بقلم محمد الشيحي، محرر للعقود بإدارة الملكية العقارية،
تضم مجلة الأحوال الشخصية بملاحقها التي جمعها الأستاذ محمد الحبيب الشريف، ما يناهز الثلاثمائة فصل، أما الفصول المتعلقة بالميراث و توابعها فهي 118 فصلا أي أن أكثر من ثلث المجلة يتناول التركات 1.
و يجمع الفقهاء و المختصين في مادة المواريث أن أغلب أحكامه صلب مجلة الأحوال الشخصية خاصة المتعلقة بقسمة الميراث 2 مستمدة حرفيا من الشريعة الإسلامية، حتى أن المصطلحات المتداولة هي مصطلحات فقهية…
و قد تباينت الآراء في هذه المسألة، حول مدى إمكانية اعتبار التشريع الإسلامي مصدرا لتأويل و تكملة أحكام مجلة الأحوال الشخصية، إذ يرى البعض أنه لا يمكن ذلك فيما يخص القواعد الناقصة أو العامة. في حين ذهب شق آخر إلى خلاف ذلك متمسكين بضرورة الرجوع إلى الشريعة الإسلامية لتفسير و إتمام نصوص المجلة 3.
وقد شمل هذا الإختلاف تأويل الفصل 88 من م.أ.ش. و ذلك بخصوص اعتبار اختلاف الدين مانعا من موانع الميراث أم لا.
في هذا المجال، يمكن الجزم باتفاق الفقهاء الشرعيين على اعتبار اختلاف الدين مانعا من موانع الميراث عملا بالقاعدة القائلة “لا توارث بين أهل ملتين”. و يرون أن الإسلام ملة مستقلة عن الديانات الأخرى 4.
و من المؤكد أن الفصل 88 م.أ.ش. هو من أبرز فصول المجلة التي صيغت بأسلوب مثير للجدل نتيجة استعمال المشرع ل “من” التبعيضية التي جعلت موقفه من موانع الإرث مشوبا بالغموض و عدم الوضوح 5.
لكن، ما قد يزيد في حدة الخلاف إقرار حرية الضمير كحق دستوري تكفله الدولة 6 إضافة إلى رفع البلاد تونسية كل تحفظاتها عن إتفاقية “سيداو”.
فكيف يمكن لذلك أن يكون مؤثرا على اعتبارالدين الإسلامي ركنا أساسيا من أركان الميراث في القانون التونسي؟
إن الإجابة على هذا السؤال، من الناحية النظرية، يبين أن هناك عدة إشكاليات قانونية منها ما هو على مستوى تطبيق أحكام المواريث (I) و منها ما هو على مستوى ملاءمة هذه الأحكام مع دستور 27 جانفي 2014 (II).
I – إشكاليات على مستوى تطبيق أحكام المواريث.
إن للمصادقة على إتفاقية “سيداو” إضافة إلى دسترة حرية الضمير، تأثيرات جمة على كيفية تطبيق نسبة الفرض الشرعي الواردة صلب أحكام المواريث بمجلة الأحوال الشخصية، ذلك أن القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة قد يفرض المساواة في الميراث (أ) كما أن اعتبار حرية الضمير حقا دستوريا بإمكانه توريث غير المسلم أو بالأحرى إمكانية التوارث بين ملتين أو أكثر (ب).
أ- المساواة في الميراث
مصطلح التمييز ضد المرأة في اتفاقية “سيداو” يعني أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجـنس و يكون من آثاره أو أغراضه النيل من الإعتراف للمرأة، على أساس تساوي الرجل و المرأة، بحقوق الإنســـان و الحريات الأساسية في الميادين السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و المدنية أو في أي ميدان آخر، أو إبطال الإعتراف للمرأة بهذه الحقوق أو تمتعها بها و ممارستها لها بغض النظر عن حالتها الزوجية 7.
لقد صادقت الجمهورية التونسية على هذه الإتفاقية منذ سنة 1985 لكنها أعلنت تحفضها في بعض النقاط أهمها مسألة المساواة في الإرث.
