بسم الله الرحمن الرحيم
من أروع مايمكن الالتفات اليه فيه كتابات الباحث محمد مختارالشنقيطي وسبره بحثا هو ماأورده في هذا الحوار المتميز حقا *حول فقه الدعوة والدولة والتنظم لدى الحركة الاسلامية المعاصرة
لم يخل هذا الحوار وماورد فيه من أفكار وتصورات من تألق وجدة حري بالمنتسبين للح! ركة الاسلامية أن ينتبهوا اليها ولاسيما في ظروف المحن والسجن والتهجير والاضطهاد,وهو لعمري هدية أقدمها بكل اخلاص الى كل من عشق تونس الخضراء واحة للتنوع والثراء والابداع وتعلق فيها بمشروع حركي أو سياسي أو حزبي أو عقائدي وأراد من ورائه الخير لأهله وأحبائه وبني وطنه
وهو أيضا هديتي الى أحباء حركة النهضة والملتفين حولها ممن عشقوا الفكرة الاسلامية المتنورة وابتعدوا حتما عن العصبية والمذهبية التي قد تذهب لدى كل أصحاب المشاريع السياسية أحيانا بالبصيرة
لقد اخترت هذا الحوار بعد طول بحث ونظر وألم لازمني طيلة شهور وأنا أتساءل عن معاني الأخوة عندما تذوب أمام أول امتحان في تعدد الاراء والاجتهادات
أردت منه زهرة ألقيها وسط البستان الذي يعتمل احتقانا بالطاقات التي تحتاج الى تصريف خلاق ينهض ببلدنا وأمتنا سعيا في الخيرات وتنافسا في الحسنات ورغبة في مرضاة رب العياد
لم أرد ح! تما تعزيز الاختلافات ولكن سعيت حقا من ورائه الى تعزيز وحدة الصف في اطار من ثراء النظر وعمق التأمل لاشكالية مركزية ألا وهي مذا لو تنوعنا وأثرينا الاجتهادات وامنا ايمانا عميقا بحقنا جميعا في حرية الرأي والتعبير دون أن يكون لذلك أثر على عمق أخوتنا الاسلامية والوطنية والانسانية ,بل أن يكون لذلك أثر عظيم على واقع مناشطنا وأدائنا وتحصيلنا في الفضاء الوطني العام بما يخدم مفهوم النهضة في عمقها الفكري والفلسفي والوطني والديني بعيدا عن كل أشكال التمييز والاقصاء المنبعثين من أتون الموالاة ولاء وبراء للحزب ومن الحزب
لمذا لايتحول الحزب الى مدرسة تكون الحركة فيها جناحا والنهضة هدفا نهتبل اليها الفرصة في كل المواقع والهيئات والجمعيات والأحزاب ومسارب الخير والعطاء ؟
ان حبنا للمشروع ينبغي أن يتحول الى حالة ناهضة من التفكير والتدبير بما يضع حدا نهائيا لمقولة أنت معي أو أنت ضدي ,طالما أن الولاء في جوهره لله ولرسوله وللمؤمنين والى كل الطيبين والطيبات في ر! بوع الوطن الفسيح
لقد ارقني ألم أخفيته طيلة سنوات وأنا أرصد بعض الظواهر المرضية تشق عباب سفننا الحزبية وكان أن ألفيت هذا المقال والحوار الرائع مع الدكتورمختار الشنقيطي لأفجر بين جنباته وحواشيه هذا التقديم الذي ارتأيته مليئا بالرسائل الودية الى من أحببت وشاركت الامل والألم فكان أن انبعثت في مسيرتنا حقول ألغام زرعها الأعداء والمغتاضون وأصحاب المصالح والنفس الأمارة بالسوء
ولعلني هنا قبل أن أحيلكم على هذا الحوار النادر أخص بالذكر في الاهداء كل من سابني أو شتمني يوما ما لمجرد أنني اجتهدت
