بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال طالما طرحته على النفس وعلى قادة الشأن العام في تونس وعلى المهتمين به ,لمذا يقف التاريخ عندنا في تونس ولانرى توجها فاعلا باتجاه الاصلاح السياسي الشامل أوحتى المصالحة الوطنية الجادة ؟
والجواب جاء أحيانا قاطعا من قبل البعض بأن أولياء الأمر لايرغبون في الاصلاح مخافة مايحمله هذا الاصلاح من مقتضيات الاعلام الحر ودينامية فعلية للأحزاب والهيئات الأهلية والاعتراف بفساد حقبة سياسية كاملة من تاريخنا المعاصر ومايترتب عن ذلك من اعادة الاعتبار الى الضحايا الأحياء من حقبة سنوات الرصاص على حد تعبير أشقائنا المغاربة
البعض الاخر أضاف حجة أخرى لاأظنها تخفى على الكثيرين! ,مسألة الفساد المالي ومايشكله من عبئ على بعض الحاكمين في تونس ,حيث أن الاصلاح بما يعنيه من انفتاح اعلامي واعادة اعتبار لقوى المجتمع المدني يمكن أن يتولد عنه كشف للمستور في زمن الحديث عن شفافية الأنظمة كشرط أساسي لتوصيفها بالديمقراطية أو عكس ذلك
ولعله لايخفى علي وعليكم بأن لسان الاعلام الحر سوف لن تضبطه بعدها أحزاب ولا هيئات بما أنه يفترض في رجال الاعلام المصداقية والشفافية والموضوعية
ومما يحضر بداهة في ذهن الكثيرين من المراقبين للساحة الوطنية أن ملف التعذيب في حقبة التسعينات ومابعدها من سنوات استهللنا بها الألفية الجديدة ,يظل أكبر الملفات الجاثمة على صدور المعارضين لأي نفس اصلاحي أو تصالحي وأقصد بذلك البعض من الرسميين من رجالات الدولة الذين تحوم حولهم شبه التورط في جرائم تعذيب كثيرا ماتحدثت عنها تقارير أشهر المنظمات العالمية الضالعة في مباشرة قضايا حقوق الانسان
ولاريب في أن كثيرين يحاولون تفسير الأمر على أنه مؤامرة خارجية تدور طواحينها على أجساد التونسيين وأشواقهم نحو الحرية وهو ماأراه في تقديري مبالغة لا أتصور بأنها اطلاقا تجسد عين الحقيقة ,وان كنت أقر بأن للبعد الخارجي في الشأن التونسي مساحة كبرى من التأثير والتوجيه
وحينئذ يبرر الكثيرون الأمر على أنه محض أزمة داخلية تتشابك خيوطها داخل الأجهزة الرسمية ,دون الاشارة من بعيد أو من قريب الى خيوط الحزب السري الذي يشكل وجوده داخل أجهزة الحكم ومؤسساته أكبر عقبة في وجه الاصلاح المنشود
مالذي يجعلنا نعتقد في وجود حزب سري ؟
المتأمل في نسق الخطاب السياسي التونسي وكذلك نسق الخطاب والمشهد الاعلامي القائم ,يتأكد بأن مايجري في البلد له أكثر من دلالة وخلفية
ولربما يكون من الأجدر التذكير بأن ثمة جملة من المسارات والسياقات التي تضبط هذا الأداء وتوجهه في منتهى القصدية ولعل أبرزها مايلي
أولا -الاصرار على الظهور بمظهر الاستواء والاكتمال السياسي وعدم الرغبة في الحديث عن النقائص والثغرات
ثانيا-الابتعاد التام عن ذكر أي جسم معارض جاد ,ومحاولة توصيف الخصوم بالخونة والعملاء والمتاجرين بسيادة البلد
ثالثا- الحديث عن الديمقراطية التونسية وكأنها حقيقة لاينبغي المجادلة فيها أو المساس بهيبتها أو التشكيك ولو يشكل خفي أو جزئي في مصداقيتها
رابعا-التأليه! الاعلامي الرسمي للقائمين على شؤون البلاد وخصوصا شخص رئيس الجمهورية وحرمه ,بحيث أنهما باتا أمرا مقدسا لايمكن المساس به أو نقده أو مجرد الاشارة الى طبيعته البشرية
خامسا-يمكن ملامسة محظور أو ممنوع في الخطاب السياسي والاعلامي ألا وهو الاشارة الى البعد الأخلاقي أو التربوي لبعض المشكلات التي يعاني منها المجتمع
سادسا-هناك عقدة تجاه كل ماهو اسلامي,حيث يعمد القائمون على الأمر الى تجنب ملامسة هذه المواضيع أو التطرق اليها بشكل جذري ومنصف في خطابهم السياسي أو الاعلامي ,بل ان هناك حرصا على تعويم ألفاظ الانتماء العربي والاسلامي أو محاولة للصقها باللاحداثة والظلامية والرجعية والارهاب أحيانا أخرى
