بعيدا عن الوطن بحثت كثيرا عن برامج ليوم الارض في تونس العاصمة، نبشت الإنترنت ونقّبت، لم اجد، صرت اسأل الأصدقاء لكن لم يعلموا، طورت بحثي في الإنترنت وتحذلقت على السيد غوغل فوجدت أن هناك حدثاً بمناسة يوم الأرض في المركز الثقافي في المنزه السادس في العاصمة التونسية. لم يُكتب شيء عن البرنامج غير أن السياسي الأنجليزي (والقومي العربي) جورج غالاوي سوف يلقي محاضرة، لم يتسنى لي يوماً أن أحضر احدى محاضراته، أرتديت ملابسي وهرعت الى المركز الثقافي قلقاً بأنني سوف لن أصل في الوقت.
لم يكن البرنامج قد ابتدأ بعد حين وصلت. أعلام فلسطين وتونس بكل الأحجام تزين خارج القاعة وداخلها. بحثت عن منشور يظهر به جدول البرنامج لكنني لم أجد. هناك لافتات ضخمة تذكر الجهات المنظمة وأربعة مشتركين منهم جورج غالاوي والشاعر تميم البرغوثي. قلت حسناً، هذا هو جدول البرنامج اذاً. بعد حالة فوضى لم استطع ان اتبين سببها خرج احد المنظمين وصرّح ان انعدام الانضباط هذا هو عمل صهيوني! فصمت الجميع وابتدأ البرنامج بعد ساعة من التأخير.
كنت أبحث عن غالاوي بين الجمهور فلم أره، ثم سمعت أحد المنظمين يقول بأن طائرته سوف تهبط بعد قليل. أعلنت المقدِمة عن عرض فيلم عن يوم الأرض. هل هذا الفيلم هو جزء من البرنامج؟ سألت نفسي. لا بد له ان يكون جزءاً من البرنامج خصوصاً وأن أحداً لا يعرف ما هو البرنامج. لكن ما هذا الفيلم؟ من مخرجه؟ ما مدته؟ ؟ لم يكن الحضور على علم بتفاصيل الفيلم. بدأ الفيلم إذا، لم اشاهد في حياتي فيلما بهذه الجودة الرديئة، لم يكن للمشتركين فيه حتى ملامح لوجوههم. بعد عشرين دقيقة من العرض قرر المنظمون قطع بث الفيلم بسبب رداءة الصورة، وكأنهم اكتشفوا ذلك حينها مع الجمهور الذي كان يدخل ويخرج –وبصدق- من القاعة كأن الفيلم سيستمر الى الأبد. بعد عشرين دقيقة من العذاب جاء الخلاص. خرجت فرقة الدبكة الفلسطينية “فرسان القدس”، فهل يا ترى ممكن ان يكون برنامج فلسطيني بلا دبكة؟ و هل يوجد أصلاً شيئا فلسطينيا بلا دبكة؟! فلنرقص اذا على موسيقى فرحة مباشرةً بعد هذه الشهادات المؤلمة الي قطعناها قبل دقيقة. ما اجمل دبكتنا! فهي حاضرة في كل برنامج فلسطيني. وكأننا الشعب الوحيد الذي عنده رقص شعبي. الدبكة هي عبارة عن رقصة شعبية جميلة نرقصها في الأفراح لا أكثر ولا أقل. كل مناسبة وطنية تتخللها دبكة هي أشبه بمحاولة أن نقنع أنفسنا بأننا شعب بحق وعندنا طقوس وعادات.
بحثت عن جورج غالاوي فلعله وصل، فكرت أن أسأله هل يرقص الإنجليز رقصاتهم الشعبية في المناسبات الوطنية. ربما في الريف، ولكن هل فلسطين هي ريف فقط؟ مات جدي من غير أن يعلم بأن دبكته هي ذات أهمية على نطاق دولي. لم يصل غالاوي بعد، سألت عنه احد المنظمين فقال إن طائرته هبطت للتو. سألته عن تميم البرغوثي، قال انه لن يحضر. لم تعلن مقدِمة البرنامج بأن تميم سيتغيب، بل أنها لم تعلن أصلاً بأنه سيحضر، فلا بأس.