لكن بعد أن تجاهلت حكومة “الترويكا” إيداع رفع التحفظات عن اتفاقية “سيداو” الذي أقرته قبلها حكومة الباجي قايد السبسي الإنتقالية، في شهر أكتوبر 2011 و الحديث عن التراجع عنها بصفة كلية، قامت حكومة المهدي جمعة بإيداعها لدى الأمم المتحدة بما يعني أنها ملتزمة جديا برفع جميع التحفظات 8.
في هذا المجال، تعالت عديد الإنتقادات ذات الطابع الإسلامي من قبل عديد المشائخ قد نذكر من بين مؤاخذاتهم أن المساواة بين الذكر و الأنثى التي قررتها الشريعة الإسلامية هي في القيمة الإنسانية. و في هذا المنظور، الرجل و المرأة متساويان أمام الله عز و جل في الخلقة و التكوين، و هما أيضا متساويان في الحقوق و الواجبات داخل الأسرة و خارجها، فقال تعالى “و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجة و الله عزيز حكيم” 9.
كما يستدل فقهاء الشريعة الإسلامية بالآية الكريمة: “و ليس الذكر كالأنثى” 10.
و ربما، من أكثر الفصول تعرضا للنقد في هذه الإتفاقية، الفصل الثاني. و هي مادة وصفت من أخطر المواد في اتفاقية “سيداو” لأنها تعني إبطال و إلغاء كل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة و خاصة في نظام الميراث في الشريعة الإسلامية و في أحكام المواريث بمجلة الأحوال الشخصية، و من ضمنه إعطاء الأنثى نصف نصيب الرجل كما قال تعالى “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين” 11.
كما نصت المادة 13 من إتفاقية “سيداو” على المساواة التامة بين الرجل و المرأة في الإستحقاقات العائلية، و هذا بكل بساطة يلغي ما قررته أحكام المواريث في القانون التونسي بإعطاء الأنثى نصف نصيب الرجل في الميراث و كما قال تعالى “للذكر مثل حظ الأنثيين” 12.
في المقابل، هذه الإتفاقية قد تجاهلت فرضيات أخرى تكون فيها الأنثى مساوية أو نصيبها أكثر من نصيب الذكر، فالأنثى مرة ترث نصف ما يرث الرجل و أخرى ترث ما يرث الرجل و أحيانا أكثر مما يرث الرجل، و حالة رابعة ترث كل الإرث و لا يرث الرجل 13.
إن مصادقة الجمهورية التونسية على اتفاقية دولية له انعكاسات كبيرة على المستوى التطبيقي و الإلزامي لبنودها. الإتفاقيات أو المعاهدات لها قوة إلزامية أعلى من القوانين العادية و هذا أمر معلوم، لكن هل يكون للمحاكم التونسية الجرأة على تجاوز أحكام مجلة طالما امتدحها العديد من القانونيين و خاصة منهم القانونيات معتبرين هذه المجلة مكسب حداثي لفائدة المرأة التونسية… و أن قوانين الأحوال الشخصية مكسب حضاري و جزء مكون للشخصية الوطنية و هي منظومة قانونية تكرس حقوق المرأة…؟
نظريا، الإجابة على هذا التساؤل تحتمل الإيجاب. ربما يكون للقاضي أن يطبق إتفاقية “سيداو” على أحكام المواريث المستمدة من الشريعة الإسلامية خاصة و أنه قد سبق للمحكمة الإبتدائية بتونس بتاريخ 18 ماي 1999 حكم عدد 7602 (قضية “قرادار-نائلة”) أن لجأت إلى قراءة الفصل 88 من م.أ.ش. على ضوء الدستور و الإتفاقيات الدولية معتبرة إياها من المبادئ العامة القانونية للنظام القانوني التونسي…
أخيرا، ننهي بالمادة 16 من إتفاقية “سيداو” التي تختص بالتشريعات الأسرية، حيث طالبت الإتفاقية الدول أن تتخذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج و العلاقات العائلية و بوجه خاص أن تضمن على أساس المساواة بين الرجل و المرأة في عقد الزواج و عند فسخه، و نفس الحقوق و المسؤوليات فيما يتعلق بالولاية و القوامة و الوصاية على الأطفال … الخ
و تأتي أهمية هذه المادة من منظور بحثنا، في مسألة عدم إمكانية منع المسلمة من الزواج بغير مسلم، خاصة و أن هذه النقطة بالذات تعتبر حرية ضمير و حق مكفول دستوريا و منصوص علية بالفصل السادس من دستور 27 جانفي 2014.
