عقبة معرفيّة رئيسة في الفكر العربي
لم يكن لإشكالية التراث-الحداثة أن ترسم المشهد الثقافي في الكتابة العربية الراهنة لو لم تكن في الأصل تطبع الفكر العربي بطابعها المنهجي الخاص. لا يقتصر نظام المواقف والعادات الذهنية على نموذج واحد من نماذج الكتابة العربية؛ ففي تنوع الأفكار واختلاف صورها وأشكالها، تعمل الإشكالية وتوجّه الأبحاث والدراسات في مجمل الميادين كافة. وحتى الوقت الحاضر، لم يتمّ وعي إشكالية التراث-الحداثة بوصفها عقبة معرفيّة رئيسة في الفكر العربي، ولا يوجد بحث واحد أو دراسة واحدة أو مقالة واحدة أو كتاب واحد بالعربية يتفلّت من هذه الإشكالية ويتحرّر منها ويبتعد عنها ويكشف النقاب عن حقيقتها ويلقي الأضواء العلمية عليها. ما هو موجود في الكتابة العربية بالفعل، دعوات قليلة جداً ونادرة إلى تجنب الانزلاق نحو هذه الثنائية أو تلك؛ فقد يقف أحد الباحثين أو الدارسين أو المفكرين العرب موقفاً نقدياً من ثنائية الشورى-الديموقراطية على سبيل المثال، أو من ثنائية العلمانية – الدين، أو من ثنائية التاريخي – اللا تاريخي… إلخ، ولكن هذا الموقف النقدي لا يحول دون أن يتبنّى الباحث أو الدارس أو المفكر العربي نفسه، وفي موقفه النقدي عينه، القسمة الثنائية بين تراث وحداثة على سبيل المثال، أو بين فكر تاريخي وفكر تقليدي، أو بين مثقف فكر تاريخي وإيديولوجي فكر تقليدي… إلخ؛ ونكتشف في نهاية الأمر أن هذا الباحث أو الدارس أو المفكر وقف موقفاً نقدياً من ثنائية في ذاتها، ولم يقف موقفاً نقدياً من منطق القسمة الثنائية بوصفه عقبة معرفيّة رئيسة في الفكر العربي.
وإذا شئنا أن نضع ترسيمة منهجية موجزة، كان لنا أن نميّز بين ثلاثة أصعدة نظرية: صعيد الآحادية البنيوية، صعيد الخصوصية البنيوية، صعيد التعدد البنيوي، وعلى كل صعيد من هذه الأصعدة، نشهد انزلاقاً منهجياً خاصاً؛ وفي تقاطع الانزلاقات المنهجية، مع أصعدتها النظرية، يقوم وينهض منطق القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.
صعيد الآحادية البنيوية
يتكرّر في ثنائية الكتابة العربية منهج تتعدد أشكال العبارة عنه ويضرب جذوره في نمط محدد من المقاربات يكون موضوع البحث منتهياً عنده قبل أن يبدأ بحث الموضوع بالفعل، ذلك أن الباحثين والمفكرين العرب يضمرون ويعلنون نظرة إلى الآحادية البنيوية العربية تجمّدها في صورة جوهر سابق على الوجود، أو في صورة نموذج مجرد يتصف بالغيبية ويرتكز إلى “أمرٍ ما” خفي يشكل المرجع الضمني للآحادية البنيوية المجتمعية؛ ولابدّ من أن يأتي يوم تعود فيه الآحادية البنيوية إلى وحدتها النقية، الصافية، البريئة الحيادية، المنسجمة والمتوحدة.
لا تنفرد هذه النظرة المنهجية، كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، بالتيار الفكري القومي العربي وإنما تتعدّاه إلى تيارات فكرية أخرى تبدو، في الشكل، على النقيض منه، فالمنهج الذي يتملّكه هاجس التأكيد على وحدة الآحادية، والمنهج الذي يتملكه هاجس التأكيد على العقبات التي تنتصب في وجه وحدة الآحادية، والمنهج الذي لا يرى سوى مجتمعات نقيضة للمجتمع العام… كل هذه المناهج تقف على الأرضية المنهجية ذاتها ويجمع مُتفرقها نوعٌ من المعالجات يضرب جذوره في تربة الوحدة البديهية. حتى عندما تتجه الرؤية إلى العقبات التي تنتصب في وجه الآحادية، فإن منطق الفهم يبقى نفسه؛ وهو لا يتجاوز ما يحول دون عودة الآحادية إلى وحدتها البديهية المفترضة.
وفي هذا السياق المنهجي، أن يقال على سبيل المثال إن لبنان بلد عربي وأن تُقَدّم المؤشرات المجتمعية الملموسة التي تثبت هذا القول، أو أن يقال إنّ لبنان ليس بلداً عربياً وأن تُقدّم المؤشرات المجتمعية الملموسة التي تثبت هذا القول، أو أن يُقال إن لبنان بلد متعدد القوميات والحضارات وأن تُقدّم المؤشرات المجتمعية الملموسة التي تثبت هذا القول، كل هذه الأقوال تعود إلى منطق واحد تحكمه النظرة المنهجية التي تعتبر الآحادية البنيوية المجتمعية معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق. وأقصى ما يتيحه هذا المنطق من سجال بين التيارات الفكرية، التراشق بالنماذج النظرية وتحوّل هذه النماذج من أدوات عمل معرفية إلى “أشياء” تصبح إدانتها أو تقليدها الأوسمة الهدف الرئيس الواعي أو اللا واعي. ضمن هذا الإطار، يأخذ التراشق بالبداهات النظرية طابع المواجهة التي تفترض، كل مرة تدور فيها، الحسم الفوري، المباشر والآني.
في مقابل هذه النظرة المنهجية، ترتسم معالم نظرة منهجية مختلفة تتخذ من “بناء الآحادية البنيوية المجتمعية” عنواناً رئيساً لها. وهي تفترض انتقال السؤال المنهجي من: هل توجد آحادية بنيوية مجتمعية؟. إلى: كيف تُبنى الآحادية البنيوية المجتمعية؟. ما هي الوجهة في بنائها؟. ما هو المشروع الذي يتصورها بشكل مختلف؟. وما هي طبيعة المشاريع المنتجة لجميع أشكال الوحدة أو التفتت (توحيد، تفتيت، تفتيت تحت عنوان التوحيد، تفتيت وتوحيد…إلخ)؟. وفي إطار هذه الأسئلة فقط يمكن لدراسة الآحادية البنيوية المجتمعية أن تمتلك قاعدة منهجية لا تستنفدها ولا تأخذ فيها أو تنال منها الإجابة عن سؤال غير مطروح لسببين: تعدّد المقاييس التي يمكن الركون إليها لتصنيف الآحاديات البنيوية المجتمعية، من جهة ووجود مقاييس عدة يمكن استخدامها، من جهة أخرى.
