نظرية عبد الكريم سروش القبض والبسط النظري للشريعة بين تهمة السفسطة وهمّ التأسيس لخطاب اسلامي جديد

الدكتور عبد الكريم سروش الذي لا يعلم كثيرون أن اسمه الحقيقي هو (حسن حاج فرج الدباغ) من مواليد طهران 1945. حاصل على الدكتوراه في الصيدلة من جامعة طهران 1968، سافر إلى بريطانيا عام 1972 لإكمال دراسته في فر ع الكيمياء التحليلية، لكنه انتقل الى جامعة لندن فدرس فلسفة العلم وتوفر على معطيات احدث تياراتها خاصة النقدية المحدثة فضلاً عن تراث المدرسة الوضعية. عاد الى ايران بعد الثورة عام 1979 ليصبح عضواً في لجنة الثورة الثقافية ثم انتقل الى جمعية الحكمة والفلسفة في طهران كذلك كباحث متفرغ وهو عضو في المجمع العلمي هناك ايضاً. وقد ظهر سروش منذ اوائل الثمانينات كواحد من الكتاب غزيري الإنتاج في ايران، وعالجت نتاجاته الأولى النظريات الماركسية وموضوعات فلسفة العلم ومن اعماله البارزة تلك الفترة كتاب (ما هو العلم، ما هي الفلسفة؟) اضافة الى دراسة نقدية لكتاب الشهيد محمد باقر الصدر (الأسس المنطقية للاستقراء) نقلت الى العربية ضمن كتاب السيد عمار أبو رغيف (الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش) عام 1989. اما في النصف الثاني من الثمانينات فقد كانت الأجواء الثورية قد تقلصت واتجهت المساهمات النقدية لمعالجة الأوضاع القائمة في البلاد على حد تعبير مجيد محمدي الناقد الإيراني المتميز، الأمر الذي انعكس على توجهات سروش، فنشر عام 1989 مجموعة مقالات القبض والبسط النظري للشريعة.

والى جانب استيعاب سروش الذي يثير الإعجاب لتاريخ العلم JPEG
وفلسفته المعاصرة، ثمة بعد آخر في ثقافته وهو بعد محلي هذه المرة لا ينحصر في توفره على معرفة ممتازة بالتراث الإسلامي فقهاً واصولاً وكلاماً وفلسفة وتاريخاً وإلماماً باللغة العربية، بل يبرز في المنحى الصوفي العرفاني الذي يجعله لا يفتأ يردد في أحاديثه ومقالاته أشعار شيوخ المتصوفة في الفارسية كحافظ الشيرازي وسعدي وجلال الدين الرومي ويستحضرها بحافظة فذة (رغم نقوده العنيفة التي يوجهها للتراث الصوفي) ولعل ذلك ما جعله يختار اصطلاحين صوفيين عربيين (القبض والبسط) لعنوان نظريته، وكأنه يستلهم الجنيد في قوله “الخوف من الله يقبضني والرجاء منه يبسطني” أو قوله تعالى “والله يقبض ويبسط” كي يستعير من ذلك عنصر التحول والتغير (أو الاتساع والضيق، المرونة والصرامة) فيصف بها الفكر والمعرفة الدينية في محاولة لتصحيح الانطباع السائد تاريخياً حول قداسة هذا الفكر وخلوده اللذين يستمدهما دون مبرر منطقي من (خلود الشريعة)، في تجاهل للتحولات التي تطاله ومستويات الاختلاف التي تستوعب بنيته، ذلك الانطباع (او المنهج) الذي نجد تجلياته في تقديس مفاهيم الإجماع والشهرة وقول الأعلم (أو الزعيم) في الفقه والفتوى إضافة الى عناوين المصنفات في هذه العلوم وهي تحاول التمسك بطابع الأبدية والنهائية (نهاية المراد، غاية الأفهام، منتهى الدراية…).

