يتضمّن دستور تونس الجديد فصولا تم التنصيص على أنه “لا يجوز تعديلها”، كما يوضح باب تعديل الدستور ما يمكن تغييره في الدستور والإجراءات الضرورية التي يجب القيام بها قبل القيام بأي تعديل، و يذكّر هذا الباب أيضا بوجوب عدم المساس بما “لا يجوز تعديله”.
ما يجوز تعديله في الدستور يتمثل أساسا في الفصول التي تحدد دين الدولة ونظامها وباب الحقوق والحريات والفصل المتعلق بتحديد عدد الدورات الرئاسية. والإشكال المطروح هو الهدف من التنصيص على عدم جواز المس من هذه الفصول تحديدا عدا عن قابلية تجاوز هذا التنصيص سواءا إجرائيا أو سياسيا وذلك بالنظر إلى تجارب عدد من البلدان في هذا الخصوص أو تجربة تونس المتمثلة في إسقاط الدستور إثر الاحتجاجات الشعبية أو أيضا استنادا إلى خلوّ الدستور من فصل يؤكّد على “عدم جواز المس من الفصل الذي ينص على ضرورة عدم تغيير الفصول المذكورة” مما يمنح الحق للمشرع في تعديله.
فصول الدستور التي ” لا يجوز تعديلها ”
تتمثل الفصول التي تم التنصيص إثرها على عدم إمكانية التعديل في الاتي :
تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.
الفصل 1
تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون.
الفصل 2
يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلّا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفّل الهيئات القضائية بـحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك .لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور.
الفصل 49
لا يجوز تولي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين، متصلتين أو منفصلتين. وفي حالة الاستقالة تعتبر تلك المدة مدة رئاسية كاملة.
الفصل 75
أما باب تعديل الدستور فيتضمن فصلين يحددان الإجراءات الضرورية للقيام بعملية التعديل والتي تخص بقية الفصول. ويبين هذا الباب أن لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس نواب الشعب حقّ المبادرة باقتراح تعديل الدستور، ولمبادرة رئيس الجمهورية أولوية النظر. كما أن كلّ مبادرة لتعديل الدستور تُعرض من قبل رئيس مجلس نواب الشعب على المحكمة الدستورية لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله حسب ماهو مقرر بهذا الدستور. وينظر مجلس نواب الشعب في مبادرة التعديل للموافقة بالأغلبية المطلقة على مبدإ التعديل.
أما بخصوص الأغلبية المطلوبة للقيام بهذا الإجراء فيتم تعديل الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب. ويمكن لرئيس الجمهورية بعد موافقة ثلثي أعضاء المجلس أن يعرض التعديل على الاستفتاء، ويتم قبوله في هذه الحالة بأغلبية المقترعين.
فصول محنّطة ؟ مصادرة للأجيال القادمة في تحديد مصيرها
رغم أن التنصيص على عدم جواز تغيير بعض فصول الدستور يعتبر حسب رأي خبراء القانون الدستوري ” تقليدا” اعتمدته أغلب الدول في العالم، إلا أن ما تم التنصيص عليه في بعض فصول دستور تونس الجديد كان نتيجة تجاذبات سياسية انتهت إلى ضرورة إحداث توازن بين بعض النصوص. غير أن هناك شبه إجماع من عدد من الخبراء والسياسيين أن في هذا الإجراء تعديا على حق الأجيال القادمة في تغيير الدستور حسب ما يلائم ظروفها الإجتماعية والسياسية.
هذا الرّأي أكّده عضو المجلس التّأسيسي عن الجبهة الشعبية مراد العمدوني الذي صرّح “أن عدم جواز تعديل بعض الفصول فيه محاولة لمصادرة حق الاجيال القادمة في رسم مشروعهم الوطني عبر تحنيط بعض الفصول فوضع هذا التخصيص لن يكتسب مشروعية واقعية امام تسارع الاحداث عن النطاق الدولي بشكل يجعل العمر الإفتراضي للدساتير أقل بكثير من سابقه خاصة وان مسائل مثل الهوية تخضع إلى مراجعات مستمرة وان مفهوم الدولة في حد ذاته اصبح يحتمل مراجعات ثورية قد تجد امتدادها في التحولات الإقتصادية الكبرى وتحديد وظائفها”. أمّا فيما يتعلّق بالحقوق والحريات فبيّن العمدوني أنها “متحولة وفق تحولات الحاجيات الاجتماعية والفردية وإمكانية ظهور جيل جديد منها قد يفتح المجال لقراءة جديدة لعلاقة الخصوصية الثقافية بالكونية”.