في النتيجة، إننا نجد وحدة الآحادية وتخلعها وتفككها وتفتتها في اللحظة النظرية نفسها. أما وضع وجهة النظر المرغوبة في موقع التفتيش الدائم والدؤوب عن مؤشرات تنفي، أو تؤكّد، وحدة الآحادية البنيوية، فلا بدّ من أن يدفع بها إلى الحائط المنهجي المسدود، لوجود نوعي المؤشرات المجتمعية، المؤيّد منها والمخالف.
صعيد الخصوصية البنيوية
يشكل التخلّع والتفكّك والتفتت سمة بنيوية من سمات الآحادية البنيوية المجتمعية الواحدة. وفي هذه الحال، يعني التخلّع تخلّعاً بنيوياً في معنى أنه يدل على طبيعة بنيوية مجتمعية خاصة ومتميّزة، وقنوات بنيوية مجتمعية خاصة ومتميّزة. وتقوم هذه الفكرة المنهجية على وعي التمييز بين الملموس المجتمعي العيني، حيث تتعدّد الروابط وتتشابك العلاقات إلى درجة يصعب حصرها، وبين خط الانتظام البنيوي، حيث تفترض المعالجة تجريداً يتجاوز مجرد ملاحظة الوقائع المجتمعية وتصنيفها وإعلان درجة التكرار والتواتر فيها.
لقد افضت بنا هذه الفكرة المنهجية المهمة إلى التشديد على الفرق بين الهامشية البنيوية الدالة على طبيعة معيّنة لممارسة الدولة سلطتها الفاعلة على كل القطاعات المجتمعية، وبين الهامشية في معنى بقاء الدولة على هامش المجتمع أو على الهامش؛ فقد استحال على الدولة القائمة السيطرة على المجتمع من دون إشراك القسم الأعظم منه في الحكم، وجرى هذا الإشراك تبعاً للنمط الذي نعرفه، أي التحاق مفاتيح المؤسسات المجتمعية بها. وإذا كانت العلاقات المجتمعية هي السدّ الذي ينتصب في وجه الدولة فإنها في الوقت نفسه مرتكز هذه السلطة ومدخلها إلى المجتمع. وبهذا المعنى، ينبغي النظر إلى الدولة في وجهها المتعارض والمتناقض حيث تنهض السلطة على الرأس. ولكن بنية الرأس تتوالد إلى داخل يصمد أمام التفكيك صعوداً عاتياً، وإن أمكن إلحاقه بجهاز سيطرة فوقي أو رأسي أو خارجي.
ما نقوله لا يتعارض على الإطلاق مع أهمية وعي التخلّع البنيوي بين الدولة والمجتمع، أي مع أهمية وعي التمييز بين المنطقين الخاصّين بالدولة والمجتمع؛ وهما منطقان متميّزان، بل متعارضان في كثير من الأحيان؛ وإنما، الأكثر أهمية، ألا يؤدي هذا الوعي إلى اعتبار الدولة جسماً غريباً عن المجتمع، أو اعتبارها شيئاً معطى يعود إلى آحادية بنيوية مجتمعية غير الآحادية البنيوية التي تمارس الدولة فيها سلطتها.
في مقابل وعي التمييز بين الملموس العيني وبين التميّز البنيوي، يتبين لنا الالتباس الذي يعتور الكتابة العربية. ويتجلّى هذا الالتباس في شكلين منهجيين أساسيين على الأقل: فمن جهة، يوازي التخلّع البنيوي ويساوي ظرفاً يقع خارج البنية؛ ومن جهة أخرى، يوازي التخلّع البنيوي، ويساوي آحاديات بنيوية مختلفة ومتباينة. مثلما يجدر بنا أن ننتظر أو نتوقع، ينفرد الشكل المنهجي الأول بالتيار الفكري العربي القومي وحده؛ في حين يختصّ الشكل المنهجي الثاني بالتيارات الفكرية العربية جميعها.
“ينهض النموذج الإسلامي على معطى بديهي يتخذ شكل المعادلة القائلة بأن الشعب المسلم ينبغي أن تحكمه دولة مسلمة. تصاحب تلك المعادلة لازمة بديهية بدورها تعتبر أن الدولة القائمة ليست إسلامية. كيلا تكون الدولة الحالية إسلامية، ينبغي منحها هويّة مغايرة تبتعد عن الإسلام قدر الإمكان. وبما أن الواقع المجتمعي والعربي هو واقع مسلم، فيجدر بهذه الهوية أن تكتسب شرعيتها من واقع مجتمعي آخر. وفي هذا الضوء، تمسي الدولة المحلية “دولة حديثة تقوم على مبادىء الليبرالية الأوروبية وتبني أجهزتها الإيديولوجية والإدارية على النمط الغربي. وهي دولة تمسك بها نخبة بيروقراطية أو تكنوقراطية أو عسكرية”. ومن هذا المنظار، يعيش نموذج الكتابة العربية الإسلامي تحت وطأة انقسام حاد وعام بين مجالين متنافرين، هما: المجتمع الأهلي والدولة. وهو يفترض أن الدولة شيء معطى ينتمي إلى مجتمع آخر غير المجتمع المحلي، بدل أن تتمحور القضايا حول ممارسة الدولة سلطتها ومحتوى هذه السلطة وطبيعتها، يرتسم الحاجز المعرفي ويعلو في وجه الفهم. فالدولة القائمة جسم غريب معروفة هويته ومعروف مصدره. وتصل الأمور في نهاية المطاف إلى “انقطاع الدولة وطبقتها الحاكمة التي تملك إعداداً غربياً في ثقافتها وتقاليدها، الأمر الذي يسهل تحديد الخصم، ليس بصفته يملك السلطة ويمارسها، ولكن لأنه يتمسك بثقافة غربية مغايرة ومعادية”… وفي وجه هذا التحديد، لن نقف مطولاً عند مفاهيم “الليبرالية الأوروبية” و “الأجهزة الإيديولوجية على النمط الغربي ” و “البيروقراطية” و “التكنوقراطية” فكلّها مفاهيم يدفع تفحصها في العمق إلى خروجها المحتوم من دائرة تحديد الدولة المحلية. وما يستوقفنا بالفعل هو بطاقة الهوية التي خصّصت الدولة بها: “دولة حديثة على النمط الغربي”. فما هو المغزى الدقيق لاختيار هذه الهوية؟. ونحن نعلم أن هذا التعبير يشير إلى الدولة الرأسمالية الغربية، فهل دولنا رأسمالية حديثة على النمط الغربي؟ ولماذا المداورة وعدم الإعلان الصريح عن المضمون البنيوي لسمة الحداثة في الدولة؟. لسبب بسيط جداً هو، في رأينا، السبب نفسه الذي حول دون استصدار أية هوية محلية لها: أن تحرّض الهوية المقترحة على دراسة الدولة، مع احتمال أن يكون الإسلام بين مرتكزاتها الأساسية، وأن تكون أقرب إلى الإسلام منها إلى الرأسمالية الغربية؛ ولا يمكن التفلّت من المأزق المنهجي بالتشديد على أن الإسلام الرسمي ليس إسلاماً حقيقياً؛ لأننا في المقابل سوف نسارع إلى طرح السؤال حول المعايير التي يرتكز إليها التمييز بين إسلام حقيقي وإسلام آخر؛ وسوف نكتفي بأي معيار يقدم لنا، فهو يعالج البداهة كلها التي يتصف استخدام الإسلام بها في النموذج المحلي”.
