بقلم محمد بن جماعة،
كيف تتشكل الهوية الدينية للفرد في المجتمع المسلم؟ وما هي العوامل التي تدفع البعض نحو التدين أو الإلحاد؟ أو تدفعهم نحو “التدين المسالم” أو “التدين العنيف”؟ ولماذا ينتقل البعض من تدين الفطرة إلى تدين التكفير والعنف، أو إلى الإلحاد؟
1- تعريف الدين والهوية:
يعرّف الدين، من حيث هو حقيقة خارجة (Objective Fact)، بأنه: “جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها” (1).
وتتكوّن الهوية الدينية لدى الفرد كحالة نفسية (Subjective Status) بمعنى التدين، حين يعتقد بوجود ذات –أو ذوات- غيبية/علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرّف وتدبير للشئون التي تعني الإنسان، اعتقادًا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد. وبعبارة موجزة، يمكن القول إن الهوية الدينية تتكوّن من خلال الإيمان بذات إلهية، جديرة بالطاعة والعبادة.
والنصوص الدينية المؤسسة (كالقرآن والسنة بالنسبة للمسلمين، والإنجيل بالنسبة للمسيحيين) توفر جملة من العلامات والسمات الفارقة للهوية الدينية (Identity Markers).. غير أن الأفراد والجماعات قد يختلفون في تمثل هذه الهوية الدينية بمقدار فهمهم وإدراكهم وممارستهم لهذه العلامات، وبمقدار استحضار هذه العلامات، بعضها أو كلها، في مختلف الحالات في بيئتهم الاجتماعية.
وتماما مثل “تصور الذات” الذي تحدثنا عنه سابقا، تعتبر الهوية الدينية غير مستقرة، بحيث تتغير وتتطور عبر مراحل مختلفة من النمو المعرفي المتأثرة بعاملين: عامل النضج الذاتي، وعامل البيئة الاجتماعية.
ولو أخذنا الهوية الإسلامية كمثال، فسنلاحظ أن مراحل تشكّل الهوية الإسلامية تختلف من فرد لآخر، ومن جماعة لأخرى. وفي ما يلي نموذج لكيفية تشكل الهوية الإسلامية والشعور بالانتماء عبر عدة مراحل:
2- مراحل تشكّل الهوية الدينية:
* المرحلة الأولى: الإسلام كـ”هوية فطرية”:
فأن يكون الإنسان “مسلما”، فهذا يعني انتماء موروثا، ينظر إليه كأمر مكتسب منذ الولادة (2). ففي هذه الحالة يصبح الإنسان مسلما لأنه ولد في أسرة مسلمة. ومفهوم الوراثة يشير إلى أمرين: أولهما أن الأسرة تقوم بتمرير إرثها الديني والاعتقادي للطفل، وثانيهما أن الطفل لديه قابلية لاكتساب هذا الموروث. وهذا ما يعبر عنه الحديث النبوي: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ” (رواه البخاري)، الذي يشير إلى أن أي طفل إنما يولد على (الحالة الطبيعية الأولية)، أو ما يسميها مالك الشبل “درجة الامتياز الأوّلي” (3)، أو “الإيمان الفطري القَبْلي” الذي يجعل من كل إنسان مؤمنا بالله وبوحدانيته نتيجة عهدٍ سابقٍ عن الولادة: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ. وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الأعراف، 7).
فكل طفل يحمل في نفسه، منذ الولادة، هذا الإيمان بالله، كأنه معطى بيولوجي وراثي، إيمانا “إسلاميا” بصفة محددة، بما أن الحديث ميزه عن إيمان اليهودية وإيمان النصرانية.