ب – إمكانية التوارث بين الملل
علاوة على الفصل 16 من إتفاقية “سيداو” سالف الذكر فقد نص الفصل السادس من دستور الجمهورية التونسية أن “الدولة التونسية راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد و الضمير و ممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد و دور العبادة عن التوظيف الحزبي…”
و حرية الضمير بالنسبة للمدافعين عنها، هي حرية الفرد في اختيار القيم التي تحدد علاقته بالوجود و بالحياة و قدرته على تجسيدها باستقلال نسبي عن المجتمع.
هذه الحرية غالبا ما تقرن بالحرية الدينية أو تتماها معها كما لو كان الأمر متعلقا بمترادفين، و تطرح من زاوية الحدود الفاصلة بين نطاق الخيار الفردي و حدود الإلزام الجمعي، إنها حق المرء في أن يمتلك ذهنه، كما جسده، يتصرف فيه كما يشاء و يفكر به كما يريد 14.
إن حرية الضمير تقع في منتصف الطريق بين حرية التفكير و حرية الدين، و هي تسمح للفرد بأن يبلور قناعاته الدينية و الإيمان من عدمه بكل حرية و استقلال، و له كذلك الحق في أن يبدل دينه أو يعتنق دينا آخر أو أن لا يأخذ بدين من الأديان، دون أن يكون عرضة لأي حساب أو عقاب أو إقصاء، و دون أن ينتقص ذلك من مواطنته شيئا. و معنى ذلك أن حرية الضمير تقوم أساسا و في النهاية على الفصل بين المواطنة و الإيمان.
ومن هذا المنطلق يصبح تأويل الفصل 88 من م.أ.ش. تأويلا ضيقا لا يمكن له اعتبار الإختلاف في الدين مانعا من موانع الميراث، فحق الضمير هو حق دستوري.
و على كل حال، فإن الفقه القضائي للسنوات الأخيرة قد بدأ في تهيئة اتجاه جديد لا يعتبر اختلاف الدين مانعا من موانع الإرث، و ذلك حتى قبل دسترة حق الضمير.
بناء على ما سبق ذكره، نجد اتجاها قضائيا رافضا للأخذ بمانع إختلاف الدين كمانع يحرم من الميراث و تسيطر عليه محاكم الأصل مع بروز موقف محتشم لمحكمة التعقيب من حين لآخر 15.
نذكر على سبيل المثال:
● الحكم الإبتدائي المدني عدد 5701 الصادر عن المحكمة الإبتدائية بالمهدية في 31 أكتوبر 1988 (قضية ورثة م. كاكية)
في هذا الحكم اعتبرت المحكمة “أن وجوب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية في تأويل م.أ.ش لم يأت به نص وضعي مثلما تقر به بعض الأنظمة العربية الأخرى… وحيث أن موانع الميراث محصورة بالعد… إذ أن الشارع لو أراد التعرج ضمنيا على اختلاف الدين كمانع للميراث لنص عليه صراحة…”
و من الواضح أن المحكمة الإبتدائية بالمهدية بموقفها هذا تكون قد أسست لتوجه قضائي جديد مبني على تحليل النص و البحث في إرادة واضعيه…
● الحكم الإبتدائي المدني عدد 180 الصادر عن المحكمة الإبتدائية بصفاقس في 30 نوفمبر 1992 (قضية “ورثة الجمل”)
● الحكم الإبتدائي المدني عدد 8179 الصادر عن المحكمة الإبتدائية بالمنستير بتاريخ 11 نوفمبر 1994 (قضية “جاكلين”).
