مدخل لوعي حالة الفساد السياسي
و إذا كان تعريف الفساد بوجه عام موضوع تهتم به القوانين و التشريعات التي تحضر و تحدد مختلف أشكاله و جرائمه و التي لا يتسع المجال لعرضها في هذا الباب فإن الفساد السياسي يحتل في عالم اليوم مركز إهتمام و محور أبحاث العلوم السياسية الحديثة لما يشكله من خطر على استتباب الأوضاع الداخلية لما يقترن به عادة من الإستبداد و التعسف في غصب السلطة من ناحية و الدولية بشكل عام من خلال تركيبته القائمة على الجريمة المنضمة العابرة للحدود أو من خلال مجالاته المهددة لسلامة المجتمعات و استقرار الإقتصاد الدولي مثل تجارة المخدرات و تهريب السلع المقلدة و تبييض الأموال.
و يمكن القول أن المفكر التونسي الكبير عبد الرحمان ابن خلدون كان أول من انتبه إلى مركزية عامل الفساد السياسي على استقرار الدول و انحطاطها من خلال ما أطلق عليه تسمية “علم العمران” في مقدمته الشهيرة و إضافته لما يعرف بالنسق الخلدوني الذي وضعه لقيام الدول و انقراضها حيث حدد خمسة أطوار لحياة الدول واعتبر أن الطور الذي يخترق فيه الفساد مؤسسة الدولة مؤشر لطور انحطاطها و دليل على حتمية انقراضها.
كما دعى ابن خلدون إلى ضرورة الحكم على وضع كل مجتمع بحسب طبيعة الأحوال التي يعيشها حيث يقول ” إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله و تحول العالم بأسره و كأنه خلق جديد و نشأة مستأنفة و عالم محدث”. و مع المنهج العقلاني الصارم الذي استند عليه في البرهان على صحة نضريته فإن ابن خلدون يورد الدليل القرءاني الصريح لتدعيمها بقوله ” و إذا تأذّن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب الذمومات و انتحال الرذائل و سلوك طرقها، فتفقد الفضائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم و يتبدل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك و جعل في أيديهم من الخير “و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا.”
و لا يقتصر دور ابن خلدون على إبراز انعكاس الفساد السياسي للقائمين بالسلطة و بطانتهم على انحطاط الدول و خراب العمران بل أن نضرية العصبية التي جاء بها أصبحت أساس الدراسات الإجتماعية الحديثة حول المشاركة السياسية و التماسك الإجتماعي في مواجهة ضاهرة الإعراض عن الحياة السياسية و الإستقالة من الشأن العام.
و تتجلى مضاهر الفساد السياسي أساسا في العلاقات العادية المنضمة لحياة الأفراد من خلال ما يمارسه المأمورون التابعون للسلطة و أعوانها من إبتزاز مقابل ما يؤدونه من خدمات للمواطنين في نطاق وضائفهم. و يدخل في هذا السياق فساد الإدارة و فساد القضاء و فساد الشرطة و أجهزة الأمن. و من جهة أخرى بما يحيط به أصحاب السلطة و المقربون منهم أنفسهم من هالة الوجاهة و الإمتيازات بما يجعل منهم طبقة فوق مستوى الناس العاديين لا يطالها القانون و لا تشعر بأدنى إلتزام بأحكامه و يجعل أصحابها في وضع يفتح أمامهم تجارة النفوذ و التوسط و الرشاوي و الغصب و الإستيلاء و إطلاق أيديهم في المال العام بحيث يتجلى الفساد من خلال إزدهار التهريب و ضهور التجارة الموازية و البضائع المزورة و المقلدة و تجارة الممنوعات و التي غالبا ما تستند إلى شبكات الجريمة المنضمة.
و يقود عدم تدارك الوضع بسياسات صارمة لتطهير أجهزة السلطة من البطانة التي تتشكل حول رأسها إلى تحول القواعد الطبيعية لعمل هذه الأجهزة إلى سلوك عام قائم على الفساد يشرع الرشوة و المحسوبية و الوجاهة بحيث تتحول مؤسسات الدولة إلى أجهزة في خدمة مصالح أصحاب النفوذ و الوضائف العامة و مطية للتكسب عن طريق العمولات والرشاوي على حساب الفئات الأكثر هشاشة و التي عادة ما تكون أيضا الأكثر عددا و فقرا إضافة إلى تحول إهتمامات الدولة عن مصالح عامة الشعب إلى خدمة ما حقق مزيدا من الثراء لخاصتها.