ولعلني في سياق هذا الاجتهاد الذي طوته الأيام بعد حالة من التأمل والرصد أكون مصيبا في بعض ماقلت وصرحت ولعلني أيضا أكون قد أخطأت وزللت ولكن لاعاصم لي بين هذا وذاك الا أن أتمسك بالدفاع عن حق بعضكم في الاختلاف معي الى حد رسمه فولتير وهو القتال والى حقي في التعبير عن رأيي الى حد النسبية التي دقق معالمها العلمية والفيزيائية اينشتاين
والسلام عليكم من أخيكم مرسل الكسيبي
في 15-12-2005
وفيما يلي نص الحوار مع الباحث الموريطاني محمد مختار الشنقيطي اثابه الله ونفعنا بعلمه وعمله
*حوارات فكرية متميزة
فتاوى سياسية: حوارات في الدعوة والدولة 1-2
30-10-2005
من الأسباب التي تحول بين الإسلاميين والوصول إلى السلطة أسباب فكرية، مثل الإلحاح في فقهنا السياسي على “الخوف من الفتنة” و”وجوب الطاعة” مع عدم التدقيق في هذه المعاني، وعدم التمييز بين مفهومها الشرعي المبدئي ومدلولها التاريخي الاصطلاحي، ودون التمييز فقهيا بين التعاطي مع سلطة شرعية لها بيعة اختيارية في أعناق الناس يجب الوفاء بها، وبين سلطة مغتصبة لا بيعة لها ولا طاعة شرعا، بل هي جزء من المنكر الذي يجب تغييره.. ومنها أسباب عملية لعل أولها عدم قدرة الإسلاميين على إبعاد الجيش عن الحياة السياسية،
بقلم المحرر
خص الباحث الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، والمقيم في الولايات المتحدة، مجلة العصر الإلكترونية بمقتطفات من كتابه الذي سيصدر قريبا ! بإذن الله عن “مركز الراية للتنمية الفكرية” في دمشق، وننشره تباعا على حلقتين:
* ما رأيكم في التلازم بين الطغاة والغلاة والغزاة؟ وهل الأول سبب للثاني والثاني سبب للثالث أم ماذا؟
** هذه الثلاثية الجميلة —أقصد القبيحة- تفسر الكثير من جوانب مأساتنا اليوم. فما من ريب أن الطغاة هم الذين يفتحون الباب للغزاة. وقد عبر عن ذلك الأستاذ المفكر مالك بن نبي منذ عقود فقال: إن القابلية للاستعمار هي التي تقود إلى الاستعمار، وإن الأفكار الميتة تمهد للأفكار المميتة، بمعنى أن عدم تحصين مجتمعاتنا سياسيا وثقافيا هو الذي جعل أبوابها مفتحة لأي عدو طارئ. لماذا انسحبت الإمبراطورية البريطانية من كل مستعمراتها على الأرض ثم لا يزال لديها جنود في البحرين والكويت والعراق مثلا، هذا مؤشر على أن أمتنا هي أقل أمم الأرض حصانة ومنعة. والتحصين يكون بإحدى طريقتين إما تحصين سياسي للأمة من خلال تغيير القيادات المفلسة واختيار قيادات شرعية تحترم إرادة الأمة وتحميها، وإما تحصين عس! كري للأمة ببناء قوة رادعة تجعل الطامعين فيها يفكرون مليا قبل الإقدام على غزوها. والتحصين الأول أي السياسي أولى وأضمن ثمرة لأن المواطنين الأحرار هم الذين يستطيعون حماية بلدانهم، أما القوى العسكرية وحدها مع العبودية السياسية فهي لا تفيد. وليس السلاح الباكستاني النووي منا ببعيد. لقد قال عنترة بن شداد منذ أمد بعيد: “إن العبد لا يحسن الكر والفر، وإنما يحسن الحليب والصر”.