غير أن هذا الانتماء الفطري للإسلام منذ الولادة، لا يكفي بما أن هذه “الحالة الطبيعية الأولية” سرعان ما تترك مكانها للتربية الأسرية. ولذلك يمكن القول إن “إسلام” الفرد لحظة ولادته يمثل حالة فطرية “مؤقتة”، وأن انتماءه الديني لا يتجسد إلا في الإطار الأسري الذي يعطي للمولود “الهوية الدينية” نفسها التي يحملها الأبوان. ويدرك الطفل تدريحيا هذا الانتماء المختار له من قبل والديه، ويتقبّله من غير أن يعي بالضرورة تفاصيل هذا الانتماء ومدلولاته. كما أنه قد لا يشعر بوجود أديان ومعتقدات أخرى، خصوصا إذا ولد وعاش طفولته في بلد مسلم لا يوجد فيه تعدد ديني.
وهكذا، لا تتجسد الهوية الإسلامية ومشاعر الانتماء للإسلام عند الطفل من خلال معرفته وإدراكه للحق بمفهومه العقلي أو الفلسفي، وإنما تتجسد هويته الإسلامية فقط من خلال تفاعله المستمر مع هوية والديه الدينية، وما يلاحظه في حياته اليومية، بحيث تتولد لديه قناعة بأن “الإسلام” أو “الحق” يتمثل ببساطة في أفعال وأقوال الوالدين.
وهذا الانتماء لا يمثل بالضرورة انتماء صريحا للإسلام من قبل الطفل، لأنه في هذه السن الصغيرة لا يمتلك بعد شعورا واعيا واختياريا بالانتماء إلى جماعة من الأفراد الذين يحملون معتقدات وممارسات تعبدية مشتركة، وإنما يكتفي بانتمائه الأسري، وما قد يوفره له من فرص التعرف على بعض الأسر الأخرى في دائرة الأقارب والأصدقاء.
وفي هذه المرحلة من العمر، لا يستطيع الطفل تمييز الفوارق بين المعتقدات، ولا يقدّر أيضا قيمة التمييز بينها، أو قيمة كل معتقد من هذه العقائد. ولذلك فلا يشكّل اللقاء مع الأديان أو المعتقدات الأخرى أي نوع من الصدام أو المواجهة بالنسبة للطفل في هذه المرحلة العمرية.
فالطفل، إذن، يقبل “الإسلام” في مرحلة أولى كما هو، “إسلاما فطريا”، بدون بحث في التفاصيل، لأنه يمثل جزءا من حياته منذ الولادة. وتتولى الأسرة رعاية الطفل في مسار تشكيل هذه الهوية.
* المرحلة الثانية: اختيار “الإسلام”:
كيف ينمو لدى الفرد الشعور بالانتماء إلى جماعة مّا بحيث يرى أنها تساهم في تكريس هويته كمسلم؟
تتشكّل الهوية الدينية من خلال العلاقة مع “الآخر”. فمواجهة حقيقة وجود “آخر متديّن” تكشف للمؤمن الحاجة لتعريفٍ لا يكتفي بذكر الصفات الذاتية التي تجعل منه “فردا متدينا”، بل يتجاوز ذلك لتحديد ما يجمعه بالآخر، أو يميزه عنه في الاعتقاد والممارسة الدينية. فيكتشف الفرد من خلال هذه العملية وجود أشخاص من حوله يحملون وعيا بالانتماء لنفس المميزات التي يحملها. وهكذا، ينشئ الانتماء المشترك رابطةً تجمع “الفرد” بوالديه، وبأسرته وأقاربه، ثم ببقية المسلمين من حوله. ومن خلال هذه الرابطة الشعورية، ينتقل الفرد من طور “الإسلام الفطري” إلى طور “الإسلام الواعي” الذي يجعله مدركا لخصائص انتمائه المتمثلة في: الشعور الديني، والإيمان بالمعتقدات، والشعائر التعبدية، والقيم، والأخلاق، والسلوكيات، والممارسات الدينية. ويضاف إلى ذلك جملة الاختيارات والتصورات التي يعتمدها الفرد بناءً على تاريخه الذاتي والأسري والنفسي والثقافي. وترى الباحثة دانيال هارفيو-ليجي (Danièle Hervieu-Léger) أن الهويات الدينية إنما هي: “محصّلة مسارات متعددة ومتراكمة على امتداد الزمن. والفرد هو الذي يعطي للتجارب المتتالية والمتباينة التي يعيشها القيمةَ التي تصيّرها مسارا ذا معنى” (4).
