إسلامي تونسي يعود إلى بلاده بعد 26 عاماً في المنفى
حاوره الطاهر العبيدي، الحقائق.
خلاص فردي أم تطبيع ، أم خطوة في الاتجاه الصحيح ، أم انقلاب على سنوات المنفى والتشريد ، أم عودة روحية تختزن الشوق والحنين ، أم تفلتاً من واقع الإحباط والسكون… تلك هي بعض الممرات ، أو بعض السجالات ، أو بعض المطارحات ، التي أرادت «الحقائق» استجلائها ، من خلال هذا الحوار المكشوف ، مع الأستاذ مصطفى الونيسي أحد أعضاء حركة النهضة التونسية اللاجئ السياسي بفرنسا منذ 26 عاماً والذي عاد هذه الأيام إلى تونس بعد أكثر من ربع قرن في المنفى الإجباري.
بعد 26 سنة في المنفى الاضطراري في فرنسا ، منذ خروجك من البلاد سنة 1981، على إثر الاعتقالات في صفوف (الاتجاه الإسلامي) سابقاً، حركة النهضة التونسية حالياً ، عدت هذه الأيام إلى تونس ، ففي أي إطار كانت عودتك ، وما الذي تغير في المناخ السياسي العام ، الذي جعلك تتخذ هذه الخطوة؟
بسم الله الرحمن الرحيم ، شكراً أستاذ الطاهر العبيدي وشكراً جزيلاً لصحيفتكم «الحقائق» المتفردة في طرح القضايا الإسلامية والعربية ، بكثير من الجرأة والتبصّر ، والتي أتاحت لي هذه الفرصة الثمينة ، لأوضّح للقراء وكل المهتمين بالشأن الإسلامي والواقع التونسي أن عودتي من المنفى بعد 26 سنة كانت في إطار تسوية عادية جداً ، كأيّ مواطن تونسي يريد أن يعود للبلاد فهو مطالباً بالحصول على جواز سفر ، حيث ذهبت للقنصلية التونسية بباريس مستفسراً عن الوثائق اللازمة لاستخراج جواز سفر ، موضّحاً بأني لاجئاً سياسياً ، فطلب مني بعث رسالة باسم القنصل العام ، أشرح فيها كيفية خروجي من تونس ، والبلدان التي مررت بها وأين أقمت منذ خروجي سنة 1981 إلى غاية 2007، وبعد تقديم الأوراق اللازمة تسلمت وصلاً ، وبعد مرور ثلاثة أشهر تقريباً تسلمت الجواز ، فكانت فرحتي كبيرة شاركني فيها الأبناء ، فالجواز هو حق وإن سلب مني بشكل أو بآخر لأسباب يعلمها الجميع ، فاسترجاعه لا ينبغي أن يثير كل هذه الضجّة ، فحصولي وغيري من المعارضين على جوازات سفر ، ثم عودتي للبلاد في زيارة خاطفة ، ليس حدثاً خارقاً للعادة ، وليس علامة تغيير سياسي جذري ، كما تريد المعارضة التي لا تبادر ولا تريد من يبادر ، ولا يسرّها أيضاً هذه الانفراجات ، التي تحدث من حين لآخر ، ولكن تيسير هذه العودة وغيرها من الإجراءات في هذا الاتجاه ، هي علامة على بداية انفراج ، ولو كان محدوداً ونسبياً ، نتمنى أن يتوسع ولو بتدرج ويترسّخ ، حتى يعود كل تونسي إلى بلاده ولا يستثنى أحداً، فنتواصل مع شعبنا وأهلنا وأحبابنا ، ونساهم بالقدر الذي نستطيع وتسمح به الظروف في رسم مستقبل بلادنا ، ونحن آمنين على ديننا وأموالنا وأعراضنا ، فالعودة للبلاد إذا تيسّرت الظروف هي في تقديري الخاص واجباً دينياً ووطنياً ، متى أمن الإنسان على نفسه وعرضه ، ذلك لان الأرض الصلبة والخصبة في آن واحد التي يجب أن نبني على أديمها مشاريعنا ، ونغرس فيها غرسنا المبارك هي تونس ، وأعتقد أن عودة المغتربين ولو