفهم والذي لا يمكن تحقيقه إلا إذا التزمت العبارة بمعايير التركيب السليم.

ثم إن مخالفة الأمثلة الواردة للمقاصد الممثّل عليها أحدثت اضطرابا في الإدراك المباشر للنص وضاعفت من الغموض الموجود فيه بسبب رداءة التعبير نحو:

(6) مثال “الخاتم في الأصبع” للدلالة على معنى من معاني “له”.

بالإضافة إلى ذلك، نجد الغموض الذي يختص به النص الفلسفي من حيث هو كذلك الناتج أصلاً عن المستوى التجريدي لمفاهيمه وأحكامه والذي يتساوى في الشعور به العربي واليوناني والسرياني، كما أن هناك الغموض الخاص الذي يتسبب فيه المجال التداولي واليوناني والسرياني، كما أن هناك الغموض الخاص الذي يتسبب فيه المجال التداولي للقارىء العربي والذي يحول دون تجاوبه مع النص؛ والمراد بـ “المجال التداولي” هو كل الوقائع والقيم الثقافية المميزة لمجتمعه والعاملة في توجيه أقواله وأفعاله وتكوين نظرته الخاصة إلى العالم.

ناهيك عن الغموض المبدئي العام الذي هو غموض كل نص مكتوب، فلسفيا كان أو غير فلسفي؛ فكل نص مكتوب يحتمل بما هو كذلك تأويلات وقراءات قد لا تقف عند نهاية معلومة، فهو يصل إلينا أساسا، كما يقول أحد اللسانين المرموقين، بصيغة الجمع.

واذا كان الأمر كذلك، فكيف إذن واجه ابن رشد هذه الظاهرة اللسانية المعقدة، وما هي وسائله في هذه المواجهة للنص المترجم؟ وهل استطاع أن يتغلب على “قلق العبارة” في مستواها الصرفي والنحوي وعلى “غموض الأغراض” بأصنافه المختلفة: التعبيري والدلالي والاصطلاحي والتداولي والتأويلي؟

2.1 – عمليتا “التلخيص” و “الشرح”

في هذه الوضعية التي يحتوي فيها النص المترجم مختلف درجات الركاكة والاستغلاق بسبب العوائق المذكورة، بالإضافة إلى ما يمكن أن يقع فيه من إسقاط أو تحريف من لدن الناسخ أو سوء فهم من لدن الناقل، يكتسب “التلخيص” و “الشرح” معنى متميزا واعتبارا جديداً.

فليس يُنتظر من “التلخيص” أن يتخذ إحدى صورتيه التقليديتين، إما النقل المركز والأمين لمضمون النص، وإما الاستخراج المحكم للأفكار الرئيسية للنص.

كما لا ينتظر من “الشرح” أن يكون مجرد تفسير للألفاظ التقنية والغامضة وتوضيح لمقاصد النص الفلسفية والتعليق عليها متى اقتضى الحال ذلك.

1.2.1- التلخيص كعملية لمواجهة النص المترجم: الواقع أن مهمة التلخيص عند ابن رشد تقوم أصلا في أمرين اثنين: أحدهما “رفع قلق المصطلح من النص المترجم” والثاني “رفع قلق الجملة منه”؛ لذا، نجد ابن رشد يتتبع هذا النص جملة جملة ينقله نقلا إلى حد أن ما “يلخصه” يبدو وكأنه ترجمة ثانية أسلم من الترجمة الأصلية.

فحينئذ لا يكون التلخيص عند ابن رشد، كما يعتقد بعض مؤرخي الفلسفة، تفسيراً أوسط ولا نصاً مجملا، وإنما هو، على الحقيقة، عملية أو قل منهج من مناهج مواجهة النص المترجم، وهو بالذات منهج تقويم اعوجاجه؛ ولما كان ابن رشد في تلخيصه لا يفسر ولا يُجمل ما يقول أرسطو، وإنما يعمد إلى تقويم لغة النص المترجم من الناحية الصرفية والناحية النحوية وتقريبها من العربية السليمة، فإنه لم يكن يميز بين كلامه ومقاله “أرسطو”، ويكتفي بأن يفتح التلخيص بعبارة “قال أرسطو” ويواصل كلامه دونما إشارة إلى نهاية مقالة “أرسطو”.

ولا غرابة عندئذ أن تتداخل عملية التلخيص مع المناهج الأخرى التي واجه بها ابن رشد النص المنقول وأن تتخلل منهج الشرح الذي اتبعه، ذلك أنه، هنا أيضاً، يعيد صوغ العبارة قبل أن يتناولها بالشرح والتعليق وتقريبها إلى الأذهان، ولا يتعذر علينا أن نستخلص مما أعاد صياغته في الشرح ترجمة أجود من الترجمة الأصلية.

أ- تقويم المصطلح: في عملية التلخيص هذه ذات الصبغة التقويمية، يستبدل ابن رشد بمصطلحات النص المترجم مصطلحات متداولة نذكر منها على سبيل المثال:

(7) قول الجوهر/ الحد – مقصود إليه بالإشارة/ المشار – المصمت/ الجسم – الحقيقة/ الصدق – مائية/ ماهية – كلمة/ حد – الأمور العامية/ الأوائل – السولابي/ المقطع – نجَم/ نما – الجوامع/ المقاييس – الكنه/ الماهية)؛

حيث ترد مصطلحات النص المترجم على يمين الخط المائل/ ومصطلحات ابن رشد على يساره.

