يذكرني راهن الصراع الطبقي في تونس بمشهد جد مؤثر من الفلم الإيطالي الرائع “عبادة الشمس” وهو من بطولة مرسالو مستريوني وصوفيا لوران. المشهد يبرز الجيوش الفاشية وهي في طريق عودتها عبر السباسب الروسية بعد أن انكسرت شر انكسار في ستالين قراد. مشقة العودة عبر الثلوج العاتية والبرد السيبيري فوق كل وصف. والمسيرة السيبيرية لم تكن لترحم كل من يتجمد الدم في عروقه فيسقط دون أن يلتفت إليه أحد من مرافقيه.
الصراع الطبقي الراهن في تونس هو أيضا دون هوادة. “ذراعك يا علاف”. هاهي الطبقة الوسطى تشمر على ذراعيها وتخوض إضرابات في التعليم الثانوي و حتى التعليم العالي. الإتحاد العام التونسي للشغل يفاوض على الزيادة في الأجور ولا ندري كيف يوفق بين الإستحقاقات الإجتماعية ومهادنة الأعراف ومنظمتهم. لأن هؤلاء الأخيرين كشروا على أنيابهم وجندوا منظمة الأعراف ومرتزقة الإعلام والإئتلاف الحاكم لكبح جماح الحركة الإجتماعية. إنها الحرب الباردة التي قد تؤول إلى الحرب الأهلية. حرب على حرب استنزاف تشتعل نيرانها بين الفينة و الأخرى لتخبرنا عن سقوط شهداء من الدروع البشرية المنتصبة على خط النار لترعى راحة و استجمام و بذخ و مجون واستهتار أصحاب الثروات الفاحشة. يا لسخرية الأقدار التي قذفت بمحمد البوعزيزي لتنفجر الثورة وتسيل دماء كثيرة ويخرج “المحفلطون” و “المزفلطون” من صمتهم الإستسلامي ليستأسددوا خلف دروعهم النقابية ويقيموا الدنيا ولا يقعدونها حول مطالبهم. هل كانت النقابات لترفع صوتها أصلا أمام بطش الديكتاتورية لولا الهبة الثورية الشعبية التي فتحت لها الباب على مصراعيه ولكن بأي ثمن ؟ لسنا من زبانية المناهضين للإضرابات و الحركة الإجتماعية عموما بدعوى “تدخيل البلاد في حيط” ومع ذلك نتساءل هل أن هؤلاء “المحفلطين” قالوا بينهم وبين أنفسهم : “والمعدمين المهمشين الزواولة الذين دفعوا ضريبة الدم أليست لهم الأولوية ؟” “هل لهم نقابات و مؤسسات تدافع عنهم ؟” كيف يحلو للنقابيين أن يستمتعوا بالزيادات وهم يعلمون أن الحكومات المتعاقبة “قلبت” حتى شهداء و جرحى الثورة في دمائهم ؟ ما هذا الجشع المطلبي المترتب عن ذهنية “ليكن بعدي الطوفان؟
من المأسسة
ليشرب اليعقوبي* وغيره ماء البحر ولكن هؤلاء هم كذلك من الذين يصعدون على جثث الشهداء ليحققوا مطالب لا يمكن بأي مقياس من المقاييس مقارنتاها بالمطالب الفورية “للزواولة”. سيقولون هذه شعبوية، فن السجال السياسي ولإن كانت قرائنه أحيانا بديهية فإنه يظل عصيا على من أعمى بصيرتهم اللهث وراء المآرب الشخصية. لم يعد يكفي ترديد الحقيقة البديهية التي تفيد أن المسار الثوري انطلق بمعزل عن الإرادات الحزبية… بل يتوجب تعميق هذه المعاينة بالنظر في الإستتباعات التي تلتها. شأن كل الثورات التي لا تجد المثقفين العضويين ليحموا حماها فإن المسار الثوري في تونس وقع في شراك النخب المثقفاتية القريبة من دوائر النفوذ. تعلمنا الثورات القديمة كيف يكون القرطاس و القلم والحرف سلاحا للتحكم في المسار الثوري. تمارس تلك النخب أسبقيتها “المعرفية” والديماغوجية للإنقضاض على المنجز الثوري مستفيدة من خبرة أسلافها في كيفية إجهاض ثورات الشعوب باستخدام سلطة الحرف والاهوت سابقا وزد عليهم سلطة الإعلام في عصرنا. لم يشذ المسار الثوري في تونس على هذه العادة. لقد اتفقت النخب السياسية على بكرة أبيها على مأسسة المسار الثوري في الإتجاه الذي يحفظ لها مصالحها و امتيازاتها و سبقها بالنسبة للطبقات و الفآت التي كانت وقود الإنتفاضة الثورية الأولى. وفي سرعة البرق اندفعت تلك النخب والطبقات السائدة في النظام القديم لمأسسة وجودها عبر الأحزاب السياسية و الجمعيات و النقابات والثقافة السياسية الجديدة : ثقافة العدالة الإنتقالية و التحول الديمقراطي و الدستور… وها هي اليوم تتمترس وراء منظماتها المهنية ونقاباتها و جمعياتها و أحزابها من أجل نيل نصيبها من الغنيمة ومن الصيد الذي ما كانت لتنعم به لولا تضحيات الفقراء. هؤلاء الأخيرين الذين لاذوا بالفرجة وبالسخرية على الزاحفين على بطونهم دون أن يهتموا بمأسسة وجودهم الطبقي في أتون هذا الصراع الذي لا يرحم.