وحتى عندما يتم التفريق بين السلطة من وجهة والدولة من جهة أخرى، فإنّ هذا التمييز لا يتحرّر من أسر الألفاظ؛ فهو يقرّر دون أن يستوقفه الأمر “أن فقدان المؤسسات وعلى رأسها فقدان الدولة المؤسسية هو من أبرز سمات الحياة المجتمعية العربية ” أو “أننا في الوطن العربي لدينا سلطات أو جماعات تمارس السلطة ولديها الجهاز القمعي والعسكري لكي تمارس هذه السلطة؛ وإنما ممارسة السلطة لا تعني إطلاقاً أن الدولة موجودة”. أكثر من ذلك، وعلى قاعدة الخلط المنهجي الأصلي عينه، تتم المواجهة النظرية بين دولة الأشخاص ودولة المؤسسات وكأن دولة الأشخاص لا تملك بنية مؤسسية يمكن التفتيش عنها؛ كما تصبح السلطة السابقة والحالية غير ملتزمة بالمبدأ المؤسسي الذي ينحصر الالتزام به بدولة المؤسسات المعاصرة غير الموجودة في الوطن العربي”.
ونمضي شوطاً أبعد إلى الأمام لنقول إن الباحثين والمفكرين العرب، في غالبيتهم الساحقة، لا ينجحون في تجنّب هذا الانزلاق المنهجي؛ وحتى الذين يأخذون على عاتقهم مهمة “كشف الإيديولوجيا العربية المعاصرة” أو “تجديد الفكر العربي”، لا يقومون بهذه المهمة من منظار وعي التمييز بين صعيد الملموس العيني وصعيد التميُّز البنيوي؛ فـ عبد الله العروي، على سبيل المثال، يمارس الانزلاق المنهجي بجدارة فائقة؛ وهو ينطلق من تشخيص معين يقوم على الخلط بين الصعيدين لينتهي إلى تشخيص معين يقوم بدوره على الخلط بينهما:
“إن هيكل مجتمعنا العربي، أي الاقتصاد، يوجد خارجه، فلا تعود بالضرورة في هذه الحال قطاعاته المختلفة إلى أساس مقبول لدى الجميع.. وضع تتخارج أجزاؤه مخارجة تامة. كل عنصر يردّ بنيته إلى عصر تاريخي مختلف، والدولة التي يفترض أن تكون آلية للتوحيد حسب نظرية الإسلام السياسية، هي نفسها مجتمع جزئي مستقل عما يخالفه ويزاحمه اقتصادياً وسياسياً.. بدلاً من أن نتحدث، كما نفعل عادة، عن سيولة البنى المجتمعية، ألا ينبغي أن نتحدث عن مدى حظها في الواقعية؟. نلاحظ في المجتمع حركتين تعملان باستمرار وتعاكس إحداهما الأخرى: حركة تجريد وتوحيد وحركة تجسيد وتمييز. أثناء فترة مدّ، ونعني تصاعد النضال السياسي، التعبئة لتحقيق المطالب، الحملة من أجل الاستقلال..، تتغلب الحركة التوحيدية التأليفية، وأثناء فترة جزر، ونعني كلال الجماهير، يأس الزعماء، فشل تحرّك…، تتوقف عملية التوحيد بل تعود التنظيمات إلى سابق عهدها في التصلّب فتربط في ما بينها “علاقات برانية”.
مثلما نرى ونشهد ونقرأ ونفهم، بدل أن يشكّل التخلّع البنيوي سمة بنيوية من سمات الآحادية البنيوية المجتمعية الواحدة، يندفع الاقتصاد عند عبد الله العروي خارج الآحادية البنيوية المجتمعية العربية، كما يندفع كل جزء من أجزاء الوضع خارج خط الانتظام البنيوية الذي يلمّ متفرق الأجزاء ويوحدها، ما يجعل الدولة تشكل مجتمعاً جزئياً مستقلاً عمّا عداه.
كذلك، كما نرى ونشهد ونقرأ ونفهم، بدل التفتيش في الآحادية البنيوية المجتمعية عن محددات الوجهة التي تتخذها حركة التوحيد، أو حركة التقسيم، في الملموس العيني، تصبح الآحادية البنيوية المجتمعية نفسها عند عبد الله العروي ظرفاً يتطابق ويتماثل مع فترة مدّ حركة التوحيد أو مع فترة جزرها.
صعيد التعدد البنيوي
إذا كان ازدواج التراث -الحداثة قائماً في الملموس العيني، أي وجود مسالك واتجاهات وقيم مجتمعية تقليدية وحديثة، فالثلاثية قائمة في الملموس المجتمعي العربي أيضاً، وكذلك الرباعية والخماسية.. إلخ. ومن هذا المنظار، كل التصنيفات صحيحة ما عدا التصنيف الذي يختزل الملموس المجتمعي إلى وجه واحد أو نوع واحد أو نمط واحد أو درجة واحدة. وهذا الاختزال غير صحيح طبعاً لأن الملموس المجتمعي العيني متنوع إلى حد بعيد. ويستتبع ذلك أن استخراج ازدواج التراث -الحداثة لا يحصل، ولا ينبغي أن يحصل، إلا بعد إلغائه من الذهن وليس قبل ذلك، أي يمكن استخراج ازدواج البنية وإنما من آحاديتها البنيوية. وفي الوقت نفسه يمكن استخراج ثلاثية البنية أو رباعيتها أو خماسيتها من آحاديتها البنيوية أيضاً؛ والآحادية البنيوية المجتمعية هي التي نستخرج منها التعدد البنيوي.
توجد إذن مرحلة آحادية البنية قبل مرحلة ازدواجها البنيوية أو ثلاثيتها البنيوية أو رباعيتها أو خماسيتها… إلخ. ولكن، كيف السبل إلى تلبية مقتضيين اثنين يبدوان في ظاهرهما متعارضين: آحادية البنية، من جهة، والازدواج البنيوي، من جهة أخرى؟. إننا نشدّد على تعبير “استخراج” لأن إلغاء الازدواج البنيوي واستخراجه يحصلان في اللحظة النظرية نفسها، أي يحصل استخراج الازدواج البنيوي على قاعدة وعي آحادية اللحظة النظرية نفسها، أي يحصل استخراج الازدواج البنيوي على قاعدة وعي آحادية البنية وعلى قاعدة تراكم معرفي معيّن حول هذه الآحادية موجود وحاضر في الذهن على الدوام.