كما أنه قد يستعمل المصطلح الذي يختاره بجوار المصطلح الذي تتضمنه الترجمة، فكثيرا ما يقرن لفظ “الهوية” بلفظ “الموجود”، مقدما لذلك تبريرا لغويا مفاده أن “الموجود” يتميز عن “الهوية” بصورته الصرفية، وإن كان لا يفي بالمدلول اليوناني كما تفي به “الهوية”.

ب- قلق الجملة: أما بالنسبة لتراكيب الترجمة، فقد عمد ابن رشد إلى تقويم الجمل السقيمة بأن استبدل ببعض أجزائها أجزاء أخرى أو غيّر ترتيبها أو أظهر المحذوف منها أو حوّر التعابير التي تصل الجمل بعضها ببعض.

كما كان ابن رشد يشير إلى عادة اليونانيين في الاستعمال ويقارن بينها وبين الاستعمال العربي.

ولم يقف ابن رشد عند هذا الحد، بل حاول في مواضع مخصوصة أن يرقى بتلخيصه إلى مستوى التعريب التداولي، فيستبدل في الأمثلة بأسماء الأعلام اليونانية أسماء عربية، بل أن يُقرب مضامين بعضها تقريبا إسلاميا، كأن يجعل من “أطلس” الإله اليوناني “ملكا”، وفي موضع آخر يُؤول اسم الجنس: “الإله”، بمعنى “الفلك”.

ومن الراجح أن يكون ابن رشد قد استعان بتعاليق الحسن بن سوار على ترجمة حنين بن إسحاق لكتاب المقولات، هذه التعاليق التي تتضمن شروحا ضافية وتحليلا لغويا لبعض التعابير غير المألوفة والمستعملة في النص المترجم، كما تتضمن بعض جوانب مقارنتها مع وجوه الاستعمال اليوناني، ومما يؤكد ذلك اتفاق بعض التراكيب الواردة عندهما، كما أن كتب الفارابي كانت -مما لا ريب فيه – مرجعاً أساسياً في عملية التلخيص الرشدية، وخاصة منها كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق وشرح المقولات وكتاب الحروف.

2.2.1- الشرح كعملية لمواجهة النص المترجم: أما الشرح، فهو الآخر عملية أو منهج من مناهج مواجهة النص المترجم، ويقوم بالذات في توضيح غموض أغراضه؛ لذلك، يعمد ابن رشد إلى تجزيء المقالة إلى فقرات متتالية متفاوتة الطول، ثم يتناول الفقرة الواحدة، بالتحليل جملة جملة؛ ولعملية الشرح عنده وجهان متعارضان ومتكاملان: أحدهما استئصالي والثاني تأصيلي.

أ- الوجه الاستئصالي للشرح: لقد جعل ابن رشد من أهداف شرحه هدم البناء الفلسفي الذي شيده فلاسفة الإسلام المتقدمين من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي والذي تميز بكونه اجتهاداً صريحا في ملائمة الفلسفة اليونانية مع مقتضيات التداول الإسلامي.

ومن مظاهر هذا الهدم في سياق نظرية المقولات، نذكر نقده للتفرقة التي أقامها هؤلاء بين “الماهية” و “الوجود”، إذ اعتبروا الوجود غير مقوم لماهية الأشياء التي من الممكن تعقلها بدونه، وبالتالي جعلوا منه عرضا زائداً يضاف إلى ماهية “ممكن الوجود بذاته”، كل ذلك لإثبات مبدإ الخلق الإسلامي حتى ولو في صورة الفيض كما ذهبوا إلى ذلك.

ب- الوجه التأصيلي للشرح، يقوم ابن رشد باستنطاق النصوص الأرسطية، مستهدفا الكشف عن أصالة التفكير الأرسطي وحقيقته؛ ومما انتهى إليه أن “الموجود” يدل على مقولات عشر، وهي: “الجوهر و “الكم” و “الكيف” و “الإضافة” و “الأين” و “المتى” و “الوضع” و “له” و “أن يفعل” و “أن ينفعل”، وأنه لا “يقال عليها” باشتراك، لأنه لو كانت متفقة الاسم ومختلفة المعنى، لامتنع قيام علم بالموجود، كما أنه لا “يقال عليها” بتواطؤ، لأنه، متى حصل الاتفاق في الاسم والمعنى، تصبح المقولات جنسا واحداً أو أنواعاً لجنس واحد، وهذا ينقصه واقع اختلاف العلوم، وإنما “يقال” “الموجود” على المقولات بتشكيك، أي يدل عليها دلالة الأجناس المختلفة على الشيء الواحد والأول والتي تنسب إليه نسبة تقديم وتأخير.