فرادى هي تشجيع لإخواننا المترددين ، وكسراً للحاجز النفسي الذي أصبح العديد منا يعاني منه ، فالكثيرون يريدون العودة بل يتمنونها ولكنهم لا يجرءون مخافة من التنظيم ، وما يمكن أن يلحق بهم من التشويه والأذى المغرض ، وفي العودة أيضاً تشجيعاً للسلطة وتطميناً لها ، حتى تمضي في تفعيل مسار الانفراج وتوسيعه وترسيخه ، وهو انفراج انطلق فعلاً ولو كان ببطء شديد بتسريح دفعات من المساجين ، نأمل إنشاء الله أن لا يحل علينا عيد الفطر المبارك إلا وكل المساجين قد أطلق سراحهم ، وكل المهّجرين قد طويت ملفاتهم ، فعودتنا وإن كانت في إطار تسوية شخصية بحتة إلا أن لها مقاصد نبيلة ، منها تطبيع العلاقة مع السلطة وطمأنتها ، والتعبير لها ولسائر قوى المجتمع المدني على استعدادنا الكامل لتأسيس علاقة جديدة معها ، قوامها احترام القانون والمؤسسات ، والاندماج الكامل في معركة التنمية ومحاربة التخلف والغلو وتكريس الديمقراطية والتعددية ، وخدمة الصالح العام ، فلا أحد قال أن الأوضاع السياسية هي على أحسن ما يرام ، ولكن ليس من العدل أيضاً القول بأن الأوضاع لم تتحسن وتتطور نحو الأفضل ، إذا ما قورن الحاضر بالواقع السياسي في سنوات الجمر بداية التسعينات حتى منتصفها…
كيف تمّت تحديداً عملية عودتك ، هل كانت عبر قنوات حوارية مع السلطة التونسية أم بأشكال أخرى وبأي ثمن؟
عودتي تمت بشكل عادي جداً وبدون شروط ولا إملاءات ، وهذا من فضل الله تعالى لأن عودتي بهذا الشكل دون ضمانات ولا تدخلات فيه ولا شك قدر من المخاطرة ، ولكن جنبني الله كثيراً من الإحراجات والضغوطات ، قد لا أتحملها ولا أطيقها.
بعد أكثر ربع قرن من المنفى ، كيف استقبلت في المطار ، وهل حدثت لك مشاكل ، أم كانت عندك وعود وتطمينات لتسهيل مرورك؟
لم أعد إلى البلاد في الطائرة ولكن عبر الباخرة “قرطاج” ، ولم يستقبلني أحداً في ميناء حلق الواد ، ولم تحدث لي أي مشاكل ، ولم تكن عندي وعوداً ولا تطمينات من أحد ، أكرر لك ذلك للمرة الثالثة.
في الوقت الذي تضيّق فيه السلطة الخناق على المعارضين ، وتشن حرباً على الحجاب ، تسمح لك أنت بالعودة رغم أنك لا زلت عضواً في حركة النهضة المحظورة من أي نشاط سياسي ، أو تواجد بأي شكل من الأشكال ، وتبقى في نظرها معارضاً أصولياً ، لا يؤتمن جانبه مهما تطهرت من ماضيك ، وأحد الوجوه التي شاركت في مسؤوليات قيادية في المهجر ، فهل من توضيح لهذه المعادلة المتقاطعة؟
شخصياً لم اربط عودتي بشرط رفع كل التضييقات المتوقعة ، اللهم إذا أردت أن أؤبّد غربتي ، ولكن ربطت عودتي بحفظ كرامتي وسلامتي الأمنية ، وحصولي على جواز سفري قرأته من هذه الزاوية ، إن تحسّن واقع الحريات مرهون بنضالات كل التونسيين ، وخاصة منهم النخبة المثقفة ، والميدان الحقيقي هو داخل تونس ومع شعبها ، وليس من وراء البحار وعبر الانترنت فقط ، وإني حريص جداً أن تكون علاقتي ببلادي طبيعية بما في ذلك السلطة ، أما عن الحجاب ..