أصدرت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات دراسة حول ظروف العمل الفلاحي للنساء في الوسط الريفي، وقد بينت هذه الدراسة واقع الاستغلال والتمييز الذي تتعرض إليه النساء الريفيات من خلال الكشف عن ظروف التنقل والأجور الزهيدة والتمييز الاجتماعي اللاتي تتعرضن إليه، علاوة على التداعيات الجسدية لهذا العمل.

ظروف نقل مُهينة

في أوائل شهر سبتمبر من سنة 2014 لقيت عاملتان فلاحيتان حتفهما إثر حادث مرور تعرضت إليه الشاحنة التي كانت تقلهما صحبة عدد من العملة إلى ضيعة فلاحية بقرية سيدي عيش من ولاية قفصة. وفي نفس الفترة تقريبا لقيت ثلاثة نساء من بينهن امرأة حامل نفس المصير في انقلاب شاحنة كانت تقلهن صحبة عدد آخر من النساء إلى العمل بضيعة فلاحية بمنطقة مرناق.

انقلاب شاحنات تقل عاملات فلاحيات أصبح حدثا يتكرر في العديد من المناطق، وهو يعكس المشقة الكبيرة الذي تتكبدها هذه الفئة مقابل الوصول إلى أماكن العمل. وحسب الدراسة المذكورة فإن النساء العاملات في الوسط الريفي يقطعن مسافات طويلة للوصول إلى الضيعات الفلاحية، تصل في بعض الأحيان إلى 20 كلم، بعضهن يقطعن المسافة مشيا على الأقدام والبعض الآخر يتنقلن بواسطة شاحنات خفيفة وثقيلة أو بواسطة مجرورات، يُحشرن فيها ”مثل الدواب“ على حد تعبير إحداهن.

وتشكو أغلب النساء المستجوبات في الدراسة من ظروف التنقل القاسية المتمثلة في الاكتظاظ والأوساخ وخطر حوادث الطرقات ويتعرضن للعنف اللفظي والتحرش من قبل الناقلين، وقد أكدت إحداهن أن ”بعض الناقلين يعمدون إلى سكب الماء في الشاحنة لمنعهن من الجلوس وإجبارهن على الوقوف حتى يتمكن الناقل من حمل أكثر عدد ممكن“.

عطاء كبير مقابل أجور زهيدة

تشير الدراسة التي أنجزتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن معظم النساء يعملن أكثر من 8 ساعات في اليوم وبعضهن لا يتمتعن براحة أسبوعية خصوصا العاملات الموسميات لأن يوم الراحة غير خالص الأجر. علاوة على هذا يتسم العمل الفلاحي بالهشاشة لأن العاملات الفلاحيات يشتغلن دون عقود قانونية وهو ما يجعلهن عرضة لعدم الاستقرار المهني والابتزاز من قبل الوسطاء أو المُشغلين المباشرين. ومن الملاحظ أن الناقلين والوسطاء يلعبون دورا كبير في تشغيل العاملات الفلاحيات واستغلالهن، إذ تشير الدراسة إلى أن الوساطة تتدخل في تحديد طريقة استخلاص الأجور التي تتراوح عادة بين الأجرة اليومية والأجرة الأسبوعية، وتساهم هذه الظاهرة في إلغاء مسؤولية المشغلين المباشرين وتؤبد وضع ”اللاقانونية“ في العمل الفلاحي، وفي بعض الأحيان تحرَم النساء من الحصول على أجورهن.

رغم أن العاملات الفلاحيات يمتهنَّ أعمالا شاقة مثل الجني، البذر، اقتلاع الطفيليات، حمل المحصول والحرث في بعض الأحيان، فإنهن يتقاضين أجورا أقل من تلك التي يحصل عليها الرجال. ويعود هذا التمييز في أساسه إلى الطبيعة الأبوية للمجتمع التي وفرت أساسا ماديا لاستغلال النساء في الأوساط الريفية وتنكرت لمجهوداتهن الجسيمة، الأمر الذي جعل البعض منهن يسلمن بقدرية هذا المعطي الاجتماعي القديم رغم جوهره اللاّعادل.

