بقلم منصور خديم الله، سينمائي وكاتب،
بما أنّ هذه الورقة ليست بأكاديمية ولا هي تبعا لذلك بصارمة فإنّني لن أستفيض بدايتها في شرح لفظ “ثورة” مفهوما واصطلاحا. بل سأحاول تعقّب أثر معنى لها أو سواه في سياق نزولها في تاريخ تونس المعاصر.
إلاّ أنني أنطلق، منهجيّا، من اعتماد معنى بسيط مألوف ينزّل الثورة في حيّز زمنيّ طرفاه الأوسط قبلُ وبعدُ. وأعزوهما إلى الوسط لافتراض وجود مقاطع زمنية تسبق (ال)قبل وتلي (ال)بعد. إذ يُستمدّ وقود الثورة من الوعي باستحالة التعايش مع نظام سابق تعمل الثورة على محوه ونظام جديد ترنو إلى بسط سلطانه. فما سمّي في تونس، توافقا أو ضرورة، بثورة فإنّما اندلع، عفويا أو مدبّرا، ضدّ قيم قائمة نخرت ضمير البلاد وكادت تؤلّب مواطنيها على بعضهم البعض. لأنها ببساطة إذ تخدم البعض منهم فعلى حساب البعض الآخر الغالب عددا والمغلوب تدبّرا. هي قيم المحسوبية والتواكل والانتهازية والتّراشي (التراشق بالرشوة أي تبادلها جهرا أو، لمن استطاع سبيلا، سرّا والتباهي بها) واستغلال النفوذ والتنكيل بالمكسب العامّ ونهب ماله. والقائمة تطول لا محالة. أمّا البديل المنشود فخلاصة مرماه نسف كلّ ذلك وإرساء نظام قوامه الحرية والكرامة والحقّ في كلّ ما يحقّ للمواطن بصفة مطلقة. وقد يذهب تبنّي صفة الإطلاق هذه بالثورة إلى مآل غير معلوم أو قد ينحرف بأهداف ليحلّ محلّها أخرى أو ينصّب على الثورة وصيّا دون أهلها. فالإطلاق يجرّد المستحِقّ من صفة الاستحقاق ويسمو بالمجرّد سلطةً على المتعيَّن واقعا وإن استحال وجه تكريسه تاريخا ومآلا.
أفليس إذن من المشروع التساؤل إن كان هناك نزوع ما يضمن تحقيق ما سبق والقضاء على ما سبقه؟ وإن كان هناك تصميم حازم على ذلك؟
حتّى لا نفصل ما حدث بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 عمّا من شأنه أن يمثّل إرهاصات موضوعية، فحريّ بنا العودة إلى سنة 2004 حين تعالت بعض الدعوات المعزولة، لولا إسنادها بنفوذ دوائر ضيّقة متساندة، إلى مناشدة الرئيس الترشح إلى ولاية رئاسية ليس من حقّه، وإن كان فضدّ رغبة شعب كان يغلي في صمت وتحت وطأة قمع منهجيّ انخرطت فيه السلط الأمنية والقضائية والإعلامية. ظهرت على العلن بعض المبادرات مفصحة عن رفض رسميّ من طرف المعارضة أفضى من جملة ما أفضى إلى تشكّل جبهة 18 أكتوبر ودخول ممثليها في إضراب جوع سنة 2005 جمع معارضين من مختلف مشارب المعارضة السياسية والإيديولوجية.
لنجزم، تفاعلا مع هذا الجرد السطحي، أنّ لفعل الثورة جذور في تاريخ تونس السياسي المعاصر. إذ يمكن تعزيز هذا الجرد بالمبادرات الثورية الموءودة في المهد سواء كانت ذات منزع عنيف مثل أحداث قفصة سنة 80 وقبلها محاولة انقلاب 1962، أو تلك التي اتّخذت منحى إيديولوجيّا وسلميّا مثل تمشّي حركة آفاق الثوري سبعينيّات القرن الماضي كذلك، أو تلك التي تراوحت بين المنزعين مثل حركة الاتجاه الإسلامي. وإن اختلفت روافد هذه النزعات الثورية والفكرية باختلاف أصولها الطبقية والجهوية ومستويات تكوينها الثقافي فإنّها ووجهت بنفس الآلة القمعية الرسمية المستندة إلى شرعية عنف الدولة في الدفاع عن واجهتها الرسمية سواء كانت اشتراكية أم ليبيراليّة.