و هذا الثراء الفاحش المتأتي من الفساد لا تلبث أن تضهر علاماته على المستفيدين منه سواءا في مستوى ترف العيش الذي يضهرونه أو بالأخص في مستوى حجم الثروة التي لا يلبث ان يتضح أنهم يملكونها أو من خلال إستثماراتهم عند محاولتهم التحول لرجال أعمال لتبييض الأموال غير المشروعة التي كسبوها من خلال إستثمارها في السيطرة على البنوك و القطاعات الأكثر ربحية في الإقتصاد من جهة و في تدعيم قاعدتهم السياسية تحسبا لحماية مراكزهم الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية على المدى البعيد.
وهكذا نجد أن الفساد في هذا المستوى يعود بالأساس إلى طبيعة السلطة نفسها و غياب المراقبة و استحالة المحاسبة عما يقترفه الماسكون بها من تجاوزات في خدمة مصالحهم الخاصة و الإثراء الفاحش و السريع و الذي يطرأ عليهم و على المقربين منهم و الذي لا يجد تبريرا منطقيا له سوى في ما توفر لهم من نفوذ بفعل السلطة الماسكين بها. و هو ما نعني به الفساد السياسي و الذي لا يمثل إستشرائه داخل المجتمع سوى انعكاس لفساد الحكم نفسه قول الشاعر:
الإطار النضري العام لمعضلة الفساد السياسي
لذلك برزت في السنوات الأخيرة بوادر تشكل مقاربة جديدة في تناول مسألة الفساد السياسي عن طريق تطوير ترسانة من القوانين الدولية لمقاومة الفساد السياسي و تركيز قواعد مشتركة للمعايير الدولية المتعلقة بتحديد مفاهيم الفساد السياسي و آليات الكشف عليه و مقاومته داخليا و دوليا و ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة و صندوق النقد الدولي و منظمة الشفافية العالمية. مثل إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في 30 مارس 2004 و التوصيات الأربعين الخاصة بلجنة العمل المالي للمعايير الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال الصادرة في 20 جوان 2003 و غيرها من الإتفاقيات و القوانين و الآليات الدولية و الإقليمية و الوطنية المنبثقة عنهما.
و يقدر البنك الدولي حصيلة الفساد من الرشاوي المدفوعة للشخصيات السياسية في تقريره الصادر سنة 2004 بأكثر من ترليون دولار سنويا كما يتعتبر الآفة الثالة من حيث الأهمية التي تعاني منها الشعوب الإفريقية بعد الفقر و البطالة. و لكن الإجماع الحاصل حول خطورة الوضع و أولويته لا يقابله نفس الإجماع من حيث المقاربة النظرية لمواجهته.
و تتنازع الرأي الغالب في هذا المجال نضريتين أساسيتين؛ الأولى نضرية دعم المؤسسات و تلح على التركيز على المؤسسات باعتبارها تمثل نقصة ضعف الأنظمة المخترقة بالفساد السياسي مما يجعل السلطة تمارس في هذه النضم وفق هياكل و قواعد غير واضحة المعالم تتيح لأصحاب القرار السياسي مجالا واسعا من الحرية في تحديد خياراتهم في الصفقات المالية بحيث تصبح الرشاوي أهم حافز لهم في تحديد القرار. لذلك تبحث هذه النضرية على التركيز على دعم المؤسسات و تفعيل دورها لتشكل درعا في مواجهة الفساد و تسد منافذه.
أما النضرية الثانية فتعتبر أن تغول السلطة في المخترقة بالفساد السياسي يشكل حافزا للفساد بحيث يتصرف المسؤولين الرسميين بشكل منطقي و لكن بمنطق ربحي لأنهم لا يميزون في قرارة أنفسهم بين أموالهم الخاصة و الأموال العامة و في غياب إي مراقبة أو سلطة مضاده فإنهم يوجهون كامل النضام في الإتجاه الذي من شأنه أن يخدم أكثر مصالحهم الخاصة. لذلك نجد أصحاب القرار يتلاعبون بخطط السياسة الإقتصادية لتوجيهها نحو المجالات التي من شأنها أن تجلب لهم أكثر ربح مالي و تكون أكثر مردودية. و يرى أصحاب هذه النضرية أن الدولة التي يهيمن عليها الفساد السياسي بحاجة إلى إعادة هيكلة بالكامل بمعنى تغيير كامل للنضام لإصلاحها و تركيز آليات مكافحة الفساد السياسي داخلها.
و رغم التباين في منهج المعالجة تتفق النضريتان في تشخيص الفساد باعتباره سياسيا بالأساس و قائم على إشتراك الموظفين العموميين و القادة السياسيين في استغلال النظام لمآرب شخصية بسبب غياب سلط مضادة تدعمها مؤسسات حقيقية.
