قفصة. إنها بعيدة جدا، في أقصى الجنوب، لتحظى بالإهتمام؛ وهي بعيدة جدا، في أقصى الوسط حتى تجلب السواح إليها. عاصمة الحوض المنجمي تغم من يزورها. فالسماء فيها مغيمة، والجو حزين. في وسط المدينة، هناك تجمهر صاخب من العاطلين عن العمل، الذين يبحثون عن شغل؛ ولا شك أن ذلك يبين أن الوضع لم يهدأ بعد وأن المطالب هي دائما نفسها.
بين هؤلاء المتخلى عنهم، هناك عمر وعائلته. إنه يريد رفقة إخوته حكاية قصتهم، وحياتهم، وأحلامهم. ولعلها تجربة مفديدة تلك التي تقتضي تعدد صدى الروايات من خلال هؤلاء الإخوة. فالإنسانية تتمثل لنا بوجوه مختلفة، فتنكشف الذاتيات وتنفجر الاختلافات.
كان لزاما علينا مغادرة المدينة وأخذ إتجاه قابس لملاقاة عمر. على بعد 13 كلم فقط من قفصة، يمتلكنا الشعور بالضياع وسط جهة لا وجود لها. هذه هي المظيلة، مدينة هي مجرد مرقد لساكنيها الذين يموتون من الجوع والمرض، وغالبا من الإثنين دفعة واحدة.
عند مدخل المدينة، هناك مبنى لشركة فسفاط قفصة قائما وسط سهل. إنه ممنوع التصوير، كما تعلنه لافتة غطتها الغبرة، ولكني تعللت بذلك، فسمحت لنفسي التصرف كأني لم أر شيئا. فممنوع تصوير ماذا؟ هل هو ذاك الهيكل الحديدي القائم أمامي؟ أم هذه الذخيرة من السائل التي من المفروض أن تكون إحدى وسائل الحماية عند الحاجة؟ أم تلك المدخنة التي لا يعلم إلا الله ما تنفث في الجو؟
كنت أقول لنفسي، وأنا أبصر عمر، وهو شاب في التاسعة والعشرين من العمر، إنه ليس كغيره من المتسممين، ولا بد، فأسنانه لا تزال بيضاء. ولعل هذا من باب المعجزات هنا!
كان يحكي بغرابة كيف تعرف يوما على خطيبة من شمال فرنسا «كما تعلمين، إنهم أصحاب مناجم، في شمال فرنسا، وإننا نعيش سواء. فالكل مرتهن بالعائلة، وذلك لمن القوة بمكان!»، قالها وهو يجمع يديه بعضها إلى بعض.
هل هي العائلة إذا التي تمكنهم من الصمود؟ العائلة؟ إن أخاه عبد القادر لا يبدو حقيقة وكأنه يعلم ما الذي يمكّنهم من الصمود؟
كان الوقت منتصف النهار، وما كاد يستيقظ. هو يعمل بالمنجم. إنه الواقعي بالعائلة. «لقد درست آلية السيارات. كنت أعلم أني سأعمل بالمنجم. إن السياحة لا تعنيني». وأضاف في قهقهة أن السياحة تغريه كمتمتع بعطلة صيفية لا كعامل. ولكنه ليس من المؤكد أن يتوصل يوما لقضاء ليلة بأحد النزل لغلائها.
إنه في سنه الثامنة والعشرين، قد تجمعت له ثمانية أعوام من الشغل في ميدان الفسفاط. كان ذلك في البداية لفائدة شركة مناولة. ثم أصبحت هذه الشركة تابعة للدولة مما جعله حينا يعتقد أن وضعيته ستتوطد. ولكن كان من الضروري الانتظار وقتا آخر. وكان أجره يرثى له خلال سنوات طويلة : «150 أو 200 دينارا، ولكن بعد الثورة، حصلت على عقد حقيقي مع الديوان القومي للضمان الإجتماعي وراتبي اليوم هو 700 دينارا. وهذا أفضل!».
و بقيت ظروف العمل صعبة للغاية : «إني سائق شاحنة في مغسل الفسفاط. فعلى مجموع 7 ساعات من الخدمة، أنا لا أعمل إلا في حدود 30 دقيقة متتالية أو ساعة على أكثر تقدير. إني بحاجة للراحة لقساوة ضروف العمل نظرا لكثافة الغبار.»
ولكنه ولئن تمكن من الحصول على عقد شغل، فهو لا يعتقد أن الأمور تمر بصفة حسنة. فهو يؤكد لنا أن النظام لم يتغير؛ إن الفاسدين دائما بالميدان، غير أن الخوف قد مر أخيرا من موقع إلى آخر : «آليوم، يعلم الأعراف أننا قادرون على إيقاف الإنتاج، تعطيل حركة القطارات والشاحنات، وتسليم البضاعة؛ لذا فهم يحذروننا».
«من قبل، كان من الضروري للحصول على مكان دفع 000 20 دينارا أو الاعتماد على قريب نقابي أو معرفة عضو بالإدارة». ولكن إذا كانت حالته قد تغيرت، فذلك لم يكن حال الجميع : « نحن باقون على أهبة وتعبئة لأن هناك العديد من العمال في وضعية متزعزعة
هنا». وأول هؤلاء العمال ذوي الحالة المتزعزعة هو أخوه الصغير عبد الله الذي ذهب إلى تونس منذ شهر نوفمبر لإسماع صوته بالعاصمة.