سادسا-هناك حرص عجيب ومحير ومريب في المشهد الاعلامي التونسي في التعامل مع كيان المرأة ,حيث تعمد اغلب ا! لصحف والمرئيات الى الاستعمال الرخيص لجسد المرأة في مشاهد لم نتعودها سابقا في ماخلى من سنوات الثمانينات أو السبعينات أو ربما حتى التسعينات ,ولعل مشاهد الاثارة والاغراء الجنسي والاباحية الملبسة بعناوين فنية وجمالية وربما معاني فلسفية تجعلنا جميعا أمام عقل مدبر لما يبث في فضائية تونس سبعة أوقاعات السينما أو ربما ماأنتج من أفلام سينيمائية عديدة اتسم الكثير منها بجرعة لم يسبق لها مثيل من المشاهد الجنسية المباشرة
سابعا-الخطاب السياسي الرسمي في تونس يتسم بكثير من التشنج والتوتر والرفض والتصلب في التعامل مع قضايا اللباس الشخصي,ففي الوقت الذي تدعو السلطة بشكل رسمي كل ابناء الشعب وموظفي القطاع العام الى احياء اليوم الوطني للزي التقليدي وتفرض فيه على الموظفين ارتداء زي معين ,فاننا نجدها في الوقت نفسه تحارب اللباس الساتر والشرعي للنساء التواقات الى الالتزام بشرائع الاسلام وقيمه ,بل انها لاتجد حرجا في ارتكاب محظور يجعل منها استثناء في محيطها العربي والاسلامي عبر تطبيقها الصارم أحيانا للمنشور اللادستوري المشهور ب108
ثامنا-هناك اصرار على عدم الاعتراف بصفة المساجين السياسيين ,وتكرار ممجوج لوصفهم بمرتكبي الجرائم العامة ,في الوقت الذي تعترف فيه كبرى دول العالم سواء من الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة الأمريكية بصفتهم السياسية التي لاغبار عليها أمام السيل العارم والجارف من تقارير أشهر المنظمات العالمية والوطنية لحقوق الانسان
تاسعا-كل وسائل اعلام عالمنا المعاصر تسمي الأحزاب والهيئات بمسمياتها الحقيقية ,ولايضير في ذلك ان كانت الدولة وممثلوها يختلفون أو يتفقون مع هذه الهيئات والأحزاب,الا في تونس فاعلامنا الرسمي لم يذكر يوما ما اسم حماس أو الاخوان المسلمين أو ربما حركة الاصلاح الوطني الجزائرية أو العدالة والتنمية المغربية أو حتى التركية ,وهو مايؤكد أن هناك عقدا سياسية مقصودة ومبرمجة في الخطاب الاعلامي والسياسي الرسمي
عاشرا-هناك حرص على احياء الطرق الصوفية والفلكلورية والتهريجية الميتة واظهارها بمظهر الممثل للدين والمتدينين ,في مقابل عزل وتهميش اخر من تبقى من علماء ومشائخ الزيتونة ,ولعلني أشير في هذا السياق الى استبعاد ذوي الكفاءة العلمية والعملية من أمثال المشائخ خليف والسلامي وبلخوجة أمد الله في أعمارهم,ولعلني أستغرب تمام الاستغراب مثل هذا الأمر ولاسيما اذا علمنا بأنهم متموقعون في هياكل دينية رسمية تحظى بشرعية الدولة
ولا أطيل هنا في توصيف الخطاب الاعلامي والسياسي الرسمي اذ أنني أحسب أنه قد بات مكشوفا ومفضوحا من قبل الكثيرين ولكن يهمني في خضم هذا التحليل الاشارة الى أننا فعلا أمام حزب سري غير باد للعيان ,وأحسب أنه بات مسؤولا عن تغذية عقد النظام تجاه جملة من القضايا السياسية والفكرية والثقافية
المعلوم لدى الجميع أنه بات بامكاننا تفهم مبررات الانغلاق السياسي الذي تعيشه البلاد في وضع مخالف ومعاكس لما جار به العمل في المنطقة المغاربية من اصلاحات وتغييرات نشهد أخبارها ونلحظها على مدار الأشهر والسنوات الأخيرة,ولعلني أكون في مقدمة هذا المقال قد فصلت في بيان هواجس القائمين على الأمر عند تناولهم لقضايا الاصلاح ,ولكن مالا يفهمه كثير من التونسيين والتونسيات هو السر القائم وراء هذه المعاداة لهوية البلاد وعمقها الحضاري ببعديه العربي والاسلامي ,حيث أنه ليس من المفهوم بمكان سر هذا العداء في منطقة عربية ومغاربية لاتحمل مثل هذا الجفاء ومثل هذه الفوبياء تجاه هوية المنطقة وانتمائها التاريخي والفكري والنفسي والحضاري
اننا فعلا أمام سؤال محير يمكن الاجابة عليه ولو جزئيا بالعودة الى بعض المعطيات