من الملاحظ أن الدولة التونسية الحديثة، رغم إقرارها لحقوق النساء في العديد من المجالات، فإنها ساهمت في تقنين واقع اللاّمساواة في الأجر الأدني الفلاحي بين الجنسين طيلة عقود، ولم يقع تنقيح هذا القانون إلا من خلال أمر صدر سنة 2012.

تداعيات صحية خطيرة

تشتغل النساء في العمل الفلاحي وسط ظروف تنعدم فيها جل مقومات الحماية، وعادة ما يتعرضن إلى المؤثرات المناخية، البرد، الأمطار، الحرارة، خصوصا أثناء مواسم جني الخضر في البيوت المكيفة في فصل الصيف. علاوة على مشاق التنقل وسط الحقول الشائكة والغارقة في الأوحال في فصل الشتاء وهو ما يسبب لهن مضاعفات صحية مختلفة، التهاب المفاصل، هشاشة العظام، الأمراض الجلدية، والّإجهاض في بعض الأحيان بسبب إجهاد النفس في أعمال شاقة مثل حمل المنتوج.

العديد من النساء تعمدن إلى إهمال مشاكلهن الصحية إذ تجبرن أنفسهن على الاستمرار في العمل حتى في حالات حرجة. ومن ذلك حالة سيدة من مرناق نفت مشاكلها الصحية خوفا من إمكانية فقدان عملها وتفاجأنا بتدخل جارتها لتذكرها بأنها تعاني من مشاكل صحية عديدة، كثيرا ما تنتهي بها إلى أزمة تتطلب نقلها إلى المستشفى على وجه الاستعجال.

ورغم التداعيات الصحية الخطيرة للعمل الفلاحي فإن بعض النساء لا يتمتعن بتغطية صحية، وقد أكدت الدراسة أن ما يقارب 15 بالمائة من النساء المستجوبات يؤكدن عدم تمتعهن بأي تغطية صحية. أما من تتمتعن بها فتستعملن دفاتر المعالجة العائلية باسم الزوج أو دفاتر المعالجة المجانية.

أبوية المجتمع واللاّ إعتراف

أكدت إحدى النساء المُستجوبات في الدراسة ”بعد سنوات الشقاء والتعب الطويلة، اشتريت قطعة أرض وقمت ببناء منزل العائلة، في الوقت الذي كان فيه زوجي عاطلا عن العمل معظم الأحيان ويعمد إلى إهانتي وتعنيفي، فقررت رفع قضية في الطلاق وحينها طردني من المنزل لأن العقار لم يكن مُسجّلاً باسمي”.

رغم المشاركة الكفاحية التي تخوضها المرأة الريفية –التي تفوق في بعض الأحيان ما يبذله الرجال- فإنها مازالت تعيش على هامش المجتمع، الذي ما فتئ يكرس نظرة دونية لعاملات الريف تتجلى أساسا في التمييز المسلط عليهن وحرمانهن من أدنى حقوقهن الإنسانية. وهو ما ساهم في تأبيد الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئة.

إن هذه النظرة تتغذى من إرث المجتمع البطريركي الذي يفرض فيه الرجال سيادتهم على النساء، ويتم تسويغها في المجتمعات العربية الإسلامية تحت مشروعية فقهية نصية لا تأخذ بعين الاعتبار السياقات التاريخية وحركة التطور الاجتماعي، ومن هذه المنطلقات تُحرم المرأة الريفية، رغم دورها الاقتصادي في التنمية الفلاحية، من حقها في الميراث في بعض الأحيان ومن حقها في النفاذ للملكية، وهو ما يؤبد  استتباعها لواقع الحيف والاستغلال.