المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

Ben-Ali

إن بن علي لايزال بيننا. المؤكد أن المُتابعَة للشأن التونسي في تعابيره السياسية، الاجتماعية أو الثقافية تُلاحظ إستمرارية تواجد الدكتاتور المخلوع في المخيلة العامة، الشعبية منها أو الاكثر إلماما، كشخصية سياسية لا تزال تثير الإهتمام و تختلف حولها الآراء و المواقف بين والمطالبة بمحاكمتها وأخرى تستحضر فترة حكمها بنوع من الحنين. فعلى سبيل المثال، غلبت على الإنتاجات الأدبية في فترة ما بعد الثورة، بدأً برواية شكري المبخوت ”الطلياني“ أو ”سعادة السيد الوزير“ لحسن الواد ، التركيز على فترة دكتاتورية حكم بن علي وحرصت على إبراز حالات الفساد وإنتهاك الحريات تحت سلطة حزبه الاستبدادية أو بوليسه السياسي القمعي. من جهة أخرى، و هذا موضوع مقالنا، هناك فكرة شائعة لدى أفراد و مكونات شعبية متعددة تستحضر وطنية الدكتاتور السابق و تتأسف على فراغ سياسي تُرك بخلعه (راجع هنا مقالا لعزيز عمامي حول نفس الموضوع). أكاد أجزم أنه لا يكاد يمر يوم خلال فترة إقامتي القصيرة في تونس العاصمة دون تأكيد هنا أوهناك بأَن الدكتاتور السابق هو المُنقذ الوحيد من حالة العنف السياسي و إنعدام الإستقرار السياسي و الإقتصادي كنتيجة للزخم الفوضوي لما بعد الثورة. مثلاً كثر الجدل مؤخرا حول برنامج رمضاني ”ألو جدة“ الذي يتمحور حول فكرة إيهام الشخصية السياسية الضيفة بأنها في حوار مباشر مع الدكتاتور السابق من خلال مداخلة هاتفية مرتجلة في ما يسمى بالكاميرا الخفية. بغض النظر عن جودة البرنامج أو حرفيته، وبعيدا عن اعتبارات أخلاقية بسيطة، ما يجلب الإنتباه في تفاعلات الشخصيات السياسية مع المداخلة (على زيفها) أو ردود الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي على حد السواء هو أن بن علي مازال رمز سلبي/ايجابي في الآن نفسه تنقسم حوله الآراء و تختزل فيه نوعا ما التجاذبات الداخلية. الرمزية الطقوسية بن علي لدى هده المجموعة الإجتماعية و السياسية تستدعي طرح السؤال التالي: لماذا يحتل الدكتاتور السابق قدسية خاصة عند البعض، سياسيٍين وعامة على السواء، إلى درجة نسيان ماضيه الدموي والإستبدادي، والمطالبة بعودته لإحياء ماض مجيد تقترن فيه جزافاً وطنية زائفة باستحضار لرغد إقتصادي وأمني اعتباطي. في قراءتي لهذه الظاهرة السياسية والثقافية هناك سعي مني لطرح جدلية الدكتاتور الأسبق كحالة إيجابية وسلبية في الآن نفسه. بمعنى آخر، في إستمرارية تواجد الدكتاتور المخلوع في الشأن العام هو بداية مسار الديمقراطية ونهايتها.

في محاولة طرح هذه النظرية، أستعين بأطروحة رينيه جيرار حول إقتران العنف بالمقدس من خلال فكرة ”كبش الفداء“ الذي يجب التضحية به من ناحية، والذي يكتسي صبغة قدسية بعد رحيله من ناحية أخرى. يعتقد جيرار أن أساس العنف داخل كيان اجتماعي معين هو الرغبة في معناها الشامل، المادي و المعنوي و اللامادي منها، بين فرد عادي (ف) و نموذج رفيع (ن) يقلد فيها الأول الثاني في الرغبة تجاه شيء محدد (ش). يضيف جيرار أن إزدياد شدة رغبة كلا الطرفين (ف) و (ن) في الحصول على (ش) يؤدي الى حتمية المنافسة الشديدة التي تولد عنفا أزليا يهدد الكيان الاجتماعي ذاته بالزوال. في محاولة درء هذا الخطر الأول، يتفق كلا الطرفين على ايجاد طرف ثالث ليدفع به ككبش فداء، و هاته الكذبة الأولى. هذه الضحية بالإنابة تظل محل اهتمام لأن كلا الطرفان يمعن في اختلاق حجج لتفسير اختيار كبش فداء معين و فوائد التضحية بالنسبة لمصلحة المجموعة العامة من خلال تخليد ذكرى اندلاع العنف الذي أدى إلى عملية التضحية في شكل احتفالات سنوية تذكر العام و الخاص بأهمية ما تحقق من تغيير عميق و ايجابي. يستعين جيرار بأمثلة دينية و سياسية و أدبية مختلفة كالهولوكوست أو التراجيديا الإغريقية أو صلب المسيح عليه السلام مثلا. لكن ما يهمنا أكثر هنا هو الإسقاط السياسي لتحليل جيرار، و خاصة في محاولة فهم اشكالية ديمومة تواجد الدكتاتور السابق في حالة ما بعد الثورة.