شخصياً لم أر حرباً لا جزئية ولا شاملة ، قد يكون ذلك بسبب قصر المدة التي قضيتها ، ولكن ما أؤكده أن المحجبات في كل مكان ، وعددهن إن لم يتجاوز عدد غير المحجبات ، فلا يقل عنهن ، هذا ما رأيته أما ما سمعته وقرأته فشيء آخر ، مفاده أن السلطة في مواجهة شاملة ضد الحجاب وضد مظاهر التدين ، ورأيي الخاص حتى ولو كان ذلك حقاً سواء بصفة كاملة أو جزئية ، فإن ذلك ليس سبباً لتشويه صورة تونس في الخارج والمحافل الدولية ، وتصوير بلادنا على أنها وكراً للفجور والدعارة والكفر والإلحاد ، فالإسلام دين الجميع والأرضية المشتركة الذي نقف عليها جميعاً بما في ذلك الملحدين منا ، فلا ينبغي أن يتخذ من موضوع التدين سبباً للخلاف والمزايدات ، فلا أحد يمكن أن ينصّب نفسه وصياً على الدين ، بل الدين في رأيي مجال منافسة لخدمته والدفاع عنه وصيانته ، دون منّ أو تفاخر ، سواء في السلطة أو النهضة أو الأحزاب الأخرى ، أما عن مسألة عضويتي في حركة النهضة التونسية ، فقد غدت عائقاً وحاجزاً عن التطور ، وذلك لأسباب معروفة ، منها أن حركة النهضة في الوقت الراهن ليست تنظيماً بالمعنى المتعارف عليه ، بقدر ما هي مشروعاً نظرياً له أنصاره في الداخل والخارج ، وتتنازعه بعض الرؤى الغير متجانسة ، إضافة إلى أنها تعيش وضعاً استثنائياً قد طال إلى درجة أنه أصبح موضوعياً هو الأصل ، إلى جانب أن قيادتها الرسمية موجودة في المهجر ، عوض أن تكون في الداخل ، كما أن قيادتها التاريخية ما يزال جزء منها إما في السجون أو المهجر ، وحتى المسرّحين وضعياتهم الاجتماعية لم تسو ، مما أعاق أداء الحركة ، فلم تستطع إدارة نقاشاً واسعاً ديمقراطياً ، في صفوف أبنائها للحسم في الخيارات والتوجهات الكبرى الفكرية والسياسية ، وبقيت تراوح مكانها لا تكاد تتجاوز ، إن لم تتأخر إلى الوراء ، وبناء على هذا الكشف السلبي ، أصبح وضع المناضل الإسلامي داخل التنظيم أو خارجه لن يفيد المشروع ذي الخصوصية التونسية ، والأمر يستدعي حلاً جذرياً ، فانتمائي للحركة بهذه المعاني ليس انتماء تنظيمياً تقليدياً ، بقدر ما هو انتماء رمزياً للمشروع ، أما معارضتي للسلطة فهي ليست حتمية ، ولست مسكوناً بذلك ولا أريدها إلا أن تكون نقدية وواقعية ، ولا تتجاوز الحدود السياسية والحقوقية الاجتماعية ، ولا أتصور نفسي في يوم من الأيام من الآن فصاعداً أن أتواجد في هيئة من الهيئات أو حزب من الأحزاب ، يعارض فقط من أجل المعارضة للمزايدات وتحقيق بعض الانتصارات السياسية الوهمية من غير تعقل وتفكر ، لم أعد أؤمن أن كل ما يأتي من السلطة هو سواد في سواد ، وكل ما يأتي من التيار الإسلامي بياض في بياض ، فدور المعارضة الضغط من أجل الترشيد والنصح ، بعيداً عن أشكال المزايدات والمغالبة والتشخيص..
وحول تجربتي الماضية ، كانت ولا شك قابلة لأن تكون أحسن بكثير ، لولا ظلم ذوي القربى ، وحسن الظن الذي يبدو أنى قد وضعته في غير محله.
ما هي المشاهدات والارتسامات التي طبعت زيارتك إلى تونس بعد 26 سنة من المنع لدخول البلاد ، وما هي التغيرات الواضحة التي بدت لك ظاهرة على ملامح المجتمع التونسي.