وفي هذا القرار لم ترى المحكمة في الدعوى أي سند قانوني للدعوى أصلا إذ أنها رأت أن الدين “أمر ذاتي معنوي و هي معطيات شخصية لا يمكن معها معرفة ما إذا كان شخص ما يدين بديانة دون أخرى…”
● القرار الإستئنافي المدني عدد 82861 الصادر عن محكمة الإستئناف بتونس بتاريخ 14 جوان 2002 (قضية “جاكلين”)
في هذا القرار اعتبرت المحكمة أن عدم التمييز لآعتبارات دينية هو من المبادئ القانونية العامة التي تحكم النظام القانوني التونسي.
● قرار استئنافي مدني عدد 3351 صادر عن محكمة الإستئناف بتونس بتاريخ 04 ماي 2004 (قضية “ورولوس و ياسمين”)
● القرار التعقيبي عدد 4105 المؤرخ في 12 جانفي 2006 (قرار صوفية).
وكل هذه الأحكام القضائية الصادرة قبل دسترة حرية الضمير تدل على أن هناك توجهات جديدة في القضاء التونسي لاستبعاد الإختلاف في الدين كمانع من موانع الإرث كما كان الحال مع قرار “حورية” الشهير.
و من هذا المنطلق، قد يجب التذكير إلى أن تونس مصادقة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص في فصله الثامن عشر أنه “لكل شخص الحق في حرية التفكير و الضمير و الدين” و تضيف توضيحا لمضمون هذا الحق أنه يشمل “حرية (الشخص في) تغيير ديانته أو عقيدته، و حرية الإعراب عنها بالتعليم و الممارسة و إقامة الشعائر و مراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم جماعة”.
الإعلان يدرج حرية الضمير في المنزلة بين منزلتي حرية التفكير و حرية الدين إعتبارا للإرتباط الوثيق بين الحريات الثلاثة و درءا لكل إلتباس و اختزال و توسيعها لنطاق هذه الحريات.
و رغم أن هذه الحرية كان معترف بها بالمعاهدة المذكورة المصادق عليها من طرف الدولة التونسية فإن ذلك لم يمنع دسترتها و الترفيع منها إلى مستوى حق دستوري، ما يؤدي ضرورة إلى إحترامها على مستوى الفصل 88 م.أ.ش. و عدم اعتبار الإختلاف في الدين كمانع من موانع الميراث.
نظريا، قد يصبح فقه القضاء التونسي في هذا المجال مستقرا نحو رفع مانع الإختلاف في الدين من جملة موانع الفصل 88 م.أ.ش. و ذلك تطبيقا لمبدإ و حق دستوري جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
II – إشكاليات على مستوى ملاءمة أحكام المواريث مع الحقوق الدستورية
أهم الإشكاليات التي قد تطرأ على مسألة ملاءمة أحكام المواريث، و هي أحكام شرعية بالأساس، مع الحقوق الدستورية هي أن الدستور التونسي أصبح يحمي حقين متنافيين مع الشريعة الإسلامية (أ) مما أفضى إلى عدة تناقضات داخل نفس الدستور و تجاه بعض أحكام القانون العادي مثل أحكام المواريث (ب) .
أ- حماية دستورية لحقين متعارضين مع الشريعة الإسلامية
مما لا شك فيه و لا اختلاف أن أحكام المواريث و خاصة منها المتعلقة بقسمة التركات، مستوحاة بشكل كامل من أحكام القرآن و الشريعة الإسلامية بصفة عامة. لكن التنصيص على حرية الضمير صلب الدستور التونسي يعطيها مكانة عليا وجب على بقية النصوص القانونية العادية إحترامها و التقيد بها، بل و ربما العمل على تكريسها كممارسة.