إذا كان ما حدث بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 ثورة أو على الأقلّ مستجدّا ثوريّا فما الذي تغيّر في المقابل؟ هل ارتخت دواليب آلة النظام القمعيّة؟ أم وجد النظام نفسه إزاء حراك ثوري غير مسبوق جعله غير قادر على الصمود؟ ما الذي جعل الجموع المنتفضة تصمد رغم مواجهتها بالرصاص والأسلاك الشائكة؟
لم يكن بالإمكان التقاط واقعة “الثورة” حال اندلاعها أو افتراضها إلاّ عبر استرجاعها من مجال ما آلت إليه بطريقة أو بأخرى. ففي حال ما عُرف بالثورة التونسية تعددت مجالات رصد فعل هذه الثورة. لقد كان المجال الافتراضي أبرزها بشكل تبدو معه الثورة وكأنها اندلعت على جدران شبكات التواصل الجمعيّ. لا أحد يدري بالضبط إن كانت الشعارات تُصنع هناك أو إن كانت هذه المواقع التواصليّة صدى لمجال ميدانيّ وامتدادا افتراضيّا لمستجدّاته العينيّة. لكنّ الثابت أنّ تحرّك المجال الافتراضيّ قد انطلق من خلال نقل بوادر التململ، هنا وهناك، وتطوّرها إلى مواجهات. لقد كان المجال الافتراضي بمثابة المحرار لحراك المجال الميداني ومساره التصاعدي. لقد التبس تفاعل المجال الافتراضي بعوائقه/محفّزاته الذاتية: تعدّد مصادر معلوماته وتناقضها أحيانا. وقد يعود هذا الالتباس إلى المسافة التي تفصل ميدان الأحداث داخل البلاد عن هوائيات التقاطها الالكتروني في العاصمة ومدن الشريط الساحلي الكبرى. وإذ بدا أنّ نسق الحراك الاجتماعيّ الاحتجاجيّ داخل البلاد قد تجاوز نسق التغطية الإعلامية، “الوطنيّة” منها خاصة، فإنّ تحرّك الفضاء الافتراضي لم ينطلق فعليّا إلاّ مع امتداد موجة الاحتجاجات إلى المدن الكبرى والعاصمة.
لقد تعامل المجال الافتراضي مع المستجدّات الميدانية بحسّية حيث تلقّف صور الاحتجاج الأولى في ما يشبه انخراطا فرجويّا في مشهد جديد. جديد على فئة جديدة من نخبة (أو نخب) العصر. يمكن (في انتظار دراسات أعمق) اعتماد هويّة آليّة (بالمعنى التقنيّ الأمنيّ) تتأرجح من خلالها هذه النخبة بين بورجوازيّتين، صغيرة وأخرى أقرب إلى المتوسّطة. لشبابها، وهم الأغلب داخل الفئة، وشائج قربى “ثورية” مع جيل سبعينيات القرن المنصرم. نخبة نهلت من التعليم الرسميّ، المجّانيّ والإلزامي، ومن مناهج تعليميّة موازية “وطنيّة” أو أجنبيّة واستبطنت الثقافة الديمقراطية التي آلت إليها تجربة الجماعات “الراديكالية” (اليساريّة أساسا) بفعل اصطدامها بآلة القمع الناجعة والمدرّبة. ورث قسم من سلالة هؤلاء ولع بالصورة ومشتقّاتها حيث بقيت الجامعتان التونسيّتان لنوادي السينما وللسينمائيين الشبان الملاذ الأخير لمعتنقي الأفكار الثورية اليسارية، بمختلف اتّجاهاتها، ولمن يجد مصلحة في التعاطف معها. بل إنّ هذه المعاقل الأخيرة قد أصبحت مسرحا للتنافس بين مختلف هذه المشارب، وللتطاحن بينها وبين شباب الحركة الإسلامية (داخل أسوار الجامعة خاصة)، في ظلّ تضخّم “إيديولوجيا” الطرف الحاكم، وجهازه القمعي المجمّل، بشكل جعله لسنوات خارج المواجهة.