يمثل مشروع عبد الكريم سروش نظرية تفسيرية (هرمنيوطيقية) معرفية (ابستمولوجية) تستلهم المنهج الكانطي في التمييز معرفياً بين الشيء لذاته والشيء لذاتنا، فتميز بين الدين والفكر الديني أو المعرفة الدينية التي هي قراءة للدين، لتتساءل حول طبيعة العلاقة بين هذه المعرفة والمعارف البشرية الأخرى. كما تفترض ان الدين ثابت بينما المعرفة الدينية ظاهرة بشرية متغيرة ونسبية كشأن المعارف الأخرى (ويؤكد سروش انه يؤمن بنسبية المعرفة لا نسبية الحقيقة) لكن المعرفة الدينية انما تتسم بالتحول والنسبية فلأنها مرتبطة بألوان المعرفة الإنسانية الأخرى ومتأثرة بها، ويتجلى هذا الترابط والتفاعل على مستويات عدة منهجياً وعلى مستوى الأسس السابقة للمعرفة والمعطيات المترتبة عليها ثم في مستوى المفهوم والقضية والبناء النظري. يرى سروش أن أحد النماذج البارزة لهذا الترابط يتجلى في كون الشريعة صامتة لا تنطق الاّ حينما يطرح الإنسان أسئلته عليها، لكنه انما يطرح اسئلة تتلاءم ومستواه العلمي كما يفهم اجابات الشريعة بما يتناسب وطبيعة معارفه، وهكذا فإن شكل المعرفة الدينية في كل عصر يتحدد في ضوء الإشكالية التي تحركه وطبيعة الوعي الذي يسود فيه. الا ان المنعطف الحاد في النظرية يواجهنا حين يميز سروش بين العلوم المنتجة (للقوانين والمعطيات) كالفيزياء والمنطق والرياضيات، والعلوم المستهلكة كالطب والفقه وعلم التفسير، حيث يعني ذلك ان الأخيرة ستتغير طبقاً لتغير العلوم المنتجة كحتمية معرفية ولذلك فإنه يقول دون تردد “ليس هناك خيار آخر أمام المعرفة الدينية غير ان تتزود من مبادىء الإبستمولوجيا والإنثروبولوجيا وعلم اللغة…” وكلما تغيرت تلك العلوم فإما ان يتغير اساس الدين أو تكون المعرفة الدينية طيعةً للتحول الذي يطالها منطقياً، بل يذهب الى عرض المزيد من المعطيات حين يؤكد ان ذلك التحول سيطال حتى ما يعرف بوصفه ثابتاً في المعرفة الدينية وضرورياً، فيما لو تغيرت مبادئه المعرفية. وهكذا يدعو الى ان يكون الدين عصرياً بمعنى ان تستخدم العلوم والمناهج الحديثة في قراءته (كخيار لا بديل عنه) كما لابد أن يكون العصر دينياً يكتسي بطابع الدين ويتمثل تعاليمه.

يرى مصطفى ملكيان ان النظرية ورغم مناداتها بثبات الدين لكنها في الواقع ترى الدين متحولاً بالكامل سواء لاحظ صاحبها ذلك أم لا، ويدلل على هذا بثلاثة مواطن وردت في نصوص سروش احدها ما يثيره دوماً حول مفهومنا لدور الدين وانتظاراتنا منه، فهل يصح مثلاً أن نرجع للدين في مسائل القلق ومعالجة اوجاع الإنسان الى غير ذلك من الأمثلة الأكثر تعقيداً (على مستوى صلة الدين بالسياسة خاصة) فيرى سروش ان الدين بنفسه لا يعين هذه الحدود بل ان ذلك مما تحدده المعرفة الإنسانية، التي تنبهنا كلما تطورت الى ان جزءاً من انتظاراتنا تلك كان خاطئاً. غير ان ملكيان يقول: إن هذا يعني ان الموضوعات المتعلقة بتوقعاتنا الخاطئة ستخرج عن كونها اموراً دينية بعد ان كانت كذلك وبالتالي فإن التحول سيطال الدين وحدوده ذاتها. رغم الدقة التي تميز مجمل ملاحظات ملكيان فإنه هنا يتجاوز حدود ما يصفه سروش بالدين الثابت اذ ان ما نحمله من فهو لدور الدين هو جزء من المعرفة الدينية لا الدين الذي يبقى ثابتاً (في اللوح المحفوظ مثلاً) ولا يخل بثباته تغير ما نحمله نحن من ظنون وتصورات. ويعتقد ملكيان ان ثمة نقاط قوة متعددة تتمتع بها نظرية القبض والبسط فهي تخلو من النزعة الدعائية التعبوية كما تتواصل ايجابياً مع سائر العلوم الحديثة متفوقة بذلك على اتجاهات فكرية استلهمت قسماً من تلك العلوم الحديثة متفوقة بذلك على اتجاهات فكرية استلهمت قسماً من تلك العلوم (كمهدي بازركان الذي ركز على علوم الطبيعة) ويخلص ملكيان الى أنها أفضل النظريات والآراء التي عالجت اشكالية المعرفة الدينية بين ما طرحه المفكرون في العالم العربي وشبه القارة الهندية وايران.