كيف تحول الاختراق الايديولوجي والسياسي الى حزب سري ؟
على خلفية ماوقع في أواسط الثمانينات ونهاياتها من نمو سريع للتيار الاسلامي الحركي في تونس ,اتجهت تقديرات بعض القوى اليسارية المعادية للهوية الاسلامية من منطلق عقدي الى ضرورة التحرك باتجاه تفعيل حركة الديمقراطيين الاشتراكيين كحزب منافس له هياكله المنظمة داخل البلاد ,قصد التصدي انذاك لما عرف بحركة الاتجاه الاسلامي ,وعلى خلفية موقف المستيري الرافض لهذا الأمر والذي كان انذاك على رأس هذه الحركة ,اتجهت النية والممارسة بعد تاريخ السابع من نوفمبر سنة 1987 الى اعادة رسم الاستراتيجيات والخطط على أرضية جديدة استعملتها بعض قوى اليسار الايديولوجي المعادي لعقيدة البلاد ,حيث كان النظام في تونس انذاك يبحث عن قوى سياسية تسنده بشرعية مدنية ,وهو ماوجده في شخصيات ومجموعات نخبوية سرعا! ن ماتسلقت السلم الهرمي للحزب الحاكم لتشكل بذلك جزءا رئيسيا ونافذا في رسم سياسات الدولة المعادية لعقيدة الشعب
ولئن توزع اليسار للأمانة والتاريخ بين مجموعات وهيئات لازم البعض منها الحيادية أو الاستقلالية في علاقته بأجهزة الدولة ,الا أن بعضه الاخر وجد نفسه موزعا على ضوء هذا الاختراق الكبير بين مؤسسات القصر الرئاسي ووزارات السيادة والتأثير ومواقع كثيرة لصناعة القرار,وهو ماخوله فعلا تمرير خطاب المواجهة مع الجناح الاسلامي المعارض وتيسيره في ريبة وصمت كثير من قوى المجتمع المدني المعارض والذي يقف بدوره على مساحة واسعة من الولاء الثقافي والفكري لجناحه النافذ في السلطة
ومع اشتداد حالة المواجهة العامة بين الجهاز الأمني وح! ركة النهضة التونسية ,أصبحت تونس أمام حالة فراغ اطاري عام ملأه أصحاب القناعات العلمانية المتطرفة ,حيث تمكنت مجموعات متطرفة من وضع مضمون تربوي سياسي للحزب الحاكم تحت مسمى خطة تجفيف الينابيع ,وأخرى استهدفت قطاع التعليم تحت مسمى اصلاحه ,لتتطور الأمور بعد ذلك من صراع ظاهره حزبي وأمني الى صراع جوهره ايديولوجي وعقدي
واذا كان خروج بعض أطراف من اليسار الفاعل الى العلن على شاكلة معارضة احتجاجية تذمرت تصاعديا من تقليص مساحات الحرية وتصاعد وتيرة القمع قد أحرج فعلا ماسمي باليسار الانتهازي المتمترس بالسلطة وأجهزتها البوليسية ,الا أن هذا الاحراج أو الغطاء السياسي عبر الصمت سابقا على مناكر التعذيب لم يكن ليرفع نهائيا الشرعية عن هذه الأطراف المخترقة لجهاز التجمع الدستوري الديمقراطي ,حيث ظل بعضها متموقعا الى اليوم في منصب مستشار رئاسي ووزير أو مسؤول سياسي كبير داخل ! أجهزة الحزب أو مدير لمصلحة اعلامية حساسة تصنع الرأي العام وربما مواقع هامة في جهاز الأمن الداخلي مما جعل هؤلاء يشكلون حزبا سريا داخل أجهزة التجمع الدستوري الديمقراطي وأجهزة الدولة والأمن بشكل عام
ولذلك فان تونس اليوم تجد نفسها اليوم وبكل صراحة وبدون مجاملات يمارسها الكثيرون,تجد نفسها أمام عقبة كؤود في مسيرة الاصلاح ,حيث تشكل الايديولوجيا المتطرفة اختراقا لمؤسسات الدولة وهياكلها, مما يعسر على البلد الانخراط في مشروع اصلاحي بعيد عن الصراع الحاد للايديولوجيات ,ولعل النظرة المثالية للأمور تجعل المراقب فقط أمام سياق زمني من أجل تحقيق المراد الاصلاحي ,والحال أن الدولة تعيش أزمة حزبها السري الذي يسير الأمور من وراء حجاب ولاأظن أن خروجه من المنتظم السياسي الرسمي سيكون بمجرد ضغط فاعل باتجاه الانفتاح العام ,حيث سيظل هؤلاء المتمترسون بالايديولوجيا صخرة في وجه الم! صالح الكبرى للبلاد ماداموا يعتقدون أن صندوق الانتخابات سوف لن يفرز الا قوى متماهية مع مشروع عقدي وديني يعيش حالة غير مسبوقة من الاضطهاد
مرسل الكسيبي
كاتب واعلامي مستقل
reporteur2005@yahoo.de
14-01-2006
الرابع عشر من ذي الحجة 1426 هجري
iThere are no comments
Add yours