مظلة، أم الأولاد، كانت تراقبنا مسترقة السمع. هي تجلس على كرسي من البلاستيك في إحدى زوايا الغرفة الواسعة والمجردة من كل
شيء. وما لبثت أن تكلمت : « إن ظروف العيش صعبة. لقد وعدونا بتشغيل ابنين من كل عائلة محتاجة كثيرة العدد بالمعامل؛ ولكن لم يتم ذلك. إن منظومة الفساد لا تزال قائمة الذات، والنظام ظل جائرا.» فحسبها الصبر! حسبها رؤية أطفالها هائمين على وجوههم؛ فهي أيضا تريد إيجاد حل، ونبذ كل سنوات بؤسهم وراء ظهرها : «لو أرادت السلط التصرف بحكمة، لأتت للتخاطب معنا ودراسة أوضاعنا حالة بحالة. ولكن ليست هناك إرادة في التغيير. لقد شكرنا الله عند اندلاع الثورة لأننا كما نعتقد أن السماء ستنقشع بعد أن كانت مغيمة طوال سنوات عدة. ولكن ليس الحال كما تمنينا.»
عندما ذهب عمر وشقيقه عبد الله إلى تونس للمشاركة في الإعتصام، لم تكن مظلة تعتقد أنهم سيغيبون طوال تلم المدة الطويلة. لقد اعتصم عبد الله، أحد أبناء مظلة السبعة، بخيمة أمام مقر المجمع الكيميائي التونسي، وذلك منذ 25 نوفمبر. إن له 24 سنة، وقد غادر مقاعد المدرسة منذ طويلة : «كنت تابعت تكوينا كلحام للعمل بالمصنع. لقد وقع إدماجي بالمجمع الكيميائي ولكن لم أحصل على ما كان يجب أن أحصل عليه، لذا تركت الشغل.»
لقد جرب حظه في مناظرة شركة الفسفاط بقفصة، لكنه أسقط في الإمتحان كالعديد غيره : «سأبقى بتونس حتى يمكنوني من شغل أو يبينوا لي لماذا لم أحصل على منصب ولم غيري هو أكثر كفاءة مني؟»
إن عبد الله هذا لهو الأخ الثائر. ترى ذلك في شدة امتناعه عن الكلام بطلاقة وفي نار الغيظ المرعب الملتهبة بعينيه : «إن الحل الأوحد هو الرحيل. إذا قدر لي الذهاب إلى لامبدوزا، فأنا أذهب إليها حتى وإن كان ذلك لأموت بقاع البحر. ومهما يكن من أمر، فأنا بصدد الموت بعد شيئا فشيئا. وإذ أنا أموت هنا، فأمي تعاني الأمرين هناك! حينئذ، الأفضل الموت مرة واحدة.».
ما كاد ينهي كلامه، حتى تراءى لي وجه والدته وهي تصرح، بينما كان نظرها يراقب دلال، البنت الصغيرة في الأسرة : «عندما أرى ابني الذي قارب الثلاثين يغادر البيت وليس في جيبه دينار واحد، ليس له ما يشتري به سيجارة واحدة، فإن قلبي يتفطر ألما؛ بل إنني لأشعر أحيانا بالذنب لولادتهم!»
«إن على المرزوقي والجبالي الأخذ بعين الإعتبار عوز الطبقات الأشد خصاصة في المجتمع. على التونسيين تفهم الوضع، وهو أننا كلنا أمام نفس الإشكالية، ألا وهي أننا نريد حياة لائقة.» إن مظلة تريد حياة لائقة تسمح لها بعدم الاكتفاء بالتغلب على صعوبة العيش بمنحة الشيخوخة التي يتقاضاها زوجها، والتي قدرها 375 دينارا، لتعيّش بها أطفالها العشرة.
إن أحلام كل واحد من هذه العائلة يرتبط ارتباطا وثيقا بشخصيته : الشغل للواقعي، الرحيل نحو حياة أفضل للثائر، بينما يكتفي بالحب الحالم منهم، إذ يكفي عمرالزواج وميلاد وليدة صغيرة له.
وواصلت مظلة الرواية : «تعتريني أحيانا فترات أبكي فيها، وأنا أتساءل هل سيقدر لأولادي الزواج يوما؟ هل سيكون لي حفدة؟ إن كبير أولادي له من العمر 30 سنة، وهو يعيش بالتقتير؛ فهذا مما يوجعني أشد الوجع!».
أما عمر، فهو يواصل الأمل. بالنسبة له، لا مجال للخضوع للأمر المفروض الذي لا يترك البديل ممكنا للعمل بالمصنع في هذه الجهة المتروكة تماما. إن عزمه لهو في إنشاء ناد للمنطاد أو شراء جمال للتفسح بالسياح؛ ولكن التراخيص لا تأتي والمال ينقصه. «عندما تكون معدما، لا حق لك إلا في أن تحلم، فقط! لذا فأنا أحلم. ولعل ذلك لأن الثورة لم تأت بعد إلينا، هنا!»
ترجمه من الفرنسية فرحات عثمان
«عندما تكون معدما، لا حق لك إلا في أن تحلم، فقط! لذا فأنا أحلم