ليال حداد – جريدة الأخبار – بيروت
تمرّ المَشاهد سريعاً. لا يستطيع المُتصفّح تمييز كلّ تفاصيلها. لكنّ العمليّة واضحة: رجال شرطة يعرّون أحد المواطنين. يقيّدونه ويغتصبونه بـ… قنينة مشروبات! لسنا هنا في معتقل «أبو غريب» ورجال الشرطة ليسوا جنوداً أميركيين: إنّها عملية تعذيب تدور رحاها في أحد السجون المصريّة. طبعاً لم يكن أحد ليعلم ماذا يجري في أروقة السجون لولا… المدوّنات. تلك المواقع المجانية التي تحوّلت سريعاً إلى العدو الرقم واحد للنظام المصري.
وصل عدد المدوّنات المصرية العام الماضي إلى 160 ألفاًَ، حوالى 20 في المئة منها تهتمّ بالشأن السياسي وفق تقرير صادر عن «مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار» التابع لمجلس الوزراء المصري. وتعريف «الشأن السياسي» هنا، ليس واضحاً. المطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية للمصريين قد تعدّ «شأناً سياسياً»، وبالتالي يصبح صاحبها عرضةً للملاحقة. والحجّة الأزلية للتوقيف هي طبعاً «تهديد الأمن القومي» أو «بثّ شائعات تحريضية وكاذبة عن النظام» وفق تقارير «اللجنة العربية لحقوق الإنسان».
وائل عبّاس. هذا الاسم وحده كفيل بتأهّب أجهزة الأمن. عبّاس، كان أحد المدوّنين الذين نشروا أشرطة التعذيب التي تحصل في أقبية السجون المصرية. من حادثة سائق الأجرة عماد الكبير الذي تعرّض لعملية اغتصاب خلال التحقيق معه وصولاً إلى تجاوزات رجال الأمن في السجون وخارجها. هكذا، تحوّل عباس إلى مصدر إخباري لعدد كبير من الشباب المصري. «عندما رأيت عملية تعذيب عماد الكبير لم أصدّق عينيّ. شعرت بأنّه على المجتمع أن يتحرّك» يقول عبّاس لـ«الأخبار».
تفنّن رجال السلطة في اختراع أساليب تعذيب عبّاس (34 عاماً). من استجوابه لساعات، أو احتجازه فترات طويلة وصولاً إلى بثّ شائعات ضدّه أبرزها ما جاء على لسان وزير الداخلية المصري الذي أعلن أنّ لعباس تاريخاً إجرامياً حافلاً. «أرادوا تحريض الشارع ضدّي، لكنّهم لم ينجحوا» يقول المدوّن الشاب.
ولإحكام قبضتها على فضاء التدوين، أنشأت السلطات المصرية وحدةً خاصة ملحقة بجهاز أمن الدولة «لمكافحة المدوّنين». وأبرز «إنجازات» هذه الوحدة كانت الحكم القضائي الذي قضى بسجن المدوّن كريم عامر أربع سنوات «بسبب شتم الرئيس وازدراء الأديان السماوية» (راجع «الأخبار» عدد 645).
غير أن الجديد على ساحة ملاحقة المدوّنين هو عمليّات «الخطف»: يطرق رجال الأمن باب المدوّن في ساعات الصباح الأولى، يسحبونه، ثمّ يختفي من دون أن تتمكّن عائلته من معرفة مكانه. وهو ما حصل مثلاً مع ضياء الدين جاد بسبب انتقاده انحياز الحكومة المصرية لإسرائيل خلال عدوان غزة. يُذكر هنا، أنّ المدوّنين ذوو انتماءات سياسية مختلفة تراوح من اليساري إلى الإسلامي، تجمعهم معارضتهم للنظام الحاكم.
وإن كانت مصر الأكثر «نجاحاً» في التضييق على مدوّنيها، فإنّ منافساً شرساً بدأ يزاحمها هو… النظام التونسي. غير أنّ السلطة هنا تبدو أكثر حرصاً على ممارسة ضغوطها بعيداً عن الأضواء والرأي العام العالمي الذي يرى في نظام زين العابدين بن علي إحدى أبرز الديمقراطيات في أفريقيا.
كان 2008، العام الأسوأ للإعلام الإلكتروني التونسي. إذ فَرَضت السلطات حصاراً على مقاهي الإنترنت، وأصبح على كل مستخدم أن يترك هويتّه عند دخوله المقهى ولا يستردّها إلا بعد التأكّد من المواقع التي زارها كما ورد في تقرير «أعداء الإنترنت» الصادر عن منظّمة «مراسلون بلا حدود». ولعلّ أبرز ما يفعله الرقيب هو حجب المواقع من دون أي سبب: «فايسبوك»، و«يوتيوب» و «دايلي موشن» وغيرها من المواقع العالمية قد تختفي دون سابق إنذار، فكيف الحال إذاً بالنسبة إلى المدوّنات؟ تطول لائحة الـ«بلوغز» المحجوبة، لكن أبرزها تبقى تلك التي تنتقد النظام. بينها مدوّنة «كتاب» لسامي بن غربية أحد أشهر المدافعين عن حقوق الإنسان في تونس وهو يعيش في هولندا منذ 11 عاماً كلاجئ سياسي. رغم ذلك، تتدخّل السلطات التونسية في عمل بن غربية: «منذ 2003، هناك محاولات لاختراق المدوّنة من قراصنة محترفين يستعين بهم النظام» يقول المدوّن التونسي لـ«الأخبار».
لكنّ المضايقات لا تقتصر على القرصنة كما يوضح بن غربية، فالعقاب قد يكون أقسى. من حجز جوازات سفر المدونين ومنعهم من السفر، وصولاً إلى سجنهم وتعذيبهم كما حصل مع التونسي محمد الفوراتي، الذي صدر قرار بسجنه غيابياً لمدة 14 شهراً بسبب مقالات نشرها. كذلك الحال بالنسبة إلى بوخذير الذي سجن بسبب آرائه وجرت قرصنة مدونته وإتلاف محتواها. ولا تقف حدود «الديموقراطية» التونسية عند هذا الحد. إذ قد يمنع رجال الأمن أحد المدوّنين من استخدام شبكة الإنترنت، وهو تماماً ما حصل للمدوّن عبد الله الزواري.
«مدوّنتي محجوبة لكن بإمكان كلّ التونسيين متابعتها عبر تسجيلهم على خدمة التلقيمات التي أوفّرها أو على المدونات التونسية التي تنشر مدوّناتي» يقول بن غربية، مشيراً إلى «غباوة» السلطات التونسية والعربية التي لم تفهم بعد أنّ عمليات الحجب والقرصنة لم تعد ناجحة، وأن سبل كسر هذه الرقابة أصبحت في متناول كل مستخدمي الإنترنت.
هكذا، في أقل من خمس سنوات تراجع دور الإعلام التقليدي وتحوّلت المدوّنات إلى الوسيلة الإعلامية الأكثر شعبيةً. إعلام لا قوانين تقيّده ولا هيكليّة تنظّم عمله. ولعلّ أبرز الأدلّة على خطورة هذا الإعلام البديل هو المطاردات الأمنية التي إن دلّت على شيء، فعلى ذاك الخوف الحقيقي من سلطة جديدة اسمها… المدوّنون.
iThere are no comments
Add yours