ما لفت نظري هو عودة الناس للتدين ، فالمساجد تغصّ بالمصلين وخاصة الشباب وحتى الأطفال ، وعودة الحجاب رغم ما نسمع من ضغوطات ، ورغبة الناس على الإقبال على أداء فريضة الحج والعمرة ، وتحسّن البنية التحتية بشكل ملفت للانتباه ، وحزم الإدارة التونسية إذا ما قارناها بالعديد من البلدان العربية والإسلامية ، التي كنت قد زرتها ، إلى جانب حسن سلوك أعوان الأمن من شرطة وحرس وطني المكلفين بمراقبة الطرقات وتنظيم حركة المرور ، وهو ما لم أعهده من قبل ، وقد قيل لي أن هذه المعاملة خاصة بالعائدين من الخارج ، أما المظاهر السلبية فتتمثل في الإدمان على التدخين وإضاعة الوقت في المقاهي ، ونموّ ظاهرة الاستهلاك رغم قلة الموارد ، فالإسراف والتبذير أصبحا مرضاً اجتماعياً ، فالتونسي ينفق أكثر من إمكانياته ، ويظهر ذلك في الأعراس ، وبناء المساكن الفاخرة ، التي قد لا يحتاج إليها صاحبها ، على الأقل بمثل ذلك الحجم
ماذا غيرت لديك هذه العودة سياسياً واجتماعياً وسيكولوجياً؟
مكنتني عودتي على قصرها من عدة أشياء نافعة وصالحة إنشاء الله في الدنيا والآخرة ، منها على سبيل المثال ، ربط الصلة والتواصل بأهلي وجيراني القدامى والجدد وأصدقائي وشعبي وأرضي الحنون التي غادرتها منذ 26 سنة ، كما مكنتني من تقبيل أعزّ مخلوق عندي وهي والدتي الصابرة رمز الوفاء والكرم ، وإليها وإلى كل امرأة صبرت وصابرت ورابطت وقاومت هذا الطوفان ، إلى كل امرأة أنجبت وأرضعت واستقامت وارتفعت فوق هذا الغثيان ، أهدي هذه الكلمات وهذه الدعوات فلعل الله يطوي عنا بعد المسافات ، ويعوّضنا خيراً عما فات ، ويجمع شملنا فوق أديم تونس الخضراء ، هذه المرأة الرمز بالنسبة لي ..قبلتها أخيراً على جبينها الذي لم تسجد عليه إلا لله رب العالمين ، فتعانق الفرع والأصل في عناق كله حب ووفاء وإخلاص ، لقد كان عناقي لوالدتي لحظة روحية لا يعرف حقيقتها إلا من ذاقها ، كما تمكنت من التخفف من هذا الحمل الثقيل الذي كان يرهقني ، ويكبل خطاي والذي استنفذ أغراضه وطال أكثر من اللزوم ، والذي يسمى اللجوء السياسي ، أما على المستوى السيكولوجي فقد شعرت أثناء هذه العودة أني أولد ولادة جديدة ، على عكس ما ذهب إليه البعض ممن اعتبر عودتي هي شهادة وفاة لتاريخي النضالي…
شاركت في مهمات قيادية في حركة النهضة بالمهجر ، وفي بداية التسعينات جمّدت نشاطك القيادي كما تقول “اعتراضاً على التهور والزج بالأبرياء من أبناء الحركة في معركة خاسرة مسبقاً…” ولا زلت عضواً في الحركة ووقفت عند هذا المفترق ، وقد حافظت على علاقات اجتماعية حميمية مع رفاق الدرب ، وساهمت في بيانات من أجل إيجاد حل للمساجين الإسلاميين ، فبماذا تفسّر هذا التشابك في المواقف؟