بالرجوع إلى تاريخ صياغة الفصل السادس من الدستور التونسي، نجد أنه قد صيغ بعد أخذ و رد ووقعت المصادقة عليه من قبل المجلس التأسيسي… بعد ما تم التوافق على فصل أثار جدلا واسعا بين عدة فرقاء داخل الكتل النيابية نفسها و كذلك بين جميع أطياف المجتمع التونسي، بمثقفيه و مجتمعه المدني…
لقد أثار الفصل السادس بالذات، لغطا كبيرا بين نواب المعارضة العلمانية قبل أن تتم المصادقة عليه، بعد تعديل صياغته المتعلقة بالأساس بحماية المقدسات و حرية الضمير و منع دعوات التكفير 16.
و في هذا الإطار، عبر أحد نواب “حركة النهضة” السيد أحمد المسعي عن استياءه “إزاء سياسة حزبه التي ذهبت باتجاه ترضية أطراف داخلية و خارجية حتى تقع المصادقة على الدستور.”
هذا الموقف الذي تبناه الأستاذ المحاضر بجامع الزيتونة عزوز الشوالي الذي أكد أن “إقرار الفصل السادس بمصطلحاته العامة يخالف تعاليم الدين الإسلامي و يتضارب مع الأحكام الشرعية في كتاب الله.”
و عن موقفه من إقرار حرية الضمير في الدستور الجديد الذي يتوج المرحلة الإنتقالية بعد مرور ثلاثة أعوام على “الثورة الشعبية” يقول االشوالي إن ذلك “سيثير الإنشقاق في صفوف الشعب التونسي و سينشر الفتنة و يدمر الهوية.”
و يبين أن “حرية الضمير نظرية فلسفية تستقي من التغير و التبدل و تمثل الفرد لمعايير ذاتية غير ثابتة، على عكس ضمير الدين الذي يتأسس على الفطرة و الإيمان المطلق و يفصل بين الخير و الشر على أساس أن الفضيلة ثابتة.”
لكن، ما يمكن أن نلمسه في هذا الفصل أنه جاء ليوفق بين مطالب الإسلاميين و العلمانيين. و على هذا الأساس، فإن الطبيعة التوافقية التي تحكمت في صياغة الفصل السادس من الدستور جعلت مضمونه لا يخلو من تناقضات و ربما نواقص كذلك.
فرغم أن هذا الفصل يعطينا انطباعا بأنه يحمي حقوق الإنسان عبر التنصيص على حق المواطن في حرية المعتقد و الضمير… و لكن فيما بعد، يقول بأنه حامي للمقدسات.
في اتجاه مخالف، ينتقد الأستاذ عياض بن عاشور بالقول “بقطع النظر عن كون رعاية الدين و حماية المقدسات تعني في الحقيقة في المناخ السياسي للدول الإسلامية حماية حصرية للديانة الإسلامية…(فإن حرية الفكر و حرية الضمير) تشكلان العمود الفقري للنظام الديمقراطي، في مثل هذا النظام، و هو النظام الذي تبنته الثورة، تعني حرية الفكر قبول الأفكار المخالفة للمتعارف عليه، و المتفق فيه و المجمع عليه. وحرية الفكر هي حرية القطع مع الفكر السائد، و بهذا المعنى تحمي الفرد و الأقليات و ذوي الأفكار الشاذة، التي لا تميل إليها المجموعة، من ضغط الفكر العام الجماعي و العقلية المدنية السائدة”كذلك، يعتبر الأستاذ عياض بن عاشور”حرية الضمير” الحريةالأساسية في النظام الديمقراطي الضامنة لما أسماه “الحرية الفلسفية المتعلقة بالماورائيات” و الحرية الإيمانية بأعلى معناها…
لكن و بغض النظر عن الآراء المختلفة في هذه المسألة فإن دسترة حرية الضمير إضافة لحماية الدولة لكل ما يخص تنفيذ المعاهدات الدولية بل و تعهدها بذلك، فإن الأمر قد أصبح أمرا واقعا في النظام القانوني التونسي، و من المؤكد أنه ستكون له نتائجه و عواقبه على أحكام المواريث التونسية التي طالما قيل أنها الأكثر التصاقا بالشريعة الإسلامية.