و من البديهي أن لا تسعى الدول التي لا تقوم السلطة فيها على قواعد الحكم الرشيد وسلطة القانون إلى تطوير تشريعاتها المتعلقة بمقاومة الفساد أو ترقية عمل مؤسساتها على قواعد الشفافية و تدعيم إستقلالية وسلطة القضاء فيها و فتح مشاركة المجتمع المدنى في مراقبة تصرف مسؤوليها عن طريق توسيع حرية الصحافة و التعبير.
إن هذا الجانب النضري لقضية الفساد السياسي يحيلنا مباشرة على العقدة التي يتوقف عليها حل كامل المشكلة و ترتهن أي إستراتيجية لمقاومة الفساد في بلادنا. ذلك أن الإستراتيجية الإجرامية في مقاومة الفساد و تبييض الأموال المترتبة عنه تقتضي وجود إرادة سياسية لوضعها و تطبيقها و إذا كان الإطار السياسي نفسه متورط في الفساد فإنه يصبح من السذاجة إنتضار وضع أو تنفيذ هذه السياسة منه.
كما أنه لن يتسنى قياس مستوى الفساد من خلال المعطيات التي تقدمها مثل هذه الحكومات. ذلك إن الفساد عندما يستولي على السلطة تصبح هذه الأخيرة لا تسعى إلى كشف حقيقة الفساد بل إلى التعتيم عليه و إخفاء حقيقته و في أقصى الحالات إلى تبريره. لذلك يبقى المرجع الحقيقى لقياس درجة الفساد السياسي في أي دولة أو مجتمع من المجتمعات في ما تعتمده هذه الدولة من تشريعات و تراتيب للتصدي لضاهرة الفساد بين القائمين بالسلطة فيها و في مستوى الحرص و الشفافية في التقيد بهذه الإجراءات و تنفيذها.
و تقوم هذه الإجراءات عادة على:
– إعتماد التصريح عن الممتلكات والدخل لدى المسؤولين الرسميين عند تولي المسؤولية و عند مغادرتها وبصفة دورية بيتهما كل سنة أو سنتين و تركيز هيئة لها من الإستقلالية و النفوذ ما يتيح لها مراقبة صحة التصاريح و التثبت في شرعية الموارج و الممتلكات المصرح بها و تتبع المخالفين و من تحوم شبهة الفساد حول مصادر ممتلكاتهم و دخلهم. و نجد أن بعض الدول تحمل صراحة المسؤولين الرسميين عبء الإثبات بأن مداخيلهم وممتلكاتهم متأّتية من مصدر شرعي. (إتفاقية الدول الأميركية لمكافحة الفساد 1996 ).و كذلك مدى شمول هذه التصاريح لأفراد عائلة المصرح و أقاربه المباشرين.
– إعتماد المعايير الدولية في مراقبة المعاملات المالية الحاصلة من طرف ” الشخصيات السياسية الأكثر تعرضا” و هم ما يطلق عليهم عادة “PPE” وهم حسب تعريف مجموعة العمل المالي “الأشخاص الموكلة إليهم أو الذين أوكلت إليهم مهام عامة بارزة، كرؤساء الدول أو الحكومات، والسياسيين رفيعي المستوى، والمسئولين الحكوميين رفيعي المستوى والمسئولين القضائيين والعسكريين، وكبار الموظفين التنفيذيين في الشركات المملوكة للدولة، ومسئولو الأحزاب السياسية الهامين. وتنطوي علاقات العمل مع أعضاء عائلات هؤلاء الأشخاص أو شركاؤهم المقربين على مخاطر تتعلق بالسمعة مثل تلك المخاطر التي يتضمنها التعامل مع هؤلاء الأشخاص بعينهم، ولا ينطبق هذا التحديد على الأفراد الذين يشغلون مناصب متوسطة أو أقل في الفئات المذكورة”.
و من المعلوم أنه لا يوجد مثل هذه الأدوات و التشاريع لمراقبة الفساد السياسي لأصحاب السلطة و القرار و المحيطين بهم في القانون التونسي باستثناء نص مغمور لا يكاد يعلم به أحد يتعلق بالتصرح على الشرف بالمكاسب للقضاة بالنسبة لهم و لزوجاتهم و أبنائهم القصر و يشمل العقارات و السياات و الأسهم والحصص و الرقاع و الأصول التجارية و الحيوانات و المبلغ لدى البنوك و الإموال تحت اليد عند التصريح و تدع هذه التصاريح لدى دائرة المحاسبات إلا أنه لا يوجد أدنى مؤشر على تواصل تطبيقها أو فعالية تذكر لها منذ إحداثها.