وحول الجدوى من هذا التنصيص قال العمدوني أنّ “هذا التحديد الذي تضمنه الدستور كان مرتبطا باختيار المقايضة، ففي الوقت الذي سعت فيه النهضة الى تثبيت الهوية الدينية لتونس، سعت في المقابل الاطراف الديمقراطية الى تثبيت البعد الحقوقي خوفا من نزوع السلطة الى بناء دولة دينية كليانية قد تستهدف هذه المكتسبات المدنية وهو ما يجعل هذه الثوابت هشة لأنها لم تقم على اجماع فعلي او على وعي حقيقي بتلازم البعدين”.
كما أضاف العمدوني أن النقطة الإيجابية الوحيدة في تحديد “ما لا يجوز” يتمثل في ما جاء في الفصل الذي يحدد عدد الدورات الرئاسية بما في ذلك من قطع نهائي مع الرئاسة مدى الحياة ومع سعي كل رئيس الى تعديل الدستور على مقاسه مثلما حدث ذلك مع تعديلات بن علي للدستور السابق.
وبخصوص مسألة التعديل عموما صنّف أستاذ القانون الدستوري غازي الغرايري المجلس التّأسيسي كسلطة تأسيسيّة أصليّة وظيفتها وضع أسس الدستور لتقوم إثر ذلك السلط التأسيسية الفرعية، أي المؤسسات التي ستخلفه، بتعديله بما يتماشى مع المتغيرات التي ستشهدها تونس لاحقا. واعتبر الغرايري أن التنصيص على تحجير تعديل بعض الفصول مصادرة لحق السلطات التأسيسية الفرعيّة في القيام بواجبها في تعديل ما يجب تعديله. فالفصول التي تم تحجير تنقيحها تعبّر عن اختيار المؤسس الأصلي في ظرف سياسي معيّن لمضامين انية يمكن أن لا تتلاءم مع مضامين أجيال لاحقة. والإشكال هنا يتمثّل في أن التحديد المذكور لم يتم في إطار توافقات بين طرفين سياسيين حول ضرورة تحتمها المصلحة بل كان أشبه بعملية شد وجذب بين الطرفين ترجمت إلى محاولة لإدراج ضمانات تعدّل العلاقة بين الأطراف السياسية وتمنح لكل طرف حقه في ضمان ما رآه ضروريا لحماية قناعاته الخاصة.
ضرورة تحصين الدستور
يؤيد مقرر الدستور وعضو المجلس التأسيسي عن حركة النهضة الحبيب خضر مسألة تحجير المس من بعض الفصول ويعتبرها “تحصينا” للدستور من أي محاولة لتغيير ما جاء فيه من مبادئ وصفها ب”أسس المجتمع التونسي التي تعبر عن خصوصيته الإجتماعية والدينية”. وقال الحبيب خضر في هذا الخصوص “لقد اختار المجلس التّأسيسي تحصين الثوابت الأساسية لتونس كاعتبار الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها وهي ثوابت لن تتغير لقرون قادمة. أما بالنسبة للحقوق والحريات فإن التأكيد على عدم المساس بها هو ضمانة للأجيال في تونس مهما تعاقبت وقد حاول المؤسسون أن تكون هذه الحقوق شاملة بشكل يجعل منها مكسبا وطنيا يدعو للفخر شأنها شأن النص الذي يؤكد على إلزامية الحفاظ على الفصل المتعلق بتحديد المدة الرئاسية والذي نبع التنصيص عليه من التجربة السيئة التي عاشها التونسيون مع الرئيس الحبيب بورقيبة الذي نصّب نفسه رئيسا مدى الحياة وزين العابدين بن علي الذي عمل على تعديل الدستور ليتسنى له الترشح للرئاسة عديد المرات.”