وفيما واصل الآباء نوعا من الحياة السياسية في ظلّ مناخ ديمقراطي مزعوم (ومبارك من طائفة واسعة منهم) ومعطّر بمستخلصات الدستور التنقيحية وفق قاعدة ” في إطار القانون…”، انبرى الشباب (الأبناء) إلى معاقرة فنون الصورة ومشتقات التكنولوجيا الرقمية. كان هذا الشباب هو من التقط أوّل أنفاس الاحتجاج، تلك التي زعزعت عرش نظام لم يكن ليدر بخلد أحد، إلاّ ما خفي من قوى فاعلة وعالمة، أنّه هشّ وقابل للانكسار. حيث أنّه منذ انقلاب السابع من نوفمبر وطوال عهده لم تشهد البلاد انتفاضة أو تململا شعبيّا في حجم أحداث 26 جانفي 1978 أو جانفي الخبز سنة 1984.
خلال هاتين الانتفاضتين، وفي انتظار دراسات أعمق، كان الشباب، وخاصة منهم المهمّش، وقود الاحتجاجات التي كان لها رأس شبه رسمي يمكن حصره منهجيّا على الأقلّ في الاتحاد العام التونسي للشغل غريم السلطة طورا وحليفها طورا آخر وخاصة في سنوات الاستقلال الأولى. فقد طالت الإيقافات والاعتداءات، التي وصلت حدّ القتل، والعقوبات الجزائية العديد من الشبان واليافعين لا دافع لهم سوى حدّ أدنى من مستوى العيش لا يأملون تجاوزه سلبا أو إيجابا ولا متنفّس لهم سوى مساحة قصوى من التعبير اصطلح عليها بعبارة العنف. فهذا الشباب الذي حُرم من مواصلة التعلّم ومن المسكن اللاّئق ومن العمل الكريم وأجره المناسب، لا يعرف المجاز في التعبير ولا التورية. إنّه الشباب ومن ورائه العائلة والحيّ المقصيّين تباعا من التنمية التي يقتات غريمها النموّ من سواعده ومن تدنّي مستوى عيشه. لا يمكن للقمع وحده أن يفسّر فشل هاتين الانتفاضتين اللتين لا يفصل بينهما أكثر من خمس سنين. لقد تكرّم الزعيم الراحل من خلال هوايته الأمتع (التلفزيون) بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه “قبل الزيادات” (في الأسعار بالنسبة للانتفاضة الثانية) وكأنّه يصحّح خطأ تقنيّا في برنامج السهرة التلفازيّ. لم يرتبك، لا فكرا ولا جسدا، رغم سنيه الثمانين ولم يرتجل، كعادته، بكائيّة نضاليّة ولم يعتدّ بنصف فحولته الناجعة. فقط حسم سريعا أمر هذه الزيادات اللعينة محمّلا، ضمنيّا، وزيره الأوّل مسؤوليّتها. عاد الشعب إلى عاداته الاستهلاكية شاكرا سعة صدر الزعيم وغافرا له ما لحق أبنائه من أذى وورى. لم يكن ليدر بخلد الشعب أنّ سني الزعيم في الحكم قد أصبحت في تعداد أصابع اليد أو أقلّ. ربّما كان الوحيد صاحب العلم هو رجل ثقته الجديد. رجل ألف رفاه الظلال بحكم تكوينه البوليسيّ العسكريّ واستفاد من مزاياها التي لا يفقهها نجوم قيلولة السياسة المزمنة. إلاّ أنّه يبدو أنّ هذا الرجل قد سئم سكينة الظلال الرسميّة ورتابة الأجواء القنصلية والدبلوماسية فسعى بتؤدة نحو مكان له تحت الشمس. أم تراه استجاب لتكليف بمهمّة ما حيكت في ركن استخباراتيّ ما؟ إذ يبدو خلال سنوات حكمه المتناسلة وفق هندسة دستوريّة وراثيّة أنّه حافظ على مسافاته المعهودة مع الشمس ليختلي بهواياته وألعابه السرّية داخل قصر ثمّ قصرين أو أكثر (بعد ما يقارب الأربع سنوات من الثورة، لا قائمة في ممتلكاته). ومهما تعددت التخمينات فالثابت سيطرته على مفاصل المنظومة الأمنية والتنفيذية ما جعله يقوم بين عشيّة وضحاها (في الظاهر على الأقلّ) بانقلاب ناعم (في الظاهر أيضا) بسط له سجّادا من مشاعر الوطنية والإيثار بتجنيبه البلاد حمّام دم وقوده محاكمات عناصر الاتّجاه الإسلامي المحظور.