إلى التمرد
إلا أن الأهم من هذا كله أن السواد الأعظم من الثوار المهمشين هم على وعي بإقصائهم وبالتلاعب و “القلبة” التي مارستها ضدهم جميع أطياف الطبقة السياسية و لم يزدهم ذلك غير الإزدراء الإحتقار “للمحفلطين”. فلما حل موعد الإنتخابات المسخرة كانوا خمسة ملايين بالتمام و الكمال وبأغلبية شبابية ليرفضوا تلويث سبَاباتهم بحثالة التزييف و الخداع الإنتخابوي و”القلبة” السياسية. من هنا تبدأ الحكاية من جديد و من هنا يتحرك تاريخ الصراع الطبقي بوجهه غير الممأسس بل و المتمرد والذي قد يكون حاسما في قادم المسار الثوري. لقد تبين الثوار بتجربتهم الخاصة مدى أنانية وجشع الطبقات المترفة و الوسطى ومؤسساتها السياسية والنقابية والثقافية وعجز تلك الطبقات على إقامة الحد الأدنى من الإقتصاد التضامني لنصرة من دمرتهم آليات النهب والتفقير و التجويع ويطلب منهم فوق ذلك أن يكونوا دروعا بشرية لحماية أصحاب الثروات الفاحشة من “الإرهاب”. إن هؤلاء الثوار يدركون اليوم أيضا خداع الديماغوجيا “الوطنية” التي تتشدق بها أطياف الطبقة السياسية. فما معنى الإنتماء إلى وطن تقوم فيه ثورة إجتماعية من أجل رفع المظالم والتأجيل باستحقاقات لم تعد تحتمل الإنتظار فإذا بالثورة تسرق وبالثورة المضادة تعود سعيا لترميم النظام الإجتماعي القديم؟ وما معنى التشدق بالوطنية في وقت لم يجد فيه كواسر المال و السياسة من سبيل سوى رهن البلاد إلى الدوائر الرأسمالية المتوحشة بإغرقها في القروض ؟ و ها هي أطياف الطبقة السياسية و النقابية تتصارع من أجل نيل نصيبها من تدفق القروض وليس فقط من ثمرة العمل الإجتماعي ولا يكاد يمر يوم إلا ويزداد سخط السواد الأعظم من الشعب الكادح والمعطل على الطبقة السياسية ومؤسساتها. لذلك فإن راهن الوعي الطبقي يتيح توقع الطريق الكفاحية التي ستشقها القوى الثورية مسلحة ليس فقط ببرنامجها الفوري للخبز و الشغل و الحرية بل وخاصة بكيفية إنجازه. و ليس لذلك من سبيل سوى بفرض ضريبة إستثنائية على الثراء الفاحش وإلغاء الإمتيازات و تجميد الأسعار وتحقيق التشغيل وتوزيع الأراضي الدولية على صغار الفلاحين مع إلغاء ديونهم واقتطاع جزء من الثروة لفائدة الجهات المفقرة…ولا يمكن إنجاز كل هذا و غيره إلا بالنفير الشعبي الثوري الذي سيصفي في طريقه خفافيش الظلام بما أن القوى الثورية ستسترد في طريقها معنى الإنتماء الى الوطن الذي ستنعم فيه بإنسانية الإنسان. وبما أن التاريخ لا يعيد نفسه فإن القوى الثورية سوف لن تلدغ من الجحر مرتين بل أنها ستجابه معضلة لا بد من حلها. ألا وهي معضلة السلطة : سلطة الشعب.
* الأسعد اليعقوبي الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي
iThere are no comments
Add yours