اما الشيخ صادق لاريجاني فهو من الذين وجهوا نقداً حاداً للغاية لسروش، وفي الحوار الذي خص به المجلة يعيب على نظرية القبض والبسط توظيفها لمفاهيم العلوم الحديثة وأدواتها على اساس أننا نعيش داخل تراث يتباين مع التراث الذي افرز العلم الحديث وذلك ما لا يسمح لنا باستعارة أدواتها. عاجلاً ذلك محوراً لمؤاخذاته على سروش الأمر الذي يتجلى في وصيته التي يختتم بها الحوار “ينبغي على المسلمين التحلي باليقظة والحذر من العلمانية التي تحاول اختراقهم بشتى الوسائل والحيل”. لا أدري بالضبط أي نقطة يريد ان يبلغها الرافضون لكل شكل من اشكال الانفتاح على مناهج العلم الحديث، فهل يحاولون نفي القواسم الإنسانية المشتركة وتأطير كل لون من الفكر بقالب محلي صارم؟ كما لا يبدو واضحاً كيف يبرر هؤلاء التوظيف السافر والعميق لعلوم الاوائل في تراثنا الفقهي والكلامي والفلسفي خاصة والذي نوظفه بقوة في نقدنا للاتجاهات الغربية الحديثة بينما هو اعادة إنتاج لتراث فلسفي غربي (يوناني) أيضاً؟ ونسجل استغرابنا في هذا السياق من كلمة الدكتور حسن حنفي (في مقدمة لعلم الاستغراب) حيث يقول: إن العلماء في قرون الهجرة الأولى استعاروا علوم الاوائل ليعبروا من خلالها عن ذواتهم، اما الاقتباس لدينا حالياً فهو تعبير عن العلوم الغربية من خلال الذات. ترى هل يمكن لتبريرات كهذه وبما تنطوي عليه من عنصر شاعري احياناً، ان تحسم الإشكالية هذه. ورحم الله جمال الدين الأفغاني الذي كان يبدي عجبه الشديد من اعتبار المسلمين لغاليلو ونيوتن وكبلر في لحظة المواجهة المبكرة بين الغرب الحديث والمسلمين، علماء من بلاد الكفر (رغم ديانتهم المسيحية) بينما يذكرون ارسطو وأفلاطون.. (ابناء الحضارة الوثنية) وكأنهم من أعلام المسلمين!. الا ان ذلك لا ينفي كون حوار لاريجاني تضمن كغيره ما يساهم في تعميق استيعاب نظرية القبض والبسط..