“بالرغم من تركيز العديد من الدراسات على ضرورة تجنّب منزلق النظرة الثنائية، لأن نظرة كهذه تنكر بنية النظام الكلي التي تحدّد الازدواجية والتي تنتسب الأجزاء إليها، وبالرغم من تنوع الأفكار التي تحاول جاهدة تبيان الروابط بين الحديث والتقليدي، بالرغم من كل ذلك تبقى الثنائية قائمة في الذهن لا يفعل فيها أي كلام بنيوي يمكن أن يقال، كما يبقى التصور المبسط على فروع إنتاجية حديثة يمكن اعتبارها، على المستوى التقني وتقسيم العمل السائد والتنظيم الإداري المطبق، نسخة طبق الأصل عن أرقى المشاريع الإنتاجية الرأسمالية الغربية. ما تجدر الإشارة إليه أيضاً أن الثنائية لا يقتصر مفعولها على المبدأ الاقتصادي، وإنما تمتد لتشمل جميع ميادين الحياة المجتمعية. وهكذا، يواجه الباحثون المحليون واقع انخفاض إنتاجية الأجير العربي في المنشآت الصناعية الحديثة فلا يجدون أمامهم، بفعل الثنائية النظرية المهيمنة، سوى محدّدات من نوع “غياب الذهنية الصناعية عند الأجير” أو “عدم تكيّف طبيعة الأجير الريفية مع العمل الصناعي العقلاني” أو “بقاء الانتماءات المجتمعية التقليدية عند الأجير”… وفي مقابل وجهة النظر هذه، نحن نتبنّى انتقال الفهم والتحليل والمعالجة إلى الاستثمار الصناعي عينه وتفحّص القرارات التي يتخذها على صعيد الإنتاج والإنتاجية والآلية والمكننة وتقسيم العمل… إلخ. بمعنى آخر، نحن نتبنّى الانطلاق من مفهوم الابتكار ومن المعادلة الاقتصادية التي يرتكز إليها p=F(L.K.T) بهدف تبيان طبيعة الدمج العيني الذي يعتمده الرأسمال الصناعي بين عوامل الإنتاج المختلفة المتمثلة في الرأسمال (K) والتقنية (T) وقوة العمل (L). وفي أساس تبني هذه الوجهة في الدراسة تقبع الإشكالية التي حملنا همّها عند نزولنا إلى ميدان الدراسة الفعلي: تلمّس وجود بنية إنتاجية وتقنية خاصة ومتميّزة، وتلمس بعض القرارات الاقتصادية التي لا يتّخذ الرأسمال نظائر لها في نمط إنتاجه الأصلي… باختصار كلي إذن، إننا نرى استحالة زوال ثنائية النظرة إلاّ بالقضاء على توهم الفروع الإنتاجية الحديثة في بلداننا نسخة طبق الأصل عن القطاع الرأسمالي الغربي”.
وعلى الطرف النقيض من هذه الفكرة المنهجية، ما يجري في الكتابة العربية ليس استخراجاً. إنّ ما يجري فيها حقاً هو اعتبار الازدواج البنيوي معطى محدّداً في الفكر بشكل مسبق. في هذا الضوء، تطغى في الكتابة العربية الفكرة الشائعة عن الازدواجية المجتمعية؛ ولا تقف هذه الفكرة عند حدود ملاحظة التفاوت في الملموس بل تشكل القاعدة لنظرية تحاول، على الوجه الآتي، كشف تركيب مجتمعاتنا العربية وطبيعة هذا التركيب:
*وجود قطاعين اقتصاديين محليين واحد تقليدي والآخر رأسمالي حديث مع قوانين خاصة بكل منهما؛ فإلى جانب القطاع الرأسمالي الحديث يوجد قطاع ما قبل رأسمالي كبير نسبياً؛ وأن الاقتصاد ينطوي على قطاعين متضاربين كلياً،؛ وأن فروع الاقتصاد لم تتطور معاً في آن واحد بحيث ترتبط ويكمل بعضها البعض الآخر، بل تطوّرت بشكل غير متناسب على نحو صارخ بحيث إن بعض الفروع الاقتصادية نمت نمواً مفرطاً كأجسام غريبة معزولة عن الفروع الأخرى.
*حصول تضارب وتصادم نظام مجتمعي مستورد مع نظام مجتمعي محلي من طراز آخر. لما كان المجتمعان متعارضين جملة وتفصيلاً، فإن أياً منهما لا يصبح السائد أو المميّز للمجتمع كله. وهكذا ينتشر الكلام على “المجتمع العربي التقليدي” و “المجتمع العربي الحديث”؛ وكل واحد منهما يملك بنى ومقومات ونظام قيم ومسالك مختلفة عن الآخر.
*أكثر من ذلك، عندما لا تكون الحداثة مستخرجة من ذلك الخليط البنيوي الواحد المعقد والمتميّز الموجود في واقع مجتمعاتنا العربية.. وعندما لا يكون التقليد مستخرجاً من ذلك الخليط البنيوي الواحد المعقد والمتميّز الموجود في واقع مجتمعاتنا العربية.. لا يبقى من احتمال، في هذه الحال، إلاّ أن تكون الحداثة العربية الراهنة هي نفسها الحداثة الغربية، ولا يبقى أيضاً من احتمال إلاّ أن يكون التقليد العربي الراهن هو نفسه تقليد مجتمعاتنا العربية الماضية.
“على هذه الشاكلة، يُحدّد النموذج الإسلامي من الكتابة العربية المجتمع العربي الحديث… ولا تغيّر في الأمر شيئاً يذكر حدة المواجهة التي يخوضها. فما يهمنا هنا هو النظرة المنهجية إلى الحداثة العربية ذاتها. إنها النظرة المنهجية نفسها والركائز المنهجية ذاتها التي وجدناها ماثلة في النموذج القومي من الكتابة العربية، والتي تقوم على الخلط بين وجهتي المقارنة وبالتالي على بداهة اعتبار الحداثة العربية بالذات. وتلك البداهة تقوم بدورها على اختزال تحديث المجتمع العربي إلى مظاهر الحياة المجتمعية العربية الحديثة، مما يؤدي إلى هيمنة الثنائية النظرية، ومما يتيح لنموذج التحديث الغربي كي يقدم نفسه على صورة نموذج عالمي، بديهي، وضعي، موضوعي، عقلاني للتحدث في العالم بأسره.
وفي النتيجة، تجهل وجهة النظر التي تحكمها ثنائية المجتمع بنية الآحادية التي تنتسب الأجزاء إليها، أي البنية التي تحدّد الازدواجية. وإذا ما أبصرت وجهة النظر هذه أو تناولت أية بنية فإنها لن تكون، في أحسن الأحوال، أكثر من بنية بعض الأجزاء، في حين تفلت وحدة الأجزاء منها. وعلى هذا الأساس، نطرح الأسئلة التالية: هل يوجد في مجتمعاتنا العربية رسملة حديثة من جهة وتقليد من جهة أخرى؟. أم ان الواقع المجتمعي العربي استوعب الرسملة ومكوّناتها بقدر ما استوعبته مما أنتج بنية متميّزة حيث الحديث في التقليدي وحيث التقليدي في الحديث؟ أو، على الأصح، مما أنتج بنية متميّزة حيث لا حديث ولا تقليدي؟ وهل يجدي وينفع فهم ملموس مجتمعاتنا كسلسلة من الأفعال، يعود بعضها إلى المنطق التقليدي، ويعود بعضها الآخر إلى المنطق الحديث؟ أم أن كل سلوك عندنا هو مادة لقراءة تحمل في طياتها المنطقين معاً؟ أو، على الأصح، تحمل في طياتها منطقاً واحداً يمكن اعتباره النتيجة التي أدّى إليها تصادم المنطقين وتصالحهما في الوقت نفسه.