وهنا يكمن الفرق الذي يعبّر عنه الفرد المؤمن، بين “كونه مسلما”، و”قوله عن وعي وإدراك بأنه مسلم”، حيث ينتقل الفرد من مرحلة “معرفة أنّه مسلم”، إل مرحلة “القبول والانخراط في دائرة المسلمين” والمطالبة بأن يعامل على هذا الأساس.
ثم في مرحلة تالية، يبدأ الفرد في صياغة هويته الدينية الذاتية، من خلال التمييز بين “النموذج الصالح” للتديّن و”النموذج السيء”، وذلك على أساس ملاحظة درجة الالتزام وطرح التساؤلات. وهنا تبدأ التأسيس الواعي للهوية الدينية، بالاعتماد على نوعية الأسئلة التي تبادر الذهن ودرجة جودتها، ونوعية الأجوبة التي يتلقاها الفرد إما من والديه أو من محيطه الاجتماعي القريب ودرجة جودتها أيضا. وهذه الأجوبة (ويضاف إليها مراقبة النموذج الصالح ومحاولة الاقتداء به) هي التي تصوغ، في محصّلة الأمر، هويته الدينية وتعطي لها المعنى الذي سيستقر في وعيه وإدراكه.
وحتى ينتقل الفرد من كونه مسلما بذاته إلى أن يصبح عضوا في “جماعة المسلمين”، يلجأ الفرد إلى تكييف تصوره الذاتي لهويته الدينية حتى تصبح مقبولة من الآخرين وتعطي الانطباع الإيجابي بأنه مسلم ممارسةً وخطابًا. وقد تظهر في هذه المرحلة بعض الفوارق في الخطاب والممارسة بين الأفراد المسلمين، وعادة ما تبرَّر بكونها مكتسبة من تعليم ديني مختلف من أسرة لأخرى.
إلا أن هذه الفوارق تظل ثانوية، لأن الفرد يكتشف في هذه المرحلة ثراءَ الرصيد النفسي الذي يوفره له هذا الانتماء الجديد إلى عائلة أكبر وأوسع تسمى “الأمة الإسلامية” أو “الجماعة المسلمة”، وتضمن للعضو فيها المحبة والأخوة والتكافل والنصرة والحماية، أيا كانت فوارق النسب والجاه واللون والعرق. وكلما كان شعور الفرد بهذه الرابطة القلبية وهذا التضامن من بقية أفراد الجماعة المسلمة أقوى، كلما تجذر الشعور بالهوية الدينية والانتماء الديني.
المرحلة الثالثة: الشعور بالانتماء للإسلام:
يحتاج الفرد لمعرفة كيفية التعبير عن انتمائه الديني بشكل اختياري، حتى يُقبَل به ويُتعامل معه على أساس أنه مسلم حقّا، وليس على أساس أنه مسلم بالاسم فقط، أو بحكم الانتماء الأسري.
ولا يمكن الحديث عن “الاختيار” إلا بوجود خيارات متعددة. وتأكيد هذا الاختيار هو الذي يميز المسلم الذي يستشعر الإيمان (بما أنه استوعب صورته وعرف كيف يعبّر عنه في أقواله وأفعاله)، عن المسلم بحكم الوراثة والأسرة. وفي سبيل ذلك، يحتاج المسلم لثلاثة أمور: أن يكتسب القدرة على التعبير عن تجربته الإيمانية، وأن يكون قادرا على الدفاع عنها قدر المستطاع، وأن يشهد على أنه يعيش هذه التجربة الإيمانية بشعور صادق ومخلص.