هبطت فرقة الدبكة وصعد آخرون على المنصة، يظهر أنهم جزء من البرنامج الذي لا يعرفه أحد. لم يكن هناك أي أعتبار للوقت، الدعوة كانت للساعة الواحدة وها قد أصبحت الرابعة والنصف، لم ينتهِ البرنامج ولم يحضر غالاوي بعد. انه في الطريق الآن، هكذا قال لي أحد المنظمين الذي قال لي أيضاً أن هناك برنامج آخر بمناسبة يوم الأرض في قاعة ابن رشيق في وسط المدينة الذي ابتدأ قبل نصف ساعة، هل أترك وأذهب للبرنامج الآخر؟ قررت الإنتظار وبقيت استمع ل”وين عرام الله” وأغاني أخرى نجترها في المناسبات الوطنية.
ثم أتى غالاوي، كان صامداً ومنتصباً كعادته حين يتكلم بشغف وعنفوان، يبعث الأمل في النفوس، فضح تورط بعض الدول العربية في التطبيع مع اسرائيل. قال “لو كان سايكس وبيكو يعرفان انه وبعد مرور مئة عام على رسم خارطتهم لتقسيم المشرق العربي، ما زال هناك من يحتفظ بخطوطها لضحكوا ولم يصدّقوا”. تكلم جورج غالاوي ابن الإستعمار الذي يعرف التاريخ ويذكرنا بأن ليس هناك من عائق لنكتبه بأيدينا. تكلم عن التطبيع والمقاطعة وذكر شركة فيوليا المتورطة في الإحتلال العسكري للضفة الغربية والتي رغم ذلك تقدم خدماتها بكل راحة في البلدان العربية ومنها تونس.
انتهى المتكلمون مع الساعة السادسة (يوم عمل). هذا هو الوقت للرقص والتصوير مع الرموز الحاضرين.
خلال كل البرنامج كنت أسرق النظرات صوب السيد فاروق القدومي الذي كان يجلس مع بعض القادة/الرموز في الصف الأمامي، كان أحياناً ينسى أن يصفق بعد انتهاء الفقرة الفنية. كم مناسبة مشابهة حضر في حياته يا ترى؟ ماذا يشعر وهو في هذا العمر المليء بالنكسات بعيداً عن الوطن؟ اخافتني هذه الفكرة كثيراً. هل يا ترى ساًصل الى عمره ونحن ما زلنا نتخبط بعثرات سايس بيكو وحفرة بلفور؟
هل سيأخذ أحدٌ من الحضور كلام المتكلمين خطوة الى الأمام؟ لا أظن، فالشعور العام هو أننا إحتفلنا ورقصنا.
ذهبت الى الفعالية التالية في قاعة ابن رشيق وصلتها بتأخير مدته ساعتان، وصلت في مرحلة الصور فقط. كان هناك بازارا فلسطينيا خارج القاعة: اكسسورات وشالات من تراث هذا الشعب، هذا الشعب الذي على ما يبدو لا يكتب ولا يصنع أفلاماً ليوم الأرض بل يطرز فساتين وأعلاماً وكوفيات تلائم كل المناسبات. هنا يقول الحاضرون أن البرنامج كان جيداً ومنظماً.
أكتشفت أن هناك برنامج آخر بل وهو البرنامج المركزي بمناسبة يوم الأرض، في المسرح البلدي بعد قليل. تناولت عشائي بسرعة وهرولت الى المكان. هناك لم يكن شك لفحوى البرنامج، يوم الأرض هنا هو دبكة وأغنية. كان هناك بعض الكلمات الإفتتاحية لبعض السفراء والوزراء. رقص الجميع حين غنت فرقة “الاستقلال” الفلسطينية “نادي يا بلادي يوم استشهادي”، صرخ المغني الفلسطيني متحمساً “الي بحب فلسطين لفوق لفوق” فوقف التوانسة جميعا محيين. عندها فهمت بالضبط ان فلسطين في هذه الاجواء هي مثل فريق كرة قدم أو مغني شهير او بالاحرى فرقة دبكة يحبها الناس هنا. وبلا شك انهم يحبونها بحق.