ترتكز الأسئلة المطروحة إذن إلى منحى في الفهم والتحليل يفتش عن تميّز البنية المجتمعية الواحدة خارج مفاهيم وتعابير وأفكار من نوع التقليدي، الحديث، المجتمع المدني، المجتمع التقليدي، الانتماءات التقليدية، والانتماءات الحديثة… إلخ، إنه حقل منهجي مختلف، حيث لا تقليدي ولا حديث وحيث لا يقدم الواقع المجتمعي العربي تقليداً على حدة أو حداثة على حدة.
المعادلة الذهنية
تجتمع الانزلاقات المنهجية السابقة، مع أصعدتها النظرية، وتتقاطع كي تنتج وتعيد إنتاج معادلات ذهنية يقوم وينهض عليها منطق القسمة الثنائية في إشكالية التراث – الحداثة.
المعادلة الذهنية الأولى
حين تغيب فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، وحين تطغى النظرة التي تعتبر الآحادية البنيوية المجتمعية معطى محدداً بشكل مسبق، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة هي إشكالية التراث – الحداثة.
مع غياب فكرة بناء الآحادية، ومع تجميد الآحادية البنيوية المجتمعية في صورة جوهر سابق على الوجود، يختفي كل مبرّر منطقي لوجود إشكالية خاصة بالآحادية يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول قضايا البناء وأفكاره ومفاهيمه وحدوده ووجهته وحصيلته البنيوية.
مع تجميد الآحادية البنيوية المجتمعية في صور جوهرٍ سابق على الوجود، وتالياً، مع اعتبار هوية الحداثة العربية البنيوية نفسها هوية الحداثة الغربية البنيوية، يختفي كل مبرّر منطقي لوجود إشكالية خاصة بالحداثة يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية الحداثة العربية وطبيعتها البنيوية.
عندما يكون الوضع كذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة. أما حين تضرب النظرة المنهجية جذورها في فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، فان إشكالية التراث -الحداثة تختفي من الوجود المعرفي وتترك مكانها لثلاث اشكاليات دفعة واحدة.
1- إشكالية رئيسة هي إشكالية الآحادية البنيوية المجتمعية؛ فعلى الرغم من التوافق والاتفاق على الانطلاق من فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، لابدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول قضايا هذا البناء وأفكاره ومفاهيمه وحدوده ووجهته وحصيلته البنيوية.
2- إشكالية متفرعة أولى هي إشكالية الحداثة؛ فلمجرد الانطلاق من فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، ولمجرد أن يدفع ذلك إلى اكتشاف الخصوصية البنيوية المتضمنة في الحداثة والمستمدة من وجهة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية العربية المعاصرة، ولمجرد إعلان عدم التماثل البنيوي بين الحداثة العربية والحداثة الغربية، لا بدّ من ان تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول الطبيعة البنيوية الخاصة بالحداثة العربية ومعناها وحدودها وقضاياها.
3- إشكالية متفرعة ثانية هي إشكالية التراث؛ فلمجرد الانطلاق من فكرة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية، ولمجرد أن يدفع ذلك إلى اكتشاف الخصوصية البنيوية المتضمنة في الحداثة والمستمدة من وجهة بناء الآحادية البنيوية المجتمعية العربية المعاصرة، ولمجرد إعلان عدم التماثل البنيوي بين الاتجاهات السلوكية العربية التقليدية الراهنة والاتجاهات السلوكية الماضية، لابدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول الطبيعة البنيوية الخاصة بالتقليد العربي الراهن ومعناه وحدوده وقضاياه.
ما يهمنا في هذه الإشكالية الثلاث أنها ترسم معالم استحالة منهجية يصطدم بها ازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة.
عندما توجد إشكالية خاصة بالحداثة، أي عندما يدور النقاش في الفكر حول معنى الحداثة العربية وحدودها وطبيعتها ومضمونها وقضاياها، يكون هذا النقاش يدور في الوقت نفسه حول حقيقة وجود التراث في الحداثة ومعنى هذا الوجود وحدوده ومضمونه وقضاياه، ومدى ما يبنيه التراث في الحداثة من طابع “تراثوي” بنيوي خاص، ومن خصوصية “تراثوية” بنيوية متميّزة.
عندما توجد إشكالية خاصة بالتراث، أي عندما يدور النقاش في الفكر حول معنى التراث العربي وحدوده وطبيعته ومضمونه وقضاياه، يكون هذا النقاش يدور في الوقت نفسه حول حقيقة وجود الحداثة في التراث ومعنى هذا الوجود وحدوده ومضمونه وقضاياه، ومدى ما تبنيه الحداثة في التراث من طابع “حداثوي” بنيوية خاص، ومن خصوصية “حداثوية” بنيوية متميّزة.
في تعابير أخرى، عندما تكون الحداثة هي الإشكالية، يكون النقاش يدور في الفكر حول مسألة المعاصرة، وهل تعني هذه المسألة تفحّص ما هو معاصر؟؛ أم أنها تعني ما فات وانقضى بقدر ما تعني ما هو معاصر؟؛ وهل تغلق المعاصر باب الحاضر على نفسها؟ وهل تشكّل المعاصرة بديهة؟ أم أنها صفة متنازع على طبيعتها البنيوية.؟؛ وهل التراث خارج الحداثة أم أنه داخلها؟
عندما يكون الوضع كذلك، يختفي كل مبرر منطقي يسمح بازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.
المعادلة الذهنية الثانية
حين يغيب وعي التمييز بين صعيد الملموس المجتمعي العيني وبين صعيد التميّز البنيوي، وحين يوازي التخلّع البنيوي ويساوي آحاديات بنيوية مختلفة ومتباينة، أو حين يوازي التخلّع البنيوي ويساوي ظرفاً يقع خارج البنية، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة هي إشكالية التراث – الحداثة.
لمجرد أن تؤدي ملاحظة التخلّع في الملموس المجتمعي العيني إلى إصدار الحكم بوجود أكثر من آحادية بنيوية مجتمعية، يختفي كل مبرر منطقي لوجود إشكالية خاصة بالآحادية يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية آحادية بنيوية مجتمعية واحدة تتصف بالتخلّع البنيوي.
لمجرّد أن تؤدي ملاحظة تخلع الحداثة – التقليد في الملموس العيني إلى إصدار الحكم بوجود آحاديتين بنيويتين، حديثة وتقليدية… ولمجرّد أن يرتفع التخلّع في الحداثة، أو التخلّع في التراث، إلى مرتبة الآحادية البنيوية المجتمعية… ولمجرد أن يصدر الحكم بأن هوية الحداثة العربية البنيوية هي نفسها هوية التقليد العربي البنيوية الراهنة هي نفسها هوية الآحادية البنيوية المجتمعية العربية الماضية… يختف كل مبرر منطقي لوجود إشكالية، خاصة بالحداثة وإشكالية خاصة بالتراث، يرتبط وجودهما في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية الحداثة العربية البنيوية، وحول هوية التراث العربي البنيوي.
