كما هو الحال في العديد من الدول العربية لا يوجد في تونس أيضا فصل واضح بين الدين والدولة، لكن هذا البلد الصغير الواقع في شمال إفريقيا معروف بتقدمه عن الدول العربية الأخرى فيما يتعلق بحقوق المرأة. إذ أن النساء التونسيات لا يمكن إجبارهن على الزواج ضد رغبتهن، كما أنهن يتمتعن بحق الطلاق تماماً مثل الرجال، إضافة إلى ذلك فإن القانون يحظر تعدد الزوجات حظراً تاماً. لكن نادرا ما يُشار إلى أن وجود هذه القوانين المراعية لحقوق المرأة في تونس تعود إلى المفكر إصلاحي والصحفي، والسياسي التونسي الطاهر حداد، الذي استقى أفكاره على أساس الاجتهاد في النصوص القرآنية.
العلم أساس الدين
هتمت الناقدة الأدبية منوبية بن غداهم بدراسة المراحل الفكرية لتطور هذا المصلح التونسي البارز الذي تقول عنه: “لم يكن من المؤيدين لإضفاء الطابع الأوروبي على المجتمع التونسي، بل كانت أفكاره تدور حول تعاليم القرآن، كإعداد المرأة مثلاً لتكون أماً صالحة. وتذكر بن غداهم أن أول الكلمات التي قالها الرسول كانت إقرأ، ثم توضح أن جوهر الإسلام لا يكمن، في نظر حداد، في أداء الصلوات الخمس يوميا، أو وضع قطعة من القماش على الرأس، وإنما في التعليم. “والتعليم كان يشكل هدفه الأساسي”.
ولد الطاهر حداد عام 1899 في عائلة لأحد تجار الدواجن التونسيين، وتلقى تعليماً تقليدياً، بدأ بالسنوات الست الأولى في مدرسة قرآنية، ثم درس الفقه الإسلامي في جامعة الزيتونة. وبعد إتمام دراسته حصل حداد على رخصة موثق للعقود. لكن المثقف الشاب دخل في النهاية معترك السياسة. وفي عام 1920 أصبح الطاهر حداد مسؤولاً عن الدعاية في حزب الدستور، الذي كافح من أجل استقلال تونس عن فرنسا وجعلها دولة ديمقراطية ذات عدالة اجتماعية. وفي تلك الفترة وضع حداد كتاباً عن حقوق العمال، وأسس أول نقابة مستقلة في البلاد.
آراء مثيرة للجدل
وفي الوقت نفسه عمل حداد بشكل مكثف على تحسين وضع المرأة التونسية، وفي 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1930 صدر كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”. والمطالب التي ضمنها كتابه كانت تعد ثوروية بالنسبة إلى زمنها، فقد طالب بتكافؤ فرص التعليم للذكور والإناث، وإلغاء تعدد الزوجات، والمساواة بين المرأة والرجل في حق الطلاق. وتطرق الكتاب أيضا إلى النقاب في شكله التونسي. وعن ذلك تقول إيمان حجي، المتخصصة في الدراسات الإسلامية، ومؤلفة أول كتاب باللغة الألمانية عن حياة الطاهر حداد وأعماله: “إن حداد عارض الحجاب الذي يغطي كامل الجسم.
وفي ذلك الوقت كانت النساء يرتدين حجابا يغطي الوجه وكامل الجسم. وعارض حداد هذا النوع من الحجاب، لأنه يعيق أيضا التعرف على شريك الحياة، فإذا لم يتمكن الرجل من رؤية المرأة، قبل الزواج قد يؤدي هذا، حسب رأيه، إلى زواج تعيس”. وتشير حجي إلى أن الطاهر حداد أكد على أنه “لم يرد في القرآن ما يفرض الحجاب الذي يغطي كامل الجسد”.
حرية تونس من حرية المرأة
وكان الطاهر حداد على قناعة تامة أن تونس لا يمكن أن تصبح حرة فعلا، وتحقق الانتقال إلى عصر الحداثة إلا من خلال تحرير المرأة. لكن الآراء الحماسية لهذا المفكر والسياسي الشاب أثارت حفيظة المجتمع التونسي المحافظ. وفي هذا السياق تضيف حجي: “كانت ردود الفعل على كتابه عنيفة جدا وعدائية للغاية، الأمر الذي قاد في النهاية إلى اتهامه بالزندقة من قبل علماء جامع الزيتونة، وتم إلغاء الاعتراف بشهادته الجامعية وسحب رخصته كموثق للعقود، مما أثر بشكل قوي على حياته”.
وتضيف المتخصصة في الدراسات الإسلامية أن الصحافة كانت تقود ضده “حرباً كلامية شعواء، وتصفه بالزنديق والجاهل. كانت عدائية جداً”. ولم يتم التهجم على الطاهر حداد كلامياً فقط، إنما تم الاعتداء عليه مرارا في عرض الشارع. وتدفع حدة هذه الهجمات إلى الاعتقاد بأن أسبابها لم تكمن في كتاب حداد فقط. ويذهب المؤرخون اليوم إلى أنه كانت هناك قوى مؤثرة في تونس عمدت إلى التشهير بكتاب حداد من أجل التغطية على أخطائها.
أفكار لا تموت
وفي هذه الفترة كان على المصلح الشاب أن يرى بأم عينه خيانة بعض رفاقه في الحزب له، جبناً أو خبثاً. ودفعه هذا تدريجياً إلى اعتكاف الحياة العامة وقطع علاقاته وصداقاته. وبعد أن سيطرت عليه الكآبة والآلام توفي الطاهر حداد عام 1935 عن عمر 36 عاماً فقط.
لكن أفكاره لم تمت معه، فبعد عقدين من الزمان، في عام 1956، اتخذ الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية المستقلة، من آراء الالطاهر حداد أساساً لوضع قانون الأسرة الذي يعد الأكثر حداثة في العالم العربي. وعن ذلك تقول إيمان حجي: “ليس على المرء إلا إلقاء نظرة على هذه النصوص القانونية وحجج بورقيبة، ليرى أنه استعان بشكل مباشر بآراء الطاهر حداد”. وتضيف المتخصصة في الدراسات الإسلامية: “على سبيل المثال في قضية منع تعدد الزوجات يورد بورقيبة نفس التعليل الذي أتى به حداد، وطبق أيضا حق الطلاق، وألغى قانون إرغام القاصرات على الزواج ضد إرادتهن”.
أما اليوم فإن الطاهر حداد دائم الحضور في حياة التونسيين، فهناك العديد من الشوارع والمؤسسات الثقافية التي تحمل اسمه. وبالنسبة إلى منوبية بن غداهم فإن آراء هذا المفكر الإصلاحي ما زالت تعيش حتى بعد مرور ثمانين عاماً على صدور كتابه. وفي هذا السياق تقول الناقدة الأدبية: “أعتقد أنه لا يوجد اليوم أي شخص يتمتع بالشجاعة الكافية لكتابة ما كتبه الطاهر حداد في ثلاثينات القرن الماضي، كما أن أفكاره تحمل طابعاً نقدياً أدق وأشد من النقد الموجود في الوقت الحالي”.
بقلم مارتينا صبرا
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: منى صالح
المصدر: دويتشه فيله
iThere are no comments
Add yours