كما أنه ليس هناك في نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في تونس التزام للمؤسسات المالية باتخاذ نظام إدارة يسمح لها بالتحقق من هوية الأشخاص المعرضين سياسيًا، والحصول على موافقة الإدارة للدخول في علاقة عمل مع الأشخاص المعرضين سياسيا، وبالاستعلام عن أي شخصية ظاهرة سياسيا أو عن مصدر أموالها وذمتها المالية أو بإثبات اليقظة المشددة نحو الأشخاص المعرضين سياسيا. و قد سكت القانون عدد 75 لسنة 2003 – الصادر في 10 ديسمبر 2003 عن مسألة الأشخاص المعرضين سياسيًا وعن الإجراءات المحددة لليقظة التي يجب تطبيقها عليهم.
و إذا كان القانون هو الذي يوفر الأدوات التشريعية و القنوات الإجرائية اللازمة لمقاومة الفساد فإن فعاليته رغما عن نقائصه تتوقف بالأساس على الدور الذي يضطلع به القضاء في تطبيقه. و هو ما يطرح الدور المحوري لمسألة إستقلال القضاء و سبب ضروريتها حتي يتمكن القضاء من الإضطلاع بواجبه في مقاومة الفساد و درء الفساد السياسي عن مؤسسات الدولة و القائمين بالسلطة من خلالها. لذلك شكل هذا المطلب لحد اليوم عنوان مطاب القضاة منذ قيام دولة الإستقلال و سبب إضطهادهم و محاصرتهم. فهيمنة السلطة التنفيذية على القضاة من خلاال وزارة العدل بين بالتجربة أنه وضف أساسا لتوفير حصانة للقائمين بالسطة و منع لحد اليوم القضاء من محاسبتهم.
و يثار عادة للتملص من ضرورة دعم سلطة القضاء و رقابتهم على شفافية ممارسة القائمين بالسلطة لمهامهم و محاسبتهم عن التجاوزات و الفساد الذي لا تخلو سلطة أن تغر صاحبها من الوقوع فيه بالدفع بمخاطر هيمنة القضاء على السلطة و الوقوع في فخ ما يعرف بحكومة القضاة و التحول من استبداد السلطة التنفيذية إلى استبداد السلطة القضائية التي ليست معصومة بدورها من الفساد.
و الحقيقة أن هذا الإدعاء ليس سوى كلمة حق أريد بها باطل يريد من خلالها الماسكين للسلطة الفعلية المحافضة على إطلاق يدهم في المال العام و التملص من كل ما من شأنه أن يحد من سلطتهم. ذلك أن القضاء مهما بلغت سلطته و مدى إستقلاليته لا يمكنه أن يتعدى الإطار المرسوم له كمرفق عمومي في خمة المجموعة كما يحدده الدستور و تنضمه القوانين و التراتيب. كما أن القضاء لو أتيح له ممارسة سلطته الدستورية في ردع الفساد السياسي فإنه لا يتناول المشتبه بفسادهم من خلال دورهم في السلطة أو خلفيتهم السياسية و إنما من خلال مخالفتهم للقنون و تجاوزهم لضوابط أدائهم شانهم شأن غيرهم من المواطنين.
و هكذا نجد أن العلاقة بين السلطة و القضاء في مجال مكافحة الفساد بشكل عام و الفساد السياسي بشكل خاص تعتبر في حد ذاتها مؤشرا على مستوى الفساد السياسي للسلطة. إذ لاتوجد سلطة نزيهة في مجتمع من المجتمعات لا تدرك أهمية تحصين نفسها من الفساد و مخاطر الإغراءات التي تعرض القئمين بالسلطة إلى الإنحراف و الفساد مهما كانت نزاهتهم. ذلك أن الفساد السياسي يقاس قبل كل شيئ من خلال حرص السلطة نفسها على توفير أدوات مقاومة الفساد بين القئمين بها وذلك من خلال تعزيز التشريعات و دور المؤسسات في مواجهته.
إننا من خلال قضية الفساد السياسي إنما نطرح مسألة أولية تتجاوز مسألة الحكم على السلطة من حيث طبيعتها الإسنبدادية أو الديموقراطية، التقدمية أو الرجعية و اللائكية أو الإسلامية لأنه قبل طرح الخيار حول كل ذلك يحتاج المواطن العادي و البسيط كما نحتاج جميعا أن نعرف هل أنها سلطة فاسدة أو نزيهة حتى تكون جديرة بثقته.
المختار اليحياوي
تونس في 5 جوان 2008
iThere are no comments
Add yours