انتمائي للحركة لم يكن لحساب مواقع قيادية أو شهرة أكسبها ، أو تفرّغ لأحصل على راتباً وإنما كان لله وللمشروع الإسلامي الحضاري الذي طالما حلمنا به ، ولعل هذا هو ما أعطانا القوة للصبر على هذه الوضعية الاستثنائية ، وأحسب أن هذا الخيار هو الذي أبقى على حريتي وجرأتي في الحق ، وهذا الاختيار ولئن كان صحيحاً وأحمد الله عليه إلا أنه لا يخلو من تبعات على المستوى الاجتماعي والعاطفي والعائلي ، وإني أتحدى كل الإخوة القياديين الذين لا يتأخرون في تلقيننا الدروس ، أن تكون لهم الشجاعة الكافية للصبر على تحمل تبعات التهميش والبقاء في المواقع القاعدية مدة وجيزة ، وهذا ما أثبتته الأيام ، فالذين غادروا المواقع القيادية لسبب أو لآخر ونحن نعرفهم بالأسماء تأزموا نفسياً ، وتقوقعوا على أنفسهم ، وفيهم من انقلب إلى معارض شرس للحركة ، وهذا ما لم نسقط فيه والحمد لله ، أما عن تجميد نشاطي فهذا قد حصل فعلاً في بداية التسعينات ، عندما بدأت بعض القيادات تزورنا في باريس ، لتعبئتنا ومطالبتنا بالانخراط في مشروع أسموه بخطة فرض الحريات في البلاد ، وقد حدث ذلك في صمت بعيداً عن الإعلام ، ولعل ذلك كان خطأ ، المهم ولأسباب عديدة منها العزلة والتعتيم الإعلامي ، بقيت ملتزماً بهذا الموقف إلى منتصف التسعينات ، عندما اتصلوا بي لإقناعي من جديد بأن الحركة قد اختارت في مؤتمر ربيع 1995 الخيار السلمي المسؤول والمتدرج ، ولأني أحسن الظن بالناس وخاصة منهم رفاق الدرب ، استجبت تشجيعاً لهم على هذا الخيار ، وكجزاء على هذه الاستجابة فيما يبدو دعوني لعضوية المكتب السياسي ، ولكن بعد مدة وجيزة شعرت أن التهميش ما يزال متواصلاً ، وأن عضويتي داخل هذا المكتب هي صورية ، ومن درجة ثانية ، وأن صوتي غير مسموع ، وأن الكلمة الأخيرة ليست للمؤسسة ، وإنما هي فقط لبعض العناصر النافذة مالياً وأدبياً، ولإزاحتي عن هذه المؤسسة ، دعوني مرة ثانية لعضوية مكتب الدعوة الذي لم أستطع مواكبة أنشطته على قلتها وتواضعها، نظراً لتواجد مقره خارج فرنسا، وحفاظاً على شعرة معاوية والتي لن اقطعها إلا إذا قطعوها ، انخرطت مع مجموعة من الإخوة الأفاضل في معارضة داخلية ، لممارسة شيء من الضغط ، وتحقيق التوازن ، وإحداث بعض الإصلاحات من داخل إطار الحركة ، وبما يسمح به قانونها الأساسي ، فوقع التآمر علينا لشل حركتنا الإصلاحية ، وعزلنا ووصفنا في نشرية المراسلة الداخلية من طرف الرجل الأول في حركة النهضة بالجيب ، وإلى غير ذلك من التهم الباطلة ، وأذكر أني نشرت مقالاً تحت عنوان “المصالحة المساجين والداخل” فأزعج ذلك قيادتنا ، ووقع الاتصال بي رسمياً لتحذيري من سوء عواقب هذه التجاوزات ، إلا أني لم أعر تلك الضغوطات اهتماماً ، فمسألة إطلاق سراح المساجين كان هو الأولوية القصوى ، فساهمت ودعوت لإصدار بعض البيانات ، لإيجاد حل للمساجين الإسلاميين ، أما علاقاتي الشخصية مع رفاق الدرب فهي مستمرة ومقدسة ، وأنا حريص على رعايتها ، ولا يمكن أن أساوم فيها وإن اختلفت مع بعضهم.