لم تدم هدنة القمع العمومي طويلا بعد إعلان الميثاق الوطنيّ إذ سرعان ما استعاد النظام الجديد منذ بداية التسعينيات الفارطة مهاراته الاستبدادية الجينيّة فبسط نفوذ آلته القمعية بشكل مباشر وآخر غيره. أضاف إلى البرلمان غرفة جديدة أنيقة. عطّل قدر الإمكان صحافة المعارضة. أحكم المراقبة على الوسائط الحديثة وضيّق الخناق على أنشطة الجمعيّات الناشزة وشوّه على الملإ الإعلاميّ المأجور رموز المعارضة الشرسة. تسلّل إلى مفاصل ما ارتخت منها (المعارضة) فاستدرجها إلى مصاف سدّته الديمقراطويّة.
لم يسلم النظام رغم احتياطاته واستقوائه من الصفعات التي وإن لم تزلزل عرشه في الأوان فإنّها ساهمت في إنهاكه واستنزاف رصيد سطوته بالإضافة إلى ما تراكم من عوائقه الذاتية جرّاء تضخّم دواليب القصر الرئاسي واختلال موازين المصالح داخله. وكانت سنة 2008 تاريخا فارقا في عمر النظام، حيث اندلعت انتفاضة عمّاليّة شعبية لخّصت تطلّعات أهالي الحوض المنجمي وعكست غيرها من أوجاع الطبقات الشعبيّة بمختلف أرجاء الوطن. كما بيّن تعامل النظام مع هذه الأزمة ضيق صدره إزاء حقّ الشعب في التعبير والاحتجاج ما اضطرّه إلى قمع رموز الانتفاضة وملاحقة المنخرطين في إسنادها إعلاميّا.
وإن كانت هذه الانتفاضة الثالثة المندلعة سنتي 2010 و 2011 واشتعل وقودها مثل سابقتيها خلال شهر جانفي قد حظيت بتغطية إعلامية إلكترونية مستفيضة فإنّ استقلابها ( بالمعنى الهضميّ الطبيّ ) في المجال الأدبي والفنّي لم يكن ذا ثقل إبداعيّ ولا بعد تحليليّ حيث لم ترافق حرّيةَ التعبير المكتسبة على الصعيد الإعلامي حريّةٌ فنّية حقيقية نتيجة مساحة الفراغ، في دائرة السلطة، والذي سارعت الجماعات المتطرّفة إلى احتلاله واستعماله قلعة لمراقبة المجال الفنّي ومحاولة توجيهه وردع بوادر التجديد فيه باسم نصرة المقدسات وحمايتها من التدنيس. وقد تجلّى هذا المنزع خاصة في التعامل مع الفنون البصرية وخاصة التشكيلية من خلال ما عرف بحادثة معرض قصر العبدليّة والسينما من خلال ما تعرّضت له قاعة سينما “أفريكار” من تخريب احتجاجا على عرض شريط “لائكيّة إن شاء الله”. إلاّ أنّ السينما بقيت وفيّة لسمتها الأساسية كفنّ جماهيري فكان تعاملها فوريّا مع مستجدات الانتفاضة نتيجة تهافت المهرجانات، وخاصة الحديثة وغير المتجذرة في بيئة سينمائية حاضنة (مهرجانات الخليج مثلا)، على برمجة سينمائية تسجيلية تتيح لها ولبلدانها نوافذ الانفتاح على التجارب “الثورية” المنبثقة خاصة من دول ما يسمّى بالربيع العربي. أمّا على المستوى الإنتاج السينمائي الروائي فيبدو أنّ لعامل التقادم تأثير في احتشام الإنتاج الذي اقتصر على طلبيّة من إحدى القنوات الأوروبية (أرته) نفّذتها جهة إنتاجيّة محليّة لا صلة لها بأيّ سياق ثوري نتيجة تموضعها الطبقي وتكوينها الثقافيّ. فيما تميّز (دون أفضلية) الإنتاج الثاني (حسب مرصدنا الذاتيّ دائما) ونعني به شريط “صراع” باقترابه، ولو سطحيّا حسب بعض الآراء، من نبض سياق الثورة خاصّة وأنّ مخرجه من مناضلي الاتجاه الإسلامي ما شكّل مادة لفضول من لم يألف حظوة للفنّ بصفة عامة في أدبيات وممارسات الحركات الإسلامية بشكل عامّ. ولربّما مثّل شريط “بدون 2” الإضافة النوعيّة المنتظرة خاصّة على مستوى الشكل والجماليّة و/أو الإنشائيّة ما عرّضه لتجاهل بل تحامل دوائر الإنتاج الموروثة عن المنظومة السابقة والتي لا تتحرّك إلاّ بنصيب من الدعم العمومي.