ب- تناقضات بين بعض فصول الدستور و أحكام المواريث
إن المساعي التوفيقية جعلت من الدستور التونسي نصا مليئا بالتناقضات يصفه خبراء القانون الدستوري بأنه يعاني من “انفصام الشخصية”.
يظهر الفصل السادس من الدستور التونسي التناقضات الداخلية في النص، فبعدما أسفرت السجالات عن تعديل النص الذي كان قد حضي بالقبول في البداية. أصبحت صيغته الأخيرة: “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد و الضمير و ممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات…”
و في هذا الإطار، يرى المعارضون لهذا النص أن حماية المقدسات لا تنسجم مع حرية المعتقد و الضمير.
و بالتوازي مع ما سبق ذكره، يجب الإقرار أن قسمة الميراث هي شعيرة دينية و مقدسة كذلك، فكيف للدستور أن يحمي التونسي المسلم إذا أراد تطبيق شريعته في عدم توريث غير المسلم أو في تطبيق نسبة الفرض الشرعي بين الذكور و الإناث؟ أم هل أن التدين بالإسلام لا يعتبر حرية ضمير وجب رعايتها و حمايتها؟
في هذا المجال، يمكن أن نقول أن الفصل الأول من الدستور يمكن تأويله بأنه حامي للدين الإسلامي كما هو الشأن لمطلع الفصل السادس من نفس الدستور الذي يحمي الدين على إطلاقه أي كل الديانات… لكنه يتعارض مع حرية الضمير كحق دستوري مكفول.
في محاولة للتوصل إلى توافق حول دور الدين، تشير التوطئة إلى تمسك الشعب “بتعاليم الإسلام” في حين يكرر الفصل الأول الصيغة التي تشكل جزءا من الدستور التونسي منذ الإستقلال : “تونس دولة حرة،مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، و العربية لغتها، و الجمهورية نظامها.” فيما يأتي الفصلان الأول و السادس على ذكر الدين مع تجنب إعطائه مكانة محددة أو تعريفه بأنه مصدر التشريع 17.
كما خالف كلا هذين الفصلين الدستوريين أحكام الإرث في م.أ.ش. بالقول أن المواطنين و المواطنات متساوون في الحقوق و الواجبات، و هو ما كان من المطالب الأساسية لعدد كبير من المنظمات الأهلية التي تخشى أن تعمد الحكومة التي يقودها الإسلاميون، آن ذاك، إلى تغيير قانون الأحوال الشخصية على الرغم من تطمينات “النهضة” حينها.
و في خطوة أخرى، أقر الدستور التونسي في الفصل 45 أن الدولة تضمن حماية حقوق المرأة و تدعم مكاسبها و تضمن تكافؤ الفرص، ما يعني أن الدستور لا يمس إطلاقا بحريات قانون الأحوال الشخصية لكن في المقابل قد لا يحمي الأحكام الإسلامية الواردة بأحكام المواريث و قسمة التركات…
و يرى البعض من رجال القانون أن الدول التي تنص في دستورها على مبدإ “حرية الضمير” هي دول لائكية بالأساس و هو ما يتناقض مع الفصل الأول من الدستور السابق ذكره.
هذا يجسد نوعا من التناقض صلب الدستور فكيف يقع الإقرار بدستورية الإسلام كدين للدولة من جهة ثم يقع التنصيص على مبدإ حرية الضمير من جهة أخرى؟
حول هذا الموضوع يقول الأستاذ قيس سعيد “الدولة دينها الإسلام يعني أن ذلك يتعلق بالمجموعة أما التنصيص على حرية الضمير فذلك يعني أن الفرد له حق اختيار دينه أو بمعنى أوضح حرية المعتقد”
أما الأستاذ الصادق بلعيد فقد أعرب عن استغرابه من التنصيص على حرية الضمير في الدستور التونسي قائلا: “إن ما يخالج ضميري يتنزل في إطار حرية التعبير و إذا اعتنقت دينا معينا فلي كامل الحق في ذلك لأن الفصل الخامس من الدستور يضمن لي ذلك…”
و قد أكد الأستاذ الصادق بلعيد على وجوب البحث في الآثار التي يمكن أن تترتب على التنصيص على حرية الضمير في الدستور…
و من جانبنا نشير إلى أن من بين الآثار الكبيرة و الوخيمة لهذا التنصيص هي التي تتعلق بالأحكام القانونية التي لها ارتباط وثيق بالتشريع الإسلامي و منها أحكام المواريث.