وحول الإنتقادات التي طالت هذا الإجراء بدعوى مصادرته لحق الأجيال القادمة في تقرير مصيرها قال خضر أن الأجيال القادمة لن تكون مضطرة لتغيير المبادئ الأساسية كالدين واللغة والحقوق والحريات كما أنها ستكون فخورة بالفصل الخاص بتحديد المدة الرئاسية وبالتالي فإن المخاوف من عدم جواز تعديل بعض الفصول ليس لها ما يبررها كما أن الدستور ليس أبديا ويهدف أساسا إلى ضمان الإستقرار السياسي في هذه الفترة وفي هذه الحقبة الزمنية.
كما وضح خضر أنه رغم أن النص في حد ذاته يقرر عدم التعديل فهذا لا يعني أبدية هذا التحديد بل يمكن بداية طلب تعديل الفقرة التي تنص على ضرورة عدم التغيير ثم طلب موافقة المحكمة الدستورية على إجراء هذا التعديل ليكون القرار النهائي بيد نواب الشعب الذين يقررون التعديل من عدمه بالأغلبية المنصوص عليها في الدستور.
يجوز تعديل ما” لا يجوز تعديله”
السؤال الذي يمكن طرحه في هذا الإطار يتمثل في قابلية الدساتير للتعديل حين يمنع الدستور تعديل بعض احكامه. فهل أن هذا الحكم يعتبر بمثابة الخيار الأبدي ؟
الأستاذ في القانون الدستوري قيس سعيّد أجاب عن هذا التساؤل بالقول أنّ “هذه المسألة طرحت سابقا في عدد من الدول ومن بينها فرنسا حينما تمّ حظر تعديل عدد من فصول دستورها لسنة 1791 ولكن الإجابة كانت : يكفي أن تريد الأمة فكلّ الأشكال بعد ذلك ممكنة” وتمّ تغيير هذا الدستور لاحقا. فمن الناحية المبدئيّة يبدو هذا الإختيار أبدي ولكن من الناحية القانونية الأمر ممكن ويمر عبر تعديل منع الحظر لتعديل الحكم المحظور تعديله. فيكفي أن يتم تعديل الفصل الذي يمنع المساس بما لا يجوز تعديله حتى تصبح المسألة قابلة للتطبيق قانونيا. هذا الأمر تم سابقا عبر تعديل دستور الجزائر الذي وضع سنة 1976 إثر أحداث فيفري 1988 التي كسرت كل الأقفال التي وضعها المؤسس، والتاريخ أثبت أن الثورات والأوضاع الجديدة عادة ما تخترق الأحكام الخالدة ولنا في ثورة تونس مثالا حيث أطاحت في بضعة أيام بدستور تونس القديم رغم أنه في أحد فصوله ينص على عدم جواز تغيير نظام الدولة الجمهوري.”
وأضاف سعيّد أن “تحديد تغيير بعض الفصول في الدستور له ما يبرره بخصوص ما يتعلق بعدد الدورات الرئاسية والحقوق والحريات إلا أنه جاء في الفصلين الأول والثاني ليعكس صراعا اتفق الطرفان المشاركان فيه على مبدأ “ما لا يجوز لك لا يجوز لي”. ورغم أن هذا الصراع أدى إلى إحداث توازن بين الفصلين فإنّ هذا التوازن لا يعكس حقيقة الأوضاع في المجتمع بل يعكس التوازنات التي أفرزتها الإنتخابات. فالقضايا التي طرحت وتم حصرها ومنع مراجعة حسمها لا تمثّل القضايا الحقيقة التي طرحها الشباب التونسي بل تترجم صراع مرجعيات وايديولوجيات نواب المجلس التأسيسي الأمر الذي يجعل من تعديلها أمرا مطروحا في فترات قادمة وممكنا قانونيا.”
iThere are no comments
Add yours