* ما هو الموقف الشرعي من المجاهدين الذين قد يرتكبون أحيانا أفعالا غير مقبولة بميزان الشرع؟ هل نتبرأ منهم ومن جهادهم أم نتغاضى عن أخطائهم تعظيما لجهادهم؟
** لا هذا ولا ذاك.. فقد ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء وقال: “اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد” ثلاثا، وذلك حينما ترخص خالد رضي الله عنه في قتل قوم أظهوا الإسلام. . وفي ذلك درس لنا أن المجاهد ليس فوق النقد، بل هو بشر يصيب ويخطئ، فالواجب بيان خطئه إذا أخطأ، والتبرؤ من فعله إذا أساء، دون التبرئ من مبدإ الجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، أو التبرئ من المجاهدين الذين هم درع الأمة وحصنها الحصين. فالنبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فعل خالد بن الوليد، لكنه لم يتبرأ من خالد، ولاعطل الجهاد بسبب أخطاء خالد، بل ظل خالد أحد قادته الكبار بعد التبرئ من فعله ذلك. وهذا أمر دقيق المسلك نحتاج إلى تدبره بروية. ومهما يكن فإن العمل الإسلامي الذي سيبقى ويثمر هو العمل اذي يلتزم شرعية الأهداف والوسائل كليهما، لأن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا. وتلك هي الوسطية التي نحتاج التأكيد عليها اليوم. على أن استعمال القوة لا يحكم عليه في ذاته بالقبول أو الرفض، إذ قد يكون شرعيا في بعض الظروف، وغير شرعي في ظروف أخرى.
* هل فشلت الحركات الإسلامية في اجتذاب النخبة؟
** لا أعتقد أن الحركة الإسلامية فشلت في اجتذاب النخبة، بل إن من مشكلات بعض الحركات الإسلامية أنها نخبوية أكثر من اللازم، ولم تستطع مد أجنحتها إلى عامة الناس. ومن أبلغ أمثلة ذلك “الجماعة الإسلامية في ! باكستان”. فنظامها الذي كان يصنف الأعضاء إلى “أركان” و”متفقين” نظام جامد ضيق. وقد نشرت عن تجربة “الجماعة” في هذا الشأن مقالا بعنوان: “هاجس التميز ومخاطر الانعزالية”.
قد يكون من الحق القول إن بعض الحركات الإسلامية عجزت عن استيعاب العديد من أهل الفكر والقلم، ولعل من أسباب ذلك حاجة المفكرين إلى حرية الرأي، وضيق بعض الحركات الإسلامية بهذه الحرية. كما أن من أسبابه “شطحات” بعض المفكرين والكتاب، وإغراقهم في التنظير بعيدا عن الوقائع التي تعيشها الأمة، واغترارهم بالقوالب الذهنية المجردة التي يتصارعون بها وعليها.
لكن فشل الحركات الإسلامية في اجتذاب العوام، وصياغة خطاب يفهمونه ويستوعبونه هو الفشل الأكبر في هذا المضمار. والعوام هم وقود التغيير ومادته.
* ألا ترى أن مفهوم “الحركة الإسلامية” أو “الجماعة الإسلامية” أصبح تقليديا، غير منسجم مع تطور الأنشطة الجماعية البشرية المعاصرة؟ وأنه آن الأوان لتحل محلها مفاهيم “القيادة” و”العمل التطوعي” و! “التنظيم الإداري” التي لا تضفي أي قداسة باسم الدين على شكل الجماعة، وإن كان منهجها ونشاطها يهدفان إلى إقامة الحياة الإسلامية.. وأن الأولى أن يصبح العمل الإسلامي قائما على علوم الإدارة الحديثة القائمة على تجميع الإسلاميين على قاعدة التخصص، تنتفي معه مفاهيم “البيعة” و”الإمارة”؟!