هناك نقاط تشابه كثيرة تتماهى فيها أطروحة جيرار بالواقع التونسي المذكور في بداية المقال. أولا، أرى أن فعل الثورة يعبر في معنى من معانيه المختلفة عن قرب تماهي رغبة بين مكون شعبي (ف) (أو مكونات شعبية) من جهة و فئة (أو فئات) ذات نفود قديم قريبة من دوائر السلطة السياسية و الدينية (يطلق عليها عموما مسمى البورجوازية القديمة). هذا التماهي في الرغبة يكون في التمكن من السلطة بأشكالها المادية و اللامادية. إن أي فعل ثوري هو فعل عنيف بالأساس لأنه يجسد بشكل فريد حلم يوتوبي أزلي في شكله الأفلاطوني حيث تكون السلطة الفعلية للشعب بهدف تحقيق فعلي للعدالة، والمساواة و الحرية. غير أن حلم الثورة يبقى حلما، بمعنى أن تنازع الطرفين على أحقية تولي السلطة و تحقيق المرغوب على أرض الواقع لا يخلق مناخا ديموقراطيا و إنما نزاعا شديدا تتصاعد فيه وتيرة العنف بين أفراد، وممثلي جهاز الردع كالشرطة و غيرها، و كذلك مليشيات و مرتزقة و أقليات متطرفة كما شاهدناه خلال و بعد الثورة. ثانيا، لا يختلف اثنان على أن تصاعد وتيرة العنف و الاختناق السياسي انطلاقا من أحداث الرديف في 2008 وانتهاء بأحداث سيدي بوزيد في 2010 التي مثلت مرحلة لا عودة غير مسبوقة من ناحية الحراك الشعبي و السياسي ضد النظام السابق أذنت للدفع بالدكتاتور السابق ككبش فداء لمحاولة تفادي خطر سقوط الدولة في حرب أهلية مماثل للسيناريو الليبي او اليمني. هنا أختلف مع جيرار في فهمه لعملية اختيار كبش الفداء كعملية اختيار اعتباطية تكون فيها الضحية مختلفة على أساس شخصي أو عقائدي أو ثقافي. رغم أن الاحتفال السنوي بالثورة مثلاً هو إحتفال سياسوي بالأساس و يخضع لاعتبارات مختلفة الأهداف، إلاّ أن بن علي كان و سيظل رمز للقمع و الاستبداد و كان خلعه علامة فارقة في المسار الثوري الذي ابتدأ مع ثورة مطلع 2001.

لايزال السُؤال الأهم مُلتبسا: لماذا لايزال بن علي كدكتاتور سابق إستبدادي و دموي يحظى بمكانة القائد القادر على الإنقاذ؟ يعتقد جيرار أن كبش الفداء يكتسي بعد انتهاء فعل العنف الشديد (أو الثورة) مكانة خاصة تكاد تكون طقوسية وجلالية. هذه الضحية، سواء كانت مختارة عشوائيا أو تراكميا، تتحول من شخصية بغيضة متسببة في العنف والاستبداد يحوم حولها الإجماع (حجاجا أو بديهيا) على ضرورة التخلص منها درءا لخطر تلاشي المجموعة إلى شخصية طقوسية تكتسي رمزية للسلم و الأمان و الاستقرار. عملية التضحية بكبش الفداء تتحول إذن من فعل سياسي اضطراري إلى فعل طقوسي وثنوي حيث، بغض النظر عن مبتغى الحفاظ على أمن المجموعة، ما يستبدل حقا في فعل التضحية هو مكانة الضحية من متسبب في العنف و الاستبداد إلى رمز طقوسي مؤسس للسلام و الرخاء. يؤكد جيرار أن هذا التحول يُثمن مكانة الضحية و يَرفع من رمزيتها إلى مقامة قيمة إاجتماعية و سياسية سامية. يَرتكز جيرار في حُجته على قراءته لعملية التضحية بالمسيح عليه السلام (حسب تعاليم الانجيل) و تشديد الأناجيل التي تَلته على براءة المسيح و ضرورة الاعتراف بالخطيئة الأولى و التخلي عن أشكال العنف المهددة للإنسانية و الإنتصار للضعفاء و الضحايا بصفة عامة. من جانب أخر، نجاح عملية الدفع بكبش فداء لدرء العنف تؤسس لفكرة تكرار العنف ذاته في حالة بروز جديد لخطر تلاشي المجموعة أو المكون السياسي بذاته في المستقبل. إذن الفهم