عندما يكون الوضع كذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة؛ أما حين تضرب النظرة المنهجية جذورها في وعي التمييز بين صعيدي الملموس العيني والتميّز البنيوي، وحين يكون التخلع والتفكك والتفتت سمة بنيوية لآحادية بنيوية مجتمعية واحدة، فإن إشكالية التراث – الحداثة تختفي من الوجود المعرفي وتترك مكانها لثلاث إشكاليات دفعة واحدة.
1- إشكالية رئيسة هي إشكالية الآحادية البنيوية المجتمعية؛ فإذا كان التخلّع والتفكّك والتفتّت سمة بنيوية لآحادية بنيوية مجتمعية واحدة، وإذا كانت الطبيعة البنيوية الخاصة بهذه الآحادية تمثل خليطاً بنيوياً معقداً ومتميزاً، فلا بدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول هوية هذا الخليط البنيوي المعقد والمتميّز ومعناه وحدوده وقضاياه.
2- إشكاليتان متفرعتان هما إشكالية الحداثة، من جهة، وإشكالية التراث من جهة أخرى؛ فلمجرّد أن يكون التخلّع والتفكك والتفلت سمة بنيوية لآحادية بنيوية مجتمعية واحدة، ولمجرد أن تمثّل الطبيعة البنيوية الخاصة بهذه الآحادية خليطاً بنيوياً معقداً ومتميزاً، فلا بدّ من أن تظهر في الفكر إشكاليتا التعارض والتباين والاختلاف حول هوية هذا الخليط البنيوي في الحداثة وهويته في التراث.
وما يهمّنا في هذه الإشكاليات الثلاث أنها ترسم معالم استحالة منطقية يصطدم بها ازدواج التراث والحداثة في اشكالية واحدة؛ فعندما تمثّل الحداثة خليطاً بنيوياً معقداً ومتميّزاً يكون التراث داخلها ولا يكون خارجها أو في موازاتها؛ وعندما يمثل التراث خليطاً بنيوياً معقداً ومتميزاً تكون الحداثة داخله ولا تكون خارجه او في موازاته؛ وعندما يكون الوضع كذلك، يختفي كل مبرر منطقي يسمح بازدواج التراث والحداثة في اشكالية واحدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.
المعادلة الذهنية الثالثة
حين لا يكون التعدّد البنيوي مستخرجاً من الآحادية البنيوية المجتمعية، وحين يكون الازدواج البنيوي معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة هي إشكالية التراث – الحداثة.
لمجرّد ألا يكون التعدد البنيوي مستخرجاً من الآحادية البنيوية المجتمعية، فيعني ذلك أن هذه الآحادية البنيوية المجتمعية تنتمي إلى عالم البداهات، أو تحكمها نظرة تعتبرها معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق. وفي هذا الحال، يختفي كل مبرر منطقي لوجود اشكالية خاصة بالآحادية يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول هوية هذه الآحادية المجتمعية التي يجري استخراج التعدد البنيوي منها وطبيعتها البنيوية المجتمعية الخاصة والمتميّزة.
لمجرد ألا تكون الحداثة مستخرجة من الآحادية البنيوية المجتمعية، ولمجرّد ألا يكون التراث مستخرجاً أيضاً من الآحادية البنيوية المجتمعية، يختفي كل مبرر منطقي لوجود اشكالية خاصة بالحداثة واشكالية خاصة بالتراث يرتبط وجودها في الأصل بوجود نقاش يدور في الفكر حول قضايا استخراجهما وأفكاره ومفاهيمه ووجهته وحصيلته البنيوية.
عندما يكون الوضع كذلك، لا يبقى سوى احتمال واحد من احتمالات التعارض والتباين والاختلاف في الفكر. ويتمثّل هذا الاحتمال في إشكالية واحدة ووحيدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة؛ أما حين تضرب النظرة المنهجية جذورها في مرحلة آحادية البنية قبل مرحلة التعدد البنيوي، فإن إشكالية التراث – الحداثة تختفي من الوجود المعرفي وتترك مكانها لثلاث إشكاليات دفعة واحدة.
1- إشكالية رئيسة هي إشكالية الآحادية البنيوية المجتمعية؛ فلمجرّد استخراج التعدّد البنيوي من الآحادية البنيوية المجتمعية، لابدّ من أن تظهر في الفكر إشكالية التعارض والتباين والاختلاف حول هوية الآحادية البنيوية المجتمعية التي يحصل الاستخراج منها وطبيعتها البنيوية المجتمعية الخاصة والمتميّزة.
2- لمجرد استخراج الحداثة، أو التراث، من الآحادية البنيوية المجتمعية، لا بدّ من أن تظهر في الفكر إشكاليتا التعارض والتباين والاختلاف حول قضايا الاستخراج ومفاهيمه وأفكاره وحدوده ووجهته وحصيلته البنيوية.
وما يهمّنا من هذه الإشكاليات الثلاث أنها ترسم معالم استحالة منطقية يصطدم بها ازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة؛ فباستخراجه الحداثة من الآحادية البنيوية المجتمعية، سيكتشف الباحث أو الدارس بصورة أكيدة أنه يستخرج الحداثة من التراث ذاته؛ وباستخراجه التراث من الآحادية البنيوية المجتمعية، سيكتشف الباحث أو الدارس بصورة أكيدة أيضاً أنه يستخرج التراث من الحداثة عينها. عندما يكون الوضع كذلك، يختفي كل مبرر منطقي يسمح بازدواج التراث والحداثة في إشكالية واحدة تدور حول القسمة الثنائية بين تراث وحداثة.
نموذج دراسي في علم الاجتماع
كيف تحضر إشكالية التراث والحداثة في واقع الأبحاث الميدانية الاستقصائية في علم الاجتماع؟
للإجابة عن هذا السؤال سنعرض لفرضيتين تفسيريتين متعارضتين ومختلفتين. وإذا كانت الفرضية التفسيرية الأولى تمتد بجذورها إلى إشكالية التراث- الحداثة، فإن الفرضية التفسيرية الثانية تتفلت من هذه الإشكالية وتتحرر منها. أما موضوع البحث الذي وقع اختيارنا عليه فهو: الحرب اللبنانية وسلطة الأهل والشباب.
الفرضية التفسيرية الأولى
يؤدي تهمش المجتمع المدني ومؤسساته وقيمه، وبخاصة في ظل تقوقع السوق المحلية وضعف ديناميتها الموحدة، إلى استعادة الأطر القرابية العائلية والدينية دورها المتضخم في احتضان الشباب أو الشبيبة، وفي إعادة شحن تماسكهم بقيم مجتمعية تعزز صورة الأهل ودورهم كما المجتمع التقليدي عموماً.