** أعتقد أن مفهومي “البيعة” و”الإمارة” مفهومان سياسيان، وليسا مفهومين اعتقاديين، لكن هذا لا يعني أنهما ليسا جزءا من الدين، بل هما جزء أصيل من مقاصد الدين في تحقيق مصلحة الجماعة. والإسلام دين محوري يستقطب حياة الفرد والمجتمع كلها. ولا ينفي ذلك الحاجة الملحة للاغتراف من الفكر الإداري والسياسي المعاصر. فليس العيب في “البيعة” و”الإمارة”، فكلاهما مفهوم شرعي وعملي أصيل، بل فيما نضفيه أحيانا على هذه المفهومين وغيرهما من معان ودلالات لا تنسجم مع روح الشرع في العدل والحرية والديمقراطية.
فما نحتاجه اليوم هو التحرر من الوثنية السياسية السائدة في العالم الإسلام الآن، والانطلاق من أن الأم! ير أجير، وليس ربا معبودا، وأن الحركة وسيلة لا غاية، وأن البيعة التزام لا إلزام…الخ وقد أورد الحافظ الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء” أن التابعي الزاهد أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية بن أبي سفيان، أيام ملكه بالشام، فقام بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا :مهْ، فقال معاوية: دعوه فهو أعرف بما يقول، وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل.
وذكر ابن كثير في “البداية والنهاية” في ترجمة الشاعر المتنبي أن المتنبي مدح مرة أحد الملوك بأسلوبه المغالي، فقال:
يا من ألوذ به فيــما أؤمله ** ومن أعوذ به مما أحـــاذره
لا يجبر الناس عما أنت كاسره**ولا يهيضـون عما أنت جابره
ثم عقب ابن كثير بأن ابن القيم أخبره أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرأ هذين البيتين في سجوده، ويقول: “لا يصلح هذا لغير الله”..
فالوثنية السياسية ضاربة بأ! طنابها في ثقافتنا، والأصنام البشرية حلت محل الأصنام الحجرية، ولا سبيل لنا سوى التقيد بوصية الشاعر محمد إقبال في نبذ منهج آرز، واتباع ملة إبراهيم عليه السلام وهو يحطم الأصنام:
نحت أصـنام آزر ** صنعة العاجز الذليلْ
والذي يطلب العلا ** حسبه صنعة الخليلْ
* ما هو تقييمكم لأداء الحركات الإسلامية مع الحكومات؟ وهل طريقة تعاملها هي الأنسب في هذه المرحلة؟
** التعامل مع الحكومات مسألة نسبية تخضع لظروف المكان، فلا مجال لوضع صيغ نظرية عامة حولها، تصلح لكل الحركات الإسلامية، فتلك دعوى عريضة لا نستطيع ادعاءها. كما أن الحكم على الوسائل حكما عاما ودائما يحولها إلى غايات، ويفقدنا المرونة الذهنية والعملية في التعاطي معها. ولا يعني هذا موقفا سلبيا من تجارب الحركات الإسلامية في هذا المضمار، وعدم تعريض تلك المواقف للفحص والتقييم، بحجة أن “أهل! مكة أدرى بشعابها”. بل لا بد من دراسة كل تجربة، وبيان حظها من النجاح والإخفاق، أملا في تحصيل العبرة والخبرة للمستقبل. وعموما فأنا ممن يحبذون علاقات سلمية مع الحكام -ما كان ذلك ممكنا- لأنها هي التي تضمن تحولا أخف إيلاما، وأقل ثمنا، وأكثر رحمة بالأمة. مع اقتناعي بعبرة تاريخية مفادها أن المواعظ المجردة لا تردع الحكام الظلمة، ولا تجعلهم يتنازلون عن سلطة اغتصبوها بغير حق، وأن سنة المدافعة من أهم سنن الله في الحياة السياسية والاجتماعية: “ولولا دفع الله النا بعضهم ببعض لفسدت الأرض”، وأن الأخذ على يد الظالم واجب شرعي لن تفلح أمتنا حتى تعطيه حقه من الفهم والتطبيق. ففي الحديث النبوي الصحيح: ” إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه”. وقد نشرت على موقع الجزيرة نت بحثا مفصلا عن “الإخوان والعلاقة بالسلطة” يتناول هذا الشأن بشكل أكثر رحابة وتفصيلا.