ويعتبر الانتساب المعبّر عنه بشكل اختياري وسيلةً للتأكيد للآخرين على أن المؤمن يدرك متطلبات الحياة الاجتماعية. فالهوية الإسلامية والعضوية في “الأمة”، بالنسبة للمسلمين، لا تورث، وإنما يجب أن تتوافق مع مشاعر الإيمان (5)، وتقوم على أساس القبول والرضى والالتزام: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء، 65). ويتغذى الشعور بالانتماء إلى الإسلام لدى الفرد من خلال 3 دوائر مترابطة:
– دائرة الرابطة الشعورية مع الله تعالى (من خلال تلاوة القرآن وتدبره، وأداء الفروض والنوافل والطاعات، واستشعار معية الله ورقابته) ورسوله صلى الله عليه وسلم (من خلال دراسة السنّة والسيرة ومواطن القدوة)
– دائرة التعلق بالقيم والأخلاق والمعتقدات الإسلامية والنماذج الواقعية المجسّدة لها (من خلال دراسة التاريخ والسير ومواطن الاقتداء في جيل الصحابة والأجيال التالية له).
– دائرة الرابطة الشعورية والعضوية بمجموعة من المسلمين (من خلال المشاركة في الأنشطة، وارتياد المساجد، والمشاركة في الحوارات الدينية، والتطوع في مشاريع تخدم أهدافا إسلامية أو تعبر عن قيم إسلامية، وحضور المحاضرات والدروس الدينية، إلخ.)
المرحلة الرابعة: العضوية والانتساب للأمة:
كيف يصل المسلم إلى ربط هويته وانتمائه، ليس فقط بجماعته المحلية التي يعيش داخل شبكة أفرادها، وإنما بجماعة ضخمة بحجم العالم، لا تجمعها وحدة اللغة، ولا وحدة الثقافة والعادات والتقاليد، ولا وحدة السلطة السياسية؟ ومن يشاهد مواسم الحج، يدرك أن التنوع الثقافي للمسلمين أمر واقع.
يرى باباس (Babès) أن “الأمة الإسلامية” ليس وحدة قائمة ذات حدود واضحة، ولا تكتلا اجتماعيا، وإنما هي “أمة عقيدة” (6). وهذا يعني أن نبحث عن عوامل تشكل “الأمة الإسلامية” في التصور الاعتقادي للإسلام وفي التطبيقات المرتبطة به.
يجسد الانتساب للأمة الإسلامية المساواةَ الأخوية التي أعلنها القرآن الكريم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (سورة الحجرات، الآية 10)، وفصّلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ.. كُلُّ المُسْلِمْ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ.. التَّقْوَى هَهُنَا.. بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ” (7).
فالجميع متساوون، وليس أحد بأفضل من أخيه إلا بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (سورة الحجرات، الآية 14).
ومن الملاحظ هنا أن الخطاب القرآني والنبوي ألح في صياغته للرابطة الإيمانية على استعمال نفس مصطلح “الأخوة”، المستعمل عادةً للتعبير عن قرابة الدم والعشيرة (وهي أقوى الروابط البشرية)، وأفرغه من معاني العصبية الظالمة، ليجعله خالصا لمعاني الخير، كما جاء في الحديث الصحيح: “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا.. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ” (8).
الهوامش
1- د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، دار القلم، ط2، ص 52.
2- من المفيد الانتباه إلى أن هذا العامل الوراثي الأسري يصبح غير ذي قيمة في سياق الأشخاص الذين يتحولون إلى الإسلام، بعد أن كانوا غير مسلمين
3- Malek Chebel, Dictionnaire des symboles musulmans (entrée: ‘La circoncision en Islam’), Editions Albin Michel, 2003.
4- Danièle Hervieu-Léger. La transmission des identités religieuses. In Sciences Humaines, hors-série, N° 36. pp. 56-59. 2002.
5- انظر: فتحي يكن، ماذا يعني انتمائي للإسلام؟
6- L. Babès. Comment parler de la communauté musulmane de France ?. In Islam de France, N° 7, 1999. pp. 5-23.
7- رواه الترمذي، سنن الترمذي (نقلا عن موسوعة الدرر السنية).
8- رواه البخاري، صحيح البخاري الترمذي (نقلا عن موسوعة الدرر السنية).
iThere are no comments
Add yours