البعض يعتبر عودتك المنفردة إلى تونس تنكراً للعهد ، وبعضهم يعتبرها نوعاً من الخلاص الفردي على حساب المشروع ، والبعض الآخر يراها من قبيل التسوية الشخصية التي تغافلت عن حقوق المجموعة ، والبعض الآخر يراها تقديم شهادة وفاة لتاريخك النضالي الإسلامي وانقلاباً على سنين المنفى الطويلة والبعض الآخر يعتبرها خياراً في الاتجاه الصحيح ورداً على حالة التأرجح والتيه، وأنت تقول “أن في العودة للبلاد وربط الصلة بها ولو كانت منقوصة فوائد لا يعرفها إلاّ من عاشها” فما هي هذه الفوائد التي جنيتها من زيارة سريعة؟
لا شك أن عودتي إلى تونس هي نوعاً من الخلاص الفردي إذا أصررتم على هذا المصطلح ، ولكنه خلاص لحساب المشروع وليس على حسابه ، والواقعية السياسية هو مباركة كل خطوة في الاتجاه الصحيح ولو كانت منقوصة وبطيئة ، ثم المطالبة بتوسيعها ، أما الجمود والهروب إلى الأمام فلا يخدم إلا الاستئصالين ، الذين يعملون على تعميق الهوة بيننا وبين السلطة ، أما الفوائد التي يمكن أن يجنيها العائد فهي كثيرة على المستوى الفردي والجماعي ، منها التحرر والانعتاق من حمل ثقيل بات يؤرقني طيلة 26 سنة ، كما أنى تخلصت من وضع استثنائي غير طبيعي بالمرة ، فرض علينا وليس هذا ندماً عما كتب الله لنا ، فالعودة للبلاد في تقديري نهاية مرحلة بإيجابياتها وسلبياتها ، وبداية مرحلة جديدة من العمل والنضال المتوازن والمستمر ، فالعودة بهذا المعنى هي ولادة جديدة لمشروع جديد في ثوب جديد ، وكل مولود يولد صغيراً وضعيفاً ثم يكبر ويقوى ، إذا ما أنشأناه نشأة طبيعية ومتدرجة ، وما أنصح به القائمين على هذا الوليد أن لا يحرقوا المراحل ولا يستعجلوا النتيجة ، وليتركوا الوليد ينشأ نشأة طبيعية قائمة على العلم والمعرفة والوطنية ، والإخلاص لله.
هل ما قمت به هو اعتراف بالفشل السياسي للمنهج المتبع ، أم نوعاً من الندم في الخيارات السياسية ، أم خطوة تصحيحية أم شطباً للذاكرة أم تقرّباً من السلطة ؟
ما قمت به وإن بدا شأناً فردياص فهو شأن جماعي وليس بدعة ، وستثبت الأيام إنشاء الله ما أقول ، وهو خطوة إلى الأمام في اتجاه إعادة التأسيس والتشكل ، بناء على تقييم شامل وموضوعي وشجاع لا بد أن نقوم به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، فالعودة هي إجراء جزئي في اتجاه فرض هذا التوجه التصحيحي ، الذي من مفاصله إعادة النظر في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين السلطة والتيار الإسلامي.
أنت من دعاة المصالحة مع النظام ، بإيجاز تصورك لهذا الخيار ، خصوصاً في ظل تصلب السلطة ورفضها لكل النداءات في هذا الاتجاه؟
أنا من دعاة المصالحة مع الجميع ، وهذا التصلب من طرف السلطة ورفضها النداءات له مبرراته ، نتحمل نحن جزء من هذه المسؤولية ، لأن هذه الأخيرة لم تلمس جدية في هذه النداءات وثباتاً على نفس الخيار ، وخاصة من طرف الممثلين للتيار الإسلامي ، وعليه لا بد من إعادة فتح قنوات التفاوض وبرموز جديدة مع السلطة ، ومحاولة طمأنتها وإقناعها بجدية مسعانا قولاً وعملاً وسلوكا.
بماذا عدت من تونس ، وهل لك توصيات من السلطة؟
عفواً هذا سؤال استفزازي لا أجيب عليه.
لاحظ الكثير عند رجوعك هذه الأيام من تونس النص الحاد الذي نشرته حيث قلت بوضوح “القيادات الفاشلة هي دائماً ضعيفة الذاكرة لا تريد أن تتذكر وتعتبر ، ولا تطيق أن يُرد الاعتبار للمخالفين في الرأي ولو كانوا صائبين”. فما المقصود بهذا الكلام وهل من توضيح أكثر لهذا التغير في أسلوب الخطاب لديك الذي لم يكن على هذا الشكل سابقا؟
النص الذي نشرته مباشرة إثر عودتي من تونس ، كان رداً على حوار أجراه نائب رئيس الحركة في إحدى المنابر ، وقد كان جواباً على استفزاز من طرف عنصر قيادي استهدفني ، واستهدف وجهة النظر المخالفة له ، فحدّة هذا النص كانت نتيجة لسلوك غريب ، ولم تكن هي الأصل ، وقد اعتذرت عن ذلك أمام القراء ، في نص سميته توضيح التوضيح.