وقد استعمل ابن رشد لهاتين الغايتين: الاستئصالية والتأصيلية، كل الوسائل الشرحية التي توفرت له؛ فقد قارن نصوص أرسطو فيما بينها كما قارن مختلف الترجمات لها، واعتمد الشروح المتعددة لفلاسفة المدرسة الهيليستينية نحو “الاسكندر الأفرودسي” و “تامسطيوس” و “سمبليقوس” و “فورفوريوس”، ولفلاسفة الإسلام كالفارابي وابن باجة وابن طفيل؛ واستفاد من أساليب الشرح والتفسير لكل من المدرسة الهيليستينية ومدرسة بغداد والمدرسة الإسلامية مع مفسري القرآن وخاصة في ترتيب أصولهم.

ولا نستغرب بعد هذا أن يحيط ابن رشد بمعاني أرسطو ويقدر على استرجاعها على وجهها الصحيح حتى ولو أخل بها نص الترجمة، وأن يمحو منها آثار تصرف فلاسفة الإسلام والمتكلمين فيها.


2- التقويم اللساني لمهمة ابن رشد

لقد تقرر في الدرس اللغوي الحديث أن اللسان الطبيعي ليس قاموسا للمفردات، وإنما هو على الحقيقة نسق مترابط العناصر بحيث لا يتغير واحد منها في وضعه أو وظيفته دونما أثر في باقي العناصر.

ويدعونا هذا التصور اللغوي من ناحية إلى الكف عن المفاضلة بين الألسن الطبيعية، فتعد بعضها أبلغ أو أكمل من بعض، ومن ناحية أخرى إلى أن نثبت أن لكل لسان إمكانات فكرية مناسبة لخصائص نسقه في مختلف مستوياتها.

كما أن مفهوم الترجمة، في إطار هذا التصور العلمي، يتغير بحيث تصبح الترجمة، أساسا، نظرا في المعنى وفي مقتضى الحال، لا يتقيد بالصورة اللفظية ولا بالتركيب النحوي إلا في حدود استجابته لمقتضيات الدلالة والتداول.

ولا بد لهذا المفهوم الجديد من أن يؤدي إلى تكييف المعاني المنقولة مع أحوال اللسان الناقل، أي يفضي إلى إحداث “تغيير” في المعنى المنقول بحسب وضعه اللساني الجديد؛ وها هنا يجب التنبيه على أنه يتعين على الفيلسوف ألا يعد هذا التصرف في المنقول في سياق النص الفلسفي إخلالا به أو تحريفا له، بل عليه أن يتحمل تبعاته في وعي كامل، بل وأن يستفيد منه في تحقيق أغراض فلسفية جديدة لم يَرُمها النص الأصلي.

وقد نصطلح على هذه العملية التغييرية للمضامين الفلسفية بالإضافة إلى الصلة بين اللسانين: اليوناني والعربي، بلفظ “التقريب الإسلامي العربي”، فهذا التقريب هو إذن عبارة عن تبليغ المعاني الفلسفية إلى الناطق العربي بحسب المقتضيات التغييرية لكل مستوى من مستويات لغته، الصرفي منها والتركيبي والدلالي والتداولي.

1.2 – اللغة الفكرية

يمكننا، في نطاق هذا الوعي اللساني المستجد، أن ننظر إلى “اللغة الفكرية” -أي اللغة الخادمة لجانب من جوانب الفكر -نظرتنا إلى اللسان الطبيعي، فعندها هي الأخرى نسقاً من المصطلحات التقنية التي تستمد خصائصها النطقية من اللسان الطبيعي، نسقا مزودا بنفس المستويات اللغوية التي زوّد بها هذا الأخير، لكل مستوى من هذه المستويات مقاييس أو شروط تحدد درجة التزام كل لغة فكرية بخصائص اللسان الطبيعي الذي تتفرع منه كما تحدد مرتبتها بالنسبة لباقي اللغات الفكرية.

وقد عرف العالم الإسلامي العربي من اللغات الفكرية “اللغة الفلسفية” و “اللغة الكلامية” و “اللغة الصوفية” و “اللغة الأصولية” و “اللغة التفسيرية”؛ ومن هذه اللغات التقنية ما كانت استجابته لشروط مستوى أقوى من استجابته لشروط مستوى آخر أو أقوى من استجابة لغة أخرى للمستوى نفسه.

وإذا كان بعض الفلاسفة قد استقامت لغتهم على مقتضى التداول العربي، فإن مرد ذلك إلى احتكاكهم بالنص القرآني أو ببعض اللغات الفكرية الأخرى التي احتكت به، وتختلف عندهم درجة هذه الاستقامة باختلاف درجة هذا الاستمداد.

ومن هنا يمكن تفسير اختلاف مستويات اللغة الفكرية لابن رشد، إذ يكون أقدر على التبليغ العربي عند مناقشة المتكلمين أو الموازنة بين الفلسفة والشريعة منه عند عرض المسائل الميتافزيقية الأرسطية، بل يمكن تفسير تقارب لغته الفلسفية في جوانب منها مع لغة الكندي وامتياز لغة ابن سينا على لغته وامتياز لغة الغزالي عليهما معاً.

…………………………………

المصدر: اللسان والميزان أو التكوثر العقلي .