لنتفحّص مضمون هذه الفرضية التفسيرية المقترحة. فما هي القضايا النظرية التي تقوم الفرضية عليها؟
1- المجتمع المدني ومؤسساته وقيمه
إن المجتمع المدني هو المجتمع حيث العقلانية هي المهيمنة، وحيث العلم والإنتاج، وحيث السياسة ليست حقاً إلهياً، وحيث الانتماءات المجتمعية بعيدة عن التقليدية، وحيث يجمع الموقع المشترك في الإنتاج الأفراد والجماعات في الأحزاب والتنظيمات النقابية والجمعيات. أما كيف يصل المجتمع إلى هذا الوضع، فإن حركة الرأسمال تحطّم الحواجز بين المناطق وتوحّد التماسك المجتمعي التقليدي، كما تحطّم القيم المجتمعية المرافقة لهذا التماسك المجتمعي التقليدي. وفي هذا السياق يحصل الانتقال من الأسرة الممتدة إلى الأجارة (Salariat) كعلاقة مجتمعية رئيسة، فتختفي الانتماءات المجتمعية التقليدية وتحل محلها انتماءات مجتمعية من طبيعة مختلفة. ويؤدي هذا التحول إلى ضعف صورة الأهل ودورهم؛ فالطفل يولد حراً تماماً، كما يولد عاقلاً؛ بيد أنه لا يمارس على الفور عقله وحريته، ولا ضرورة لحكم الأب والأهل إلاّ في إعداد الطفل لممارسة هذا العقل وهذه الحرية ممارسة مناسبة عندما يؤون الأوان.
2- المجتمع التقليدي
في هذا النمط من المجتمعات تكون الأسواق المحلية والمناطقية منفصلة بعضها عن البعض الآخر لضعف حركة الرأسمال الموحدة للسوق. وتكون الأصول المجتمعية ريفية، والانتماءات تقليدية قرابية عائلية ودينية. في هذا المجتمع تكون الأسرة وحدة إنتاجية ومجتمعية رئيسة، فتتعزز سلطة الأهل، ويتعزّز دورهم.
3- الثنائية المجتمعية
في إشارتها إلى “استعادة الأطر القرابية العائلية والدينية دورها المتضخم”، تكون الفرضية تشير إلى أن هذا الدور كان مفقوداً فتمّت استعادته.
في إشارتها إلى “إعادة شحن تماسكهم بقيم مجتمعية”، تكون الفرضية تشير إلى أن التماسك المجتمعي أخذ يُشحن بالقيم التقليدية بعد أن كان هذا الشحن قد خفّ أو توقف.
في إشارتها إلى “تهمّش المجتمع المدني”، تكون الفرضية تشير إلى أن المجتمع المدني أخذ يتهمش شيئاً فشيئاً، أي تكبر درجة هامشيته، أي كان فعالاً فأخذ يتهمش.
في إشارتها إلى “تقوقع السوق المحلية” تكون الفرضية تشير إلى أن السوق أخذت تتقوقع شيئاً فشيئاً، أي تكبر درجة تقوقعها، أي كانت منفتحة فأخذت تتقوقع.
ويدفع بنا اجتماع هذه القضايا النظرية الثلاث في الفرضية التفسيرية إلى الاستنتاج التالي: يفترض الباحث في البدء مرحلة تاريخية مجتمعية سابقة كان المجتمع المدني فيها يسير في اتجاه السيادة. وفي هذه المرحلة التاريخية المجتمعية كانت الأطر القرابية العائلية والدينية تضعف وكان دورها يتقلّص؛ ثم أتت مرحلة تاريخية مجتمعية لاحقة أخذ المجتمع المدني فيها يتهمّش والسوق تتقوقع وديناميتها الموحّدة تضعف والأطر القرابية والعائلية والدينية تستعيد دورها المتضخم… وإذا كان لبنان هو المقصود بهذا الكلام، فالمرحلة التاريخية المجتمعية التي تقصدها الفرضية التفسيرية هي مرحلة الحرب حيث تقسّمت المناطق وأخذ المجتمع ينتقل من السوق الموحدة العاصمية قبل الحرب إلى أسواق محلية عدة ومناطق نفوذ وإلى هيمنة المشاريع السياسية الممثلة لهذه الطائفة أو تلك؛ وعلى هذا الأساس، تقوقعت السوق المحلية وضعفت ديناميتها الموحدة، وسادت الطائفية والطوائف والمذاهب واستعادت الأطر القرابية العائلية والدينية دورها المتضخم؛ كما تعزّز المجتمع التقليدي من جديد وتعزّز دوره فتعزّزت معه صورة الأهل ودورهم.
مناقشة الفرضية التفسيرية
من جهة أولى، لا يمكن أن تكون القضية قضية تضخم أو إضعاف وتعزيز؛ فعندما تشير الفرضية التفسيرية إلى المجتمع المدني والمجتمع التقليدي تكون تشير إلى مجتمعين يملك كل واحد منهما آحادية بنيوية مجتمعية مختلفة في طبيعتها البنيوية عن الآخر. وفي هذه الحال، يكون الكلام على إضعاف سلطة الأهل أو تعزيز دورهم صالحاً حين نكون نتكلم على مجتمع واحد أو آحادية بنيوية مجتمعية واحدة. وهذا النوع من الكلام لن يكون صالحاً في حال مجتمعين يملكان طبيعتين بنيويتين مختلفتين؛ فالانتقال من المجتمعالمدني إلى التقليدي أو العكس لا يعزّز أو يضعف وإنما يغيّر في طبيعة سلطة الأهل ومحتواها وأنماط ممارستها.
ومن جهة ثانية، لم تغب القيم المجتمعية التقليدية السابقة كي تُستعاد؛ ولم تفقد الأطر القرابية العائلية والدينية فعاليتها. إنّ السؤال هو: كيف استوعبت القيم المجتمعية السابقة القيم المجتمعية الحديثة؟؛ وكيف انخرطت القيم المجتمعية الحديثة في القيم المجتمعية السابقة؟؛ وماذا أعطى هذا الانخراط؟ فنحن نعيش وضعاً حيث دينامية السوق تعيد إنتاج تقليدية الوضع كشرط لإعادة إنتاج حداثة الوضع وعصرنته. ونكتفي في هذا المجال بإلقاء نظرة خاطفة على تركيبة لبنان المجتمعية قبل الحرب: نظام سياسي وبنية سياسية قائمة على انتماءات وأطر هي أبعد ما تكون عن المجتمع المدني، نظام أسري وبنية أسرية محكومة بانتماءات وأحوال شخصية هي أبعد ما تكون عن المجتمع المدني.. إلخ.
ومن جهة ثالثة، لا يوجد في لبنان مجتمع مدني على حدة ومجتمع تقليدي على حدة كي تشير الفرضية التفسيرية إلى المجتمع المدني، وإلى المجتمع التقليدي. إننا، كباحثين اجتماعيين، ننتمي إلى وجهة نظر تبحث عن التقليدي في الحديث وعن الحديث في التقليدي ولا ترى الأمور إلاّ على هذا النحو.