التونسيون فرحون والفلسطينيون الحاضرون في القاعة فرحون من فرح التونسيين. انتهى العرض ولم يبقَ غير التكريم. فلنكرم بعضاً اذن. انتهى اليوم.
ماذا رسخ بذهن الحضور من هذه البرامج لذكرى يوم الأرض؟ كيف استغلينا هذه المناسبة لتوعية الشباب التونسي الذي فقد جزءا منه ارتباطه بالقضية وتراه يدافع عن التطبيع يوميا عبر وسائل التواصل الإجتماعي؟ هل ستقوم شابة تونسية في الصباح غداً وتذهب لتتظاهر في شارع اتحاد المغرب العربي في منطقة “سكرة” حيث يقبع مكتب شركة فيوليا أو ترفع صرخة صادقة ضد سفيرة السياحة التي تكتب في سيرتها الذاتية “زيارة الى اسرائيل”؟! لا يواردني شكٌ بأن ما بقى في أذهان التونسيين من إحياء ذكرى يوم الأرض هو الحب العاطفي والكامل لفلسطين.. وللدبكة.
Any one :)
عفوا سيد فراس خوري، لماذا تريد من الشباب التونسي (وأنا أحدهم) ألا يفقد الارتباط بالقضية بينما الفلسطنيون أنفسهم قد فقدوا ليس الارتباط بالقضية فقط وإنما الأرض والقضية معا؟ كيف تريدون من التونسيين ألا ينسوا فلسطين والفلسطنيون أنفسهم منقسمون إلى أحزاب وقبائل بعضها يمارس العمالة صراحة وبعضها الآخر يدعي الدفاع عن القدس بمرجعية إسلامية وأول فرصة أتيحت له للحكم أقام فيها دكتاتورية لا تختلف كثيرا عن طالبان، ونسي جميعهم أن حربهم واحدة وغايتهم هي نفسها؟ عفوا إن كان ما أقوله مؤلم وإنما هذا ما تؤكده الأحداث. أنا أقول بأنه لو ترك للفلسطنيين قضيتهم ما وصلوا إلى ما هم عليه الآن من الانقسام والتشرذم والعداء بعضهم لبعض ولتمكنوا من استرجاع أرضهم ولما أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة كماهي عليه اليوم! ونصيحتي لكم ألا تعوّلوا على العرب في شيء ولا تحمّلوا الآخرين مهمة منوطة بشعبكم دون غيره. لقد حارب أجدادي الاستعمار الفرنسي ثلاثة أرباع قرن ولو أخطؤوا بإقحام أنوف العربان في حرب تحريرنا لكانت جيوش الفرنسيين لا تزال تصول وتجول في أرض تونس. ثم إياكم وأن تعوّلوا على الإسلامويين. هؤلاء ينشدون “على القدس رايحين شهداء بالملايين” وعندما يستلمون السلطة يرسلون خطابات للإسرائليين يخاطبون فيها رئيسهم ب”عزيزي” و”صديقي” و”أخي”. هؤلاء قوم لا تعنيهم سوى السلطة ومستعدون لبيع أمهاتهم لأجلها. أما بالنسبة للشباب التونسي فاتركوه وشأنه فله حرب تحرير ثانية على غاية كبيرة من الأهمية على أرضه تونس! الآن وهنا! حرب نحتاج فيها لدحر الكابوس الإسلاموي الزاحف على بلدنا بلا وجل ومعالجة داء أوليغارشيا الدكتاتور التي لاتزال تكبت أنفاسنا بلا رحمة. حرب نحتاج من خلالها أن نصبح أقوى وأكثر علما وعقلانية ومعرفة وهيبة وثروة. عندها يمكننا أن نقدّم لكم يد العون! أما قبل ذلك فكلانا يضيع وقت الآخر!