وفي مقال الشيخ مكارم الشيرازي الذي تميز بطابع أخوي هادىء، نجد ان المستويات التي ميزت بينها نظرية القبض والبسط تعود لتندمج وتختلط وتفتقد لخصوصيتها، فهو يشبه الضرورات الدينية (وهي من المعرفة الدينية) بقوانين الضرب الفيثاغوري حيث لا تتغير مهما تغيرت معارف الإنسان الأخرى. كما يؤكد على لزوم الفصل بين المتشابه والمحكم (الظاهر والنص) في توظيف معطيات القبض والبسط بحيث لا تدخل في حساباتها نطاقات النص المحكم. وهكذا يغفل عن الفارق الرئيسي بين (ضروريات المعرفة الدينية) و (قوانين الضرب الفيثاغوري) مما قد يمكن القول بثباتها لكن لا على اساس هذه المقارنة غير المبررة، كما يتجاهل ان سروش يلقي ضوءاً على مستوى عميق من التحليل يتوغل فيما وراء النص وحجم دلالاته اللغوية (التي يقوم اصطلاح المحكم والمتشابه على اساسها) الى الذهن الذي يقرؤه والمعطيات السابقة والهواجس الإشكالية التي تتحكم في وجهته، مما هو حاضر حتى في عملية الانفتاح على النص المحكم. أي ان ذلك لا يجدي معه توظيف الثنائيات التقليدية: الضروري _ النظري، المتشابه _ المحكم، الإجماع _ الشذوذ… الخ.

ويصرح الشيخ جعفر السبحاني بأن الفرضيات التي تقوم عليها نظرية القبض والبسط هي امور بديهية لا غبار عليها، ولكنه يتردد حين يصل الى المقتل الذي اصابت النظرية من خلاله المعرفة الدينية في شكلها التقليدي، أي حقيقة الترابط القائم بين ألوان المعرفة البشرية. فيظل يؤكد على ان ذلك الترابط ليس عاماً فثمة معارف تبقى ثابتة بمعزل عن التطور المعرفي، ولكن يبدو أن الشيخ السبحاني تصور ان المقصود بتغير المعرفة هو تحولها إلى نقيضها وحسب اذ يمثل بحقيقة ان عدد العناصر في الكيمياء قد تغير لكن الإنسان لا يزال يؤمن بضرورة مقابلة الإحسان بمثله. غير انه بذلك ينقل فكرة الترابط الى مستوى تبسيطي عام يتصل بالجانب العملي من الأخلاق في واحدة من مفرداته الواضحة ويتجاهل التحولات العميقة التي طالت الاسس النظرية للأخلاق ومفاهيمها. بل لعل هذا الموضوع يمثل نموذجاً بارزاً للتفاعل بين ألوان المعرفة، فمفاهيم الأخلاق لدى الاتجاه الظاهري أو النصوصي مثلا تتباين ولا شك معها لدى الصوفية او الفلاسفة في موضوع واحد أحياناً، على اساس تباين أسسها النظرية والأدوات التي تتولى تكوين بنيتها. وهذا بذاته ما يسجل على سائر الملاحظات التي يواصل السبحاني طرحها.

يتمثل المحور الأساسي في موقف الشيخ جوادي آملي بتهمة السفسطة التي يقول انها تتوارى خلف معطيات القبض والبسط. وهو يظل كما صنع الشيخ السبحاني يركز على نموذج واحد لتحول المعرفة أي تغيرها الى النقيض، متجاهلاً مستويات التحول الأخرى التي يتناولها سروش منهجياً ومفهومياً وفي دائرة المحددات والتوظيفات، وبالتالي فإنه يسهل عليه توجيه تهمة السفسطة. ومن اغرب ما يطرحه الشيخ جوادي ملاحظته الخامسة التي تؤكد على تجرد العلم ولاماديته (مثاليته) في ضوء الفلسفة الكلاسيكية. ويرى ان ذلك يجعله فوق قوانين المادة كالحركة والتدرج والتحول، ولذلك فهو ليس بنسبي او متغير. يبدو انه تصور ان نسبية المعرفة تعني تغير الصور العلمية الذهنية في ذاتها وبوجودها المثالي (كي يستلزم ذلك انقلاباً في الماهية على حد تعبيرهم) بينما من الواضح ان هذا بعيد كل البعد عن مغزى النسبية فهي تفترض بقاء الصور العلمية الأولى ومجيء صور جديدة مغايرة دون ان ينال ذلك من مثاليتها او تجردها. والأغرب انه يعترف نفسه بإمكان تغير علاقة النفس (وموقفها) ازاء المعرفة السابقة لكنه يظل يردد ان العلم ثابت بما هو مجرد.

………………………………….

المصدر: قضايا اسلامية معاصرة /العدد 18/2002.