بالنتيجة، يؤدّي تفحصنا للفرضية التفسيرية الأولى إلى تلمس الانزلاقات المنهجية الأساسية التي تقوم إشكالية التراث – الحداثة عليها: غياب الآحادية البنيوية المجتمعية اللبنانية عن الدراسة والتحليل والفهم، التخلع البنيوي يوازي ويساوي آحاديات بنيوية مجتمعية مختلفة ومتباينة (المجتمع التقليدي والمجتمع المدني)، ازدواج الحداثة – التقليد واعتباره معطى محدداً في الفكر بشكل مسبق.
والمسألة ليست شكلية على الإطلاق، لأن حضور إشكالية التراث – الحداثة في الفرضية التفسيرية يحجب الواقع المجتمعي اللبناني الملموس عن أنظارها؛ ولعل المؤشر الأكثر بروزاً على ذلك هو الآتي:
في أوساط مجتمعية معيّنة، وضمن شروط معيّنة، وفي أسر معيّنة، تعزّزت سلطة الأهل ودورهم إذ يؤدي التكيف مع أوضاع الحرب الصعبة إلى تفتيش الشباب عن حماية أكبر لهم يجدونها في أسرهم، وإذ تنكفىء الأسرة على ذاتها لتؤمّن تماسكاً داخلياً أقوى في مواجهة الحرب.
في أوساط مجتمعية معيّنة، وضمن شروط معيّنة، وفي أسر معيّنة، ضعفت سلطة الأهل ودورهم. ويكفينا في هذا المجال الإشارة إلى عشرات الآلاف من الشباب الذين كان لهم على امتداد زمن الحرب شكل من أشكال العمل العام في معناه الواسع (عمل سياسي بحت – عمل مجتمعي عام) ممّا انعكس في علاقتهم مع أهلهم وأضعف من تقبّلهم لسلطة الأهل وأتاح لهم التفلّت منها.
ما يمكن ملاحظته إذن هو تعزّز سلطة الأهل وضعفها في آن واحد. فلماذا لم ترَ الفرضية التفسيرية ما كان يجدر بها أن تراه من إضعاف لسلطة الأهل؟، ولماذا أخذت الفرضية التفسيرية على عاتقها مهمة تفسير تعزز سلطة الأهل ولم تأخذ على عاتقها مهمة تفسير إضعاف سلطة الأهل؟، لسبب بسيط جداً هو الآتي: لمجرد ملاحظة إضعاف سلطة الأهل، ولمجرد أن تطرح الفرضية على نفسها مهمة تفسير الظاهرتين معاً، تكون رسمت طريق التفلت والتحرر من هيمنة إشكالية التراث – الحداثة، ولا يعود في إمكانها استخدام مفاهيم من نوع “المجتمع المدني” و “المجتمع التقليدي”.
الفرضية التفسيرية البديلة المقترحة
ما يهمنا ليس الفرضية التفسيرية التي نقترحها في حدّ ذاتها؛ فقد يقدّم آخرون فرضية بديلة مختلفة، وإنما الأكثر أهمية عندنا أن تكون هذه الفرضية متفلتة من إشكالية التراث – الحداثة ومتحررة منها؛ ونبدأ بالتساؤل عن القضية النظرية التي تتيح لنا تفسير إضعاف سلطة الأهل من ناحية وتعززها من ناحية ثانية. فما هي هذه القضية النظرية؟.
عندما نقول ضعفت سلطة الأهل، نعني بذلك أن ضبطها للأبناء قد ضعف، وأن إخضاعها لأفرادها قد ضعف. إن ضعف الضبط والإخضاع لا يمكن أن يحصل دون تناقض ودون صراع لأن طبيعة كل سلطة تقوم على تجنب التنازل عن دورها، وتصارع في سبيل ذلك. وهذا ما نجده في كل سلطة، وهذا ما يحويه مفهوم السلطة.
إنّ المسار الذي يؤدي إلى إضعاف سلطة الأهل أو تعزيزها هو مسار صراعي وذو طبيعة صراعية. إنه صراع وتناقض سلطة الأهل مع سلطات الجماعات الأخرى؛ إنها كل الجماعات التي يمكن تصورها من الحزب إلى النقابة إلى الجمعيات والنوادي إلى العصبة والزمر ومختلف أنواع وأشكال التجمعات؛ وكل جماعة من هذه الجماعات تملك سلطة على أفرادها، وكما للأهل سلطة على الأبناء، كذلك بالنسبة إلى مختلف هذه الجماعات؛ وإذا لم تكن سلطة الجماعة قائمة فلا تكون الجماعة موجودة.
كيف تكون طبيعة الروابط بين سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى زمن السلم؟. يوجد على الدوام وفي جميع الشروط حيّز من التناقض والصراع بين سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى. ويرتكز هذا الحيّز من التناقض والصراع إلى إمكان تضارب متطلبات الجماعة مع متطلبات الأسرة؛ وكل جماعة تتطلّب من أفرادها المساهمة في نشاطاتها وتخصيص الوقت اللازم لها والقيام بمهمات معيّنة… إلخ؛ ويقوم في زمن السلم توازن بنيوي معيّن يكون في الغالب لمصلحة الأسرة فتتكيّف الجماعات الأخرى معها لأهميتها المجتمعية: مداورة، تكيّف، تخفيف الجماعة لضغطها على الأفراد حين يزداد ضغط سلطة الأهل…إلخ.
كيف تكون طبيعة الروابط بين سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى زمن الحرب؟ في الزمن الصعب الذي يعيشه المجتمع خلال الحرب تنوجد مختلف هذه الجماعات أمام احتمالين لا ثلاث لهما: المساهمة المباشرة والفعّالة في الحرب، الاكتفاء بعيش الحرب. وفي الحالين، تشكّل الحرب خطراً مباشراً وداهماً على وجود الجماعات واستمرارها في الوجود. ولهذا السبب، تصارع الجماعات من أجل بقائها ويكتسب الحفاظ على تماسكها أهمية قصوى وإلحاحاً شديداً؛ فالحفاظ على التماسك ملحّ جداً حين تكون المشاركة في الحرب مباشرة، لزيادة فعالية هذه المشاركة، والحفاظ على التماسك مصيري جداً حين تكتفي الجماعة بعيش الحرب كي تحافظ على وجودها.
عندما يكون وجود الجماعة نفسها على المحك إذن، تسقط كل الاعتبارات ويختلّ التوازن البنيوي الذي كان قائماً زمن السلم، ويزيد ضغط الجماعة على أفرادها وتزيد متطلباتها وتتكثّف المهمات المطلوبة من الأفراد؛ فتتقاطع الضغوط ويتضح الحيّز الصراعي ويتفاقم ويتخذ أبعاداً جلية واضحة، ويتّجه المسار الصراعي من سلطة الأهل وسلطات الجماعات الأخرى في اتجاه توازن بنيوي جديد تكون نتيجته إضعاف سلطة الأهل أو تعزيزها؛ ويبقى على الباحث الاجتماعي التفتيش في الأوضاع المجتمعية الملموسة عن محددات الوجهة التي يتخذها التوازن البنيوي الجديد في الملموس.
………………………………….
المصدر: مجلة الفكر العربي العدد 95/1999
iThere are no comments
Add yours