الخاتمة
ختاما، نشير إلى أن مسألة رفع التحفظات عن اتفاقية “سيداو” و دسترة حرية الضمير قد تكون أكثر تعقيدا مما هو متصور، فربما إذا ما وقع الإلتزام بأحكام المواريث بوصفها أحكام قانونية لم ينلها أي تنقيح، قد يذهب المتضرر إلى الطعن بعدم دستورية جميع أحكام المواريث بصفتها تتعارض مع حق دستوري، و هو حرية الضمير و مع معاهدة دولية مكفول تطبيقها بحكم علوية نصها على القوانين العادية.
هوامش
(1) الدكتور محمد بوزغيبة أستاذ الفقه و علومه و رئيس وحدة بحث فقهاء تونس بجامعة الزيتونة، التركات و الفرائض في تونس
(2) محمد الحبيب الشريف، مجلة الأحوال الشخصية بين الأصالة والحداثة، منشور في المؤلف الجماعي: مجلة الأحوال الشخصية: أصالة وحداثة، مركز الكريديف، تونس.2006. ص.15.
(3) محمود داوود يعقوب، إختلاف الدين في الميراث “دلو في بئر الجدل، المدونة الإلكترونية للأستاذ محمود داوود يعقوب
(4) القاضي حسين بن سليمة، أحكام المواريث في الشريعة و القانون
(5) محمود داوود يعقوب، نفس المقال المذكور أعلاه
(6) الفصل 6 من دستور الجمهورية التونسية
(7) الإطار الدستوري و القانوني لحماية المرأة في اتفاقية سيداو
(8) الشروق أون لاين بتاريخ 30 أفريل 2014
(9) سورة البقرة الآية 228
(10) سورة آل عمران الآية 36
(11) سورة النساء الآية 11
(12) سورة النساء الآية 11
(13) د. عبد الإله المالكي، ميراث المرأة بين العدل الرباني و الجهل العلماني
(14) محمد الناوي، محام بهيأة الدار البيضاء- المغرب
(15) محمود داوود يعقوب، نفس المقال المذكور أعلاه
(16) خميس بن بريك، الجزيرة نات
(17) علاء لطفي، مسارات التوافق الهشة في الدستور التونسي ترسم خرائط الإشتعال القادمة (جريدة الرأي الإلكترونية)
شكرا على هذا التوضيح
غير أن الدست يظل قائما كما كانوا يقولون: بإيّ السبل نأخذ ؟
يقولون إن القرآن واضح صريح في اعتبار البعض أنصافا ويعتبرون كفرا بل أشدّ الكفر أن يقال إنّ ذاك زمان وهذا زمان، وإن الدين الحيّ النابض هو ذاك الذي يجدّد الاعتبار ويطابق الأحكام والأوضاع لأنّ الحياة تطوّر مستمرّ
إن الديانة التي لا تتجدد في فروعها وفي أحكامها غير الجوهرية محكوم عليها بالزوال وإن طال بها الأمد، وليتأمل المتأملون في ما جدّ في ربوع غير ربوعنا
ثم إنّ أمر المساواة بين الرجل والمرأة ، بين الابن واخته يحتمه نسق تاريخ الانسانية وتتظور الحضارات وإن كرهت العمائم واللحى وما لفّ لفّهم
ما أقرّه الدستور التونسي، تبعا لمجلة الأحوال الشخصية، خطوة أخرى، رغم كل التناقضات، على سبيل تحقيق المساواة
إن الصبح لقريب