“ألم يكن أجدر بكم أن تستعملوا ذكاءكم والمال العام لعزل خصومكم الحقيقيين، الذين استعملوكم وجرّوكم إلى هذا المستنقع الآسن، الذي بقيتم تتخبطون فيه…” هذا الكلام الذي نشرته واضح أنه موجهاً إلى قيادات حركة النهضة فمن هم الخصوم الحقيقيين الذي عنيتهم في هذا الممر؟
هذا الكلام له علاقة متينة بالتحالفات التي عقدتها الحركة في أكثر من مرة ، وأكثر من مناسبة مع أطراف معزولة ومشبوهة ، ما عدا بعض الاستثناءات ، ضربت الحركة مرتين في ظرف لا يتجاوز العقدين ، مرة عندما نظّرت لضربها رافعة شعار لا حرية لأعداء الحرية ، وميدانياً عندما تحالفت سياسياً لعزل الحركة ، والإحاطة بها واستدراجها إلى ما استدرجت إليه ، وضربتها مرة ثانية عندما أوهمت قيادة الحركة بأنها قد تطورت في نظرها ، فاستعملتنا واستعملت قواعدنا ، لفرض ميزان قوى جديد لا فائدة لنا من ورائه باتجاه مغالبة السلطة وإحراجها ، وسواء المرة الأولى أو الثانية فالطرف الفاعل والمؤثر هو دائماً هذه الأطراف ، والطرف المفعول به هو الحركة وقواعدها ، فإلى متى يبقى الإسلاميون وقوداً لمعارك وهمية ، وحتى لا أفهم خطأ ، فإن للحركة أن تتحالف مع من تشاء ، ولكن بضوابط أخلاقية وشروط سياسية ، تحفظ الهدف المشترك ، وتحدّد مساحة القاسم المشترك ، ومن هذه الشروط والضوابط التي لا تقبل المساومة احترام الهوية ودين وتاريخ هذا الشعب ، وأن يكون الطرف المقابل أيضاً جاداً في تحالفه ، ويقبل بك كما أنت دون أن يفرض عليك شروطه وإملاءاته ، وخاصة منها الأيديولوجية والفكرية.
الأستاذ محسن نقزو عضو قيادي في اتحاد المنظمات الإسلامية الأوروبية ، رجع إلى تونس في الأسابيع الماضية بعد حصوله على تطمينات ووعود قاطعة من السفارة بعدم تعرضه لأي مكروه ، قبض عليه مباشرة عند نزوله في المطار ، وهو الآن رهن الاعتقال والتعذيب ، فما تفسيرك لهذا التصرف من جانب السلطة وكيف تقرأ هذه الحادثة؟
لا علم لي بما حدث له بالضبط ، غير أني وأنا في طريقي للعودة لتونس التقيت به في مدينة مرسيليا، فوجدته متحمّساً ومتفائلاً ومستبشراً بهذه العودة أكثر مني ، تبادلنا وجهات النظر في هذا الموضوع ، وبعد رجوعي إلى باريس ، سمعت أنه قبض عليه ، فتأسّفت لذلك ، ويبدو أن الاحتفاظ به في قبضة الأمن كانت لمسائلة أخرى لا علاقة لها بنشاطه الدعوي في فرنسا ، وأنا على يقين من أن السلطة ستتحقق من براءته ، وتطلق سراحه في أقرب وقت ممكن ، فرجل مثل أخي محسن قزو لا يمكن أن يصدر منه إلا الخير لبلاده والناس أجمعين ، ومثله لا يمكن إلا أن يكون رجلاً صالحاً من الوزن الثقيل ، يستحق التكريم ويشرف تونس واتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا ، وثقتي فيه كبيرة ومساندتي له كاملة.
iThere are no comments
Add yours