لقد كانت الإضافة أبرز على المستوى السياسيّ حيث كان الانفجار شكليّا أو بالأحرى كمّيا من خلال تناسل الأحزاب والجمعيات والمنظمات المختلفة الحساسيّات. وهو أمر طبيعيّ نتيجة تحرّر المبادرة السياسية تبعا لرفع مختلف القيود الأمنيّة والقانونية وخاصّة الدستورية حيث بقيت الدولة دون دستور لأكثر من ثلاث سنوات ما فتح آفاقا رحبة لخدمة الثورة وضدّها على حدّ السواء.
يتميز مقالكم هذا بقراءة ضبابية وقصيرة النظر لبعض من تاريخ تونس الحديث. ولعلي أشير فيما يلي لبعض من مواطن الخلل في نصكم أعلاه
إن كنتم تعتبرون المحاولة الانقلابية الفاشلة لسنة 1962 (والتي كانت تقليدا فجّا لما تشهده دويلات العربان وبعض جمهوريات الموز الإفريقية من انقلابات عسكرية متكرّرة) ومؤامرة سنة 1980 (والتي دبّرها المقبور القردافي ونفّذها مجموعة من الخونة والعملاء) والعمليات الإرهابية التي قام بها بعض أتباع الشيخ التكتاك في أواخر الثمانينات حركات ثورية فيا خيبة المسعى! لا اليسار الآفاقي ولا جماعات بني اخونج حركات ذات نزعات ثورية. الأولى ولدت في سياق الحرب الباردة الشيوعية/الرأسمالية والثانية كانت نتاجا مباشرا للثورة الإيرانية ونموّ الجماعات الأصولية في الشرق وبالتالي لا علاقة لها بالسياق التونسي أساسا. الحركات القليلة التي يمكن اعتبارها نتاجا للواقع التونسي الداخلي والتي سبقت حريق البوعزيزي هي في تقديري: انتفاضة الخميس الأسود (جانفي 1978) التي قادها النقابيون، الطلبة والتلاميذ، انتفاضة الخبز (1984) التي انخرطت فيها عديد الجهات المهمّشة وشارك فيها أساسا النقابيون وبعض الشباب الغاضب ثم انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008. ما عدى ذلك من التحرّكات كان محكوما إما بنزعات ايديولوجية أو برغبة انقلابية تآمرية على النظام القائم وبالتالي لا تخدم سوى أصحابها
أما بخصوص ترشّح الزعبع لدورة رئاسية رابعة فخامسة، فلم يكن هناك مدّ شعبي يعارضه. على العكس، فقد كان الملايين يشاركون في انتخاباته ويملؤون صناديقه بأوراق لا تحمل سوى إسمه، وكان السواد الغالب من هذا الشعب فرحا مسرورا بطلعة سيادته البهيّة إما خوفا من عصا جلّاديه الشهية أو طمعا في عطاياه السياديّة. وأما جماعة 18 أكتوبر فلم يكن لهم تأثير يذكر على النظام رغم رمزية اتفاقهم في ذلك الظرف. وأغلب هؤلاء كان يرغب في تسوية ما مع النظام البوليسي القائم ولمّا توفرت الظروف المناسبة لعقد تلك التسوية هرول الجميع إلى حضن النظام النوفمبري فرادى و جماعات (نجيب الشابي في حكومتي محمّد الغنوشي، حمّة الهمامي بعد انتخابات أكتوبر الأسود 2011، والشيخ التكتاك منذ اتفاقية باريس في سبتمبر 2013). كان كل هؤلاء يناضلون فقط من أجل تسويات ترضي مشاريعهم ورؤاهم دون غيرها. ولولا أنّ كرش الزعبع كانت كبيرة منذ البداية (ربما لأنّ ثقته في كلاب أمنه وضباع حرسه كانت بنفس الحجم) لاستقطب الجميع في داخل تجمّعه ولضمن الحكم حتى بعد 2100 إن أراد