* كثيرا ما نسمع فقهاء زماننا يحذرون من مقاومة الظلم السياسي، ويدعون إلى طاعة كل حاكم، حتى ولو كان غير شرعي.. ما العمل مع هذا؟
** إن الحكام المستبدين من غليظ المنكر الذي يجب على كل مسلم تغييره. ويقتضي إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام هدَّ عروش الظلمة الذين يستعبدون الناس ويتحكمون في أنفسهم وأموالهم من غير حق. وقد رفع الخلفاء الراشدون عن الشعوب ظلم الأكاسرة والقياصرة والأباطرة، فلما رجع الظلم إلى ديار الإسلام مع تحويل الخلافة إلى ملك، قاومه خيرة الصحابة وبذلوا أرواحهم في سبيل تغييره، كما حدث في ثورة الحسين بن علي، وثورة عبد الله بن الزبير، وثورة أهل المدينة ضد يزيد، وثورة التوابين بالعراق التي قادها الصحابي الجليل سليمان بن صرد، وثورة الفقهاء بعد ذلك بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث.. أما عدم نجاح هذه الثورات فهو لا يطعن في سلامة منطلقها وشرعية فعلها، وإنما يقول ذلك متأخرة الفقهاء الذين اعتادوا التكيف مع الواقع وتبرير الظلم السياسي. ومهما يكن فإن أولئك الصحابة الذين حملوا السيف ضد الاستبداد أفقه في الإسلام من أي فقيه متحذلق يأتي بعدهم. ولذلك قال ابن حجر إن مذهب السيف “مذهب للسلف قديم، ولكن استقر الأمر على ترك ذلك”. ومقصو! ده بمذهب السيف مقاتلة الحاكم الجائر. فحري بمن يريدون اتباع السلف أن يأخذوا بمذهب السلف القديم، ويرفعوا ظلم المستبدين عن أمتهم، ولا تستعبدهم مقولات المتأخرة من الفقهاء..
على أن الشرع المبني على جلب المصالح ودرء المفاسد يقتضي من الطامحين إلى التغيير الاجتهاد في تقليل ثمن التغيير من الدماء والأموال إلى أقصى حد، وعدم الانجراف إلى الموجهات الهوجاء، التي تتحول من حرب على الحاكم الظالم إلى حرب على الشعب المظلوم.
* ما هو السبب الحقيقي في عدم وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة؟
** من الأسباب التي تحول بين الإسلاميين والوصول إلى السلطة أسباب فكرية، مثل الإلحاح في فقهنا السياسي على “الخوف من الفتنة” و”وجوب الطاعة” مع عدم التدقيق في هذه المعاني، وعدم التمييز بين مفهومها الشرعي المبدئي ومدلولها التاريخي الاصطلاحي، ودون التمييز فقهيا بين التعاطي مع سلطة شرعية لها بيعة اختيارية في أعناق الناس يجب الوفاء بها، وبين! سلطة مغتصبة لا بيعة لها ولا طاعة شرعا، بل هي جزء من المنكر الذي يجب تغييره.. ومنها أسباب عملية لعل أولها عدم قدرة الإسلاميين على إبعاد الجيش عن الحياة السياسية، وهو الشرط الأول في بناء أي سلطة شرعية، تتأسس على الاختيار لا على القوة. وقد نشرت تحليلا مطولا بهذا المعنى على موقع
الجزيرة نت بعنوان: “الجيوش العربية من الانقلابات إلى الثورات”. ومن المهم الانتباه هنا، إلى أن الوصول إلى السلطة —على أهميته- ليس وصولا إلى الغاية. وذلك درس تعلمناه من تجربة الحركة الإسلامية في السودان، فهي حركة رائدة في الثقافة العملية بمعناها الحركي، لكن فقهها في مجال الدولة لا يزال ضعيفا. وهو ما يفسر تخبطها في التعاطي مع قضايا كثيرة يعيش السودان آلامها اليوم.