وأما “الطرف الحاكم” فلم يكن له قط أية “إيديولوجيا” تميّزه. فمنذ مؤتمر قصر هلال في مارس 1934، برز الحزب الحرّ الدستوري كجلباب جامع لكل الانتهازيين وأصحاب المصالح الفئوية والجهوية واللوبيات. وإن كان لذلك الحزب بعض الفضل في قيادة الحركة الوطنية التي أفضت للاستقلال (على الورق) إلا أنه كان السبب الرئيس في بناء نظام الدولة البوليسية المافيوزية الحديثة التي تعتمد على بطش كلاب البوليس والمركب المالي/الجهوي وعلى الزبونية والفساد. ولا يعرف لتجمّع صانع الصناديق أدبيات سياسية ذات لون سياسي محدّد غير اللغة الخشبية التي تتغنّى ب”النظرة الاستشرافية” و”العناية الموصولة” لصانع التغبير والشابع من نوفمبر. وأما “نداء التجمع” (المسمى مجازا نداء تونس) فهو امتداد لما سبقه من تجمع الزعبع وحزب بورقيبة، ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يفسر لماذا يجمع حزب يقدم تصورا اقتصاديا ليبراليا إلى حد التوحش عددا من “النقابيّين” السابقين والمحسوبين على اليسار! فإن لم يكن ذلك دليلا آخرا على الطبيعة الزبونية الانتهازية الفاسدة التي يتميّز بها حزب الدولة البوليسية المافيوزية الحديثة وربّى عليها هذا الشعب المتخلف لما يزيد عن تسعة عقود فماذا يكون؟
أما في خصوص “الثورة” فحسنا فعلتم عندما أشرتم لانتفاضة ديسمبر 2010 / جانفي 2011 ب”ما عُرف بالثورة التونسية” عوض الانخراط في اللغة الخشبية الرديئة لأغلب المعلّقين الذي يمجّدون “ثورة” غير موجودة ويتوهّمون أمورا لم تكن ونقدّر أنها لن تكون مادام هذا الثعب بهذا القدر من النفاق والانتهازية والجهل والرداءة. وألخّص لأقول: أن انتفاضة ديسمبر 2010 / جانفي 2011 انطلقت بمبادرة عفوية من بعض شباب الجهات المهمّشة حتى أربكت النواة الصلبة لنظام الدولة البوليسية المافيوزية المارقة فاضطرّت للتضحية برجالات الصف الأول وإعادة تنظيم صفوفها لتعود في 2014 ليس عبر فترة رئاسية سادسة للزعبع (كما كان موعودا في 2009) وإنما بفترة رئاسية أولى لفخامة خرف قرطاج الباجي قايد طبابلية التجمّع. وأما شعب تونس المحافظ فلا يعرف عنه الثورة أو الغيرة على الأرض أو العرض أو الكرامة كما في بلدان أخرى، وإنما على العكس، يعرف عنه منذ عهد ابن خلدون صاحب القولة الشهيرة “في إفريقية، وافق أو نافق أو فارق” أنه شعب منافق، انتهازي، جشع، تجمعه الطبول وتفرّقه العصا، يتذلّل للغزاة، يحني الجباه للطغاة ويشرب كأس الخنوع بفخر. ولقد كان دوما في طليعة المتآمرين على كل المبادرات الثورية النادرة عبر تاريخه التي قامت بها فئات قليلة منه (بداية بتآمر الباي والقبائل على ثورة علي بن غذاهم سنة 1865، وحتى تآمر شعب المنافقين على دماء شهداء ديسمبر 2010 / جانفي 2011 سنة 2014). الثورة قيم أو لا تكون والنفاق، الجشع والذلّ ليسوا من بينها. وشكرا
المقال ليس بسياسي أو ببحث تاريخي. رغم أنّ ما أشرت إليه من انتفاضات كنت بالفعل قد أشرت إليه معتبرا أنّا الإرهاصات الحديثة ليسمّى بالثورة.أمّا إيديولوجيا الطرف الحاكم فتثبّت قارئي الكريم أنني وضعتها بين معقوفين. كما أنني لم أتناول محاولتي الانقلاب من منظور شخصي يمجّدهما أو يشرّعهما. وما أتمنّاه أن يبادر من هو أكبر مني سنّا وأوسع علما أن يضيء لي ولغيري ما خفي من ملابسات تاريخهما. وفي الختام أشرت فعلا إلى أن المخلوع كان قد نجح في شقّ صفوف المعارضة وفي استدراج معظمها إلى جانبه.
مع الشكر.