* بماذا تنصح العاملين للإسلام الذين بدأ يساورهم شك في جدوى العمل الجماعي بسبب القصور القيادي والتنظيمي في حركاتهم؟
** الأصل أن العمل الجماعي مطلوب شرعا، مرغوب واقعا! . ونصيحتي للمسلم الملتزم هي الارتباط بكل العاملين أفرادا وجماعات، فإن وجدت في بعض الحركات الإسلامية ما لا يرضيك قيادة أو أداء، فستجد عندها بعض ما يرضيك تربية وثقافة مثلا… وحافظ على ولائك لكل المسلمين، بمختلف مشاربهم ومذاهبهم. ولا تقصر عملك على القنوات والمؤسسات التي تنتمي إليها، بل اعمل معها ومع غيرها، ولا تخلط بين الانتماء والولاء: فانتماؤك إلى جماعة لا يعفيك من منح الولاء لكل الجماعات العاملة والأفراد العاملين، بل الولاء والنصح لكل مسلم. واصحب كل قوم على أحسن ما عندهم، وابذل جهدك في العمل الفردي موازاة مع العمل الجماعي، واتخذ لك مشاريعك الدعوية الخاصة التي تجعل لحياتك الشخصية معنى، وتكون لك معذرة عند الخالق سبحانه، ولا تداهن الجماعة أو القيادة، واقتحم وبادر، ولا تنتظر الأوامر.
* متى نرى السعي الحقيقي في وحدة العمل الإسلامي وكأنه بنيان مرصوص
** صورة البنيان المرصوص واتحاد القلوب بشكل مطلق صورة مثالية نسعى إليها وقد لا ند! ركها، فما نحتاجه اليوم هو صيغ عملية لتنظيم الخلاف والتعايش معه، والتعاون على المجمع عليه، والعذر في المختلف فيه. ويحتاج الأمر إلى ثورة فكرية تميز بين المفهوم الشرعي والمصطلح التاريخي، والتأكد من صحة المنطلقات البسيطة التي يتجاوزها بعض المسلمين أحيانا، مثل واجب منح الولاء لكل المسلمين، فالولاء للمسلم لا يسقط إلا بسقوط أصل الإسلام، فلا يكن ولاؤك مقصورا على المسلم الملتزم فقط، أو الجماعات والطوائف التي تعتبرها ملتزمة بالسنة، فالولاء حق لكل مسلم أدى الحد الأدنى من الإسلام، وحتى لو كان فاسقا أو مبتدعا، فامنحه حقه من الولاء، ولا تخذلْه ولا تظلمْه ولا تسلمْه لعدو، وأعنه على إصلاح شأن دينه، والتخلي عن ما التبس به من بدعة أو معصية. وهذا ما نفهمه من حديث رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم :”من صلى إلى قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله”.
وتستلزم الوحدة التحرر من المصطلحات التاريخية التي أدت دورا وظيفيا في الماضي ثم أصبحت عبئا على العقل المسلم ال! يوم، مثل مصطلح “السلفية” و”الصوفية” و”السنة” و”الشيعة”. فالرجوع إلى المفاهيم القرآنية والتسميات القرآنية هو الذي يبدد هذه الغواشي، وقد سمانا الله عز وجل مسلمين: “هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا…”، وهي تسمية أفضل شرعا ومصلحة من الاصطلاحات التاريخية. كما أن أي مفرق لكلمة المسلمين — فردا كان أو جماعة- فهو “شيعي” بالمفهوم القرآني، حتى وإن اعتبر نفسه من “أهل السنة والجماعة”، واقرأ إن شئت قوله تعالى :”إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء”، وفي قراءة: “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا”. وما أكثر “الشيعة” بيننا، المفرقين لصف الأمة، ممن يحملون راية السنة والجماعة!!
* لا توجد في بعض الحركات الإسلامية شفافية ولا أجهزة رقابية فاعلة، فهل يتعين تأسيس حسبة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر داخل الحركة الإسلامية ذاتها؟
** ما من ريب أن بعض الحركات الإسلامية -وليس كلها- تعاني من الأمراض التي وصفتَها فأحسنتَ التوصيف. وأخطر م! ا هنالك غياب الشفافية والرقابة، وثقافة المداهنة والطاعة العمياء، والسكوت على القصور القيادي والأدائي، خوفا من الاتهام بشق الصف وبذر الفتنة. لكن البيعة قبل أن تكون مع الحركة، هي بيعة مع الله عز وجل، وهي تتأسس على الصدق مع الله تعالى أولا، ثم مع الناس بعد ذلك، والتقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي اللهعنه بـ”قولالحق وإنكان مرا”(أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: : “رواه الطبراني في الصغير، والكبير بنحوه … ورجاله رجال الصحيح غير سلام أبي المنذر، وهو ثقة، ورواه البزار”) وتسمية الأخطاء بأسمائها دون مواربة، وخصوصا أخطاء القادة والأكابر الذين هم محل القدوة والأسوة . وأنا أرى أن المشكلة تتجاذبها جوانب فقهية وفكرية عديدة:
أما من الناحية الفقهية، فإن فقهنا السياسي ضعيف جدا، ضاعت فيه الأولويات الشرعية، واندرست رسوم المبادئ السياسية الإسلامية. ولذا تجد بيننا من يتورع عن الوقوع في أمور خلافية بسيطة جدا با! لميزان الشرعي، لكنه لا يتورع عن ارتكاب موبقات سياسية بالمعيار الشرعي، مثل فرض نفسه قائدا على قوم وهم له كارهون، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من أشد الناس عذابا يوم القيامة ” إمام قوم وهم له كارهون” (رواه الترمذي وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر)، ولفظ “الإمام” في الاصطلاح النبوي ليس إمام الصلاة فقط، بل القائد السياسي والعسكري كذلك، ومثل تولية شخص على قوم وهو يجد أصلح منه، وهو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم “خيانة لله ورسوله”، فقال صلى الله عليه وسلم: ” من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله” وفي رواية: “من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين” (رواه الحاكم).
ومن الناحية الفكرية لا تزال ثقافة الإسلاميين الإدارية والقيادية متخلفة جدا، وكأنهم لم يسمعوا شيئا عن ثورة العلوم السياسية والإدارية المعاصرة، وهي ثورة غذت العقل البشري بنظريات وإنجازات هائلة. وقد قاد ذلك التخلف إلى تضخم جانب العمل السري —رغ! م أنه من باب الضرورات والاستثناء، ولا حاجة إليه في أكثر الحالات- على جوانب العمل العلني المفتوح. كما أدى إلى مساوئ كثيرة في الإجراءات والآليات القيادية والتنظيمية. أعتقد أن واجبنا في مثل ظروفك هو التمسك بالجماعة، مع الإصرار على المصارحة والمناصحة. ومع كثرة الناصحين وجرأتهم في قول الحق —دون إثارة شقاق- تصبح المكاشفة والنقد جزءا من ثقافة الحركة، وأمرا معتادا كما هو المفترض أصلا.* ما هي الخطوات المفيدة في رأيكم للتعاطي مع الشيعة؟ الحوار أم المواجهة؟
** هنالك رؤيتان للتعامل مع الطوائف الإسلامية الخارجة عن خط جمهور الأمة: رؤية استيعابية إيجابية، ترى الحوار والتقارب والتعاون سبيلا إلى دمج هذه الطوائف في الأمة من جديد. ورؤية تتعامل معهم بمنطق متشنج تصادمي، تعتمد التشهير أكثر من التعليم، والقوة أكثر من الإقناع. والشيعة مسلمون، يصلون إلى قبلتنا ويأكلون ذبيحتنا، فلهم ذمة الله ورسوله، على لسان نبي الله صلى الله عليه وسلم، شأن غير! هم من عامة المسلمين. ووقوع المسلم في بدعة أو معصية لا يسقط حقه في النصرة والموالاة والأخوة، بل الواجب الشرعي هو منحه حق الأخوة والولاء، مع الحرص على نصحه وهدايته إلى السبيل الأقوم الذي دل عليه الكتاب والسنة، ومساعدته على التخلص من البدعة والمعصية..
وقد ابتليت الأمة المسلمة في عصور انحطاطها بنزعة طائفية مزقت أحشاءها، وفتحت الباب لأعدائها. وهي نزعة يشترك فيها الكثيرون من الجمهور ومن الطوائف بكل أسف. ومن أسباب ذلك الخلط بين الوحي والتاريخ، وبين الشخص والمبدإ، وعدم الوعي بالزمان، والجهل بالخلافات التاريخية التي بدأت في عصر الصحابة رضي الله عنهم ولا تزال تلقي بظلالها على الأمة اليوم، والجهل بما عند الطرف الآخر، وتغليب سوء الظن، ومحاكمة السرائر، على منهج البساطة، وإيكال السرائر إلى الله. وقد قدمت في كتابي: “الخلافات السياسية بين الصحابة: رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ” رؤية لقراءة تلك الخلافات بشكل أقرب إلى التحقيق إن شاء الله، وأبعد عن منطق الجدل والمراء المفرق. وأغرب ما اكتشفته في إعداد ذلك الكتاب، هو الأخطاء الف! ادحة التي وقع فيها بعض أهل السنة —ومنهم علماء أعلام- في تناولهم للخلافات السياسية بين الصحابة، ثم بنوا عليها مفاصلة مع الطوائف الأخرى، رغم أنهم هم المخطئون في النقل أو في التحليل. أما أخطاء الشيعة في هذا المضمار فهي أشهر من أن تذكر..
أعتقد أن منهج الاستيعاب والاكتساب هو الذي برهن التاريخ على نجاحه في التعاطي مع الشيعة وغيرهم من الطوائف. فقد كانت الإسماعيلية — وهي من أشد الطوائف غلوا وبعدا عن الجادة- تحكم مصر والمغرب وبلادا إسلامية أخرى في يوم من الأيام، ثم تلاشت واندثرت في هذه البلدان، بفضل التغيير الذي حدث في المناخ الفكري والفقهي. ولم تتلاش تحت حد السيف أو جدل المتجادلين. وفي ذلك عبرة لنا اليوم. أما أسلوب التكفير والعزل السائد الآن فهو يقوي انغلاق أي أقلية على ذاتها، وتشبثها بما في يدها من بدع وانحراف. كما أنه يعمق الجرح، ويوسع الشرخ في صف الأمة في ظروف الطوارئ التي تعيشها اليوم، وفي ذلك خذلان للأمة، وتفريط في قضاياها الكبرى. واجب الحركة الإسلامية هو لم الشمل وجمع الكلمة، وتعليم المسلمين سنة وشيعة الحديث في خلافاتهم دون تشنج، حديث! الأخ إلى أخيه.
فإذا أخذنا موضوع الشيعة في سياق بعض الدول المسلمة تخصيصا، فإن الأمر أشبه ما يكون بالبركان، لأن الطائفية هناك باب واسع إذا لم يغلقه الحكماء، فإن القوى الدولية الطامعة ستستغله أسوأ استغلال، وربما سولت لها نفسها تمزيق تلك الدول، ووضع اليد على ثرواتها، تحت شعار حماية الأقليات وصيانة حقوق الإنسان. والأمر كله يتوقف على حسن إدراكنا لحالة الطوارئ التي تعيشها الأمة، والتحرر من الفكر الإقصائي، وتغليب أسلوب الحكمة والاكتساب والاستيعاب، على أسلوب الجدال والتمزيق والتفريق. يتبع.
نقلا عن قائمة مراسلات 18 أكتوبر
نقلا عن مجلة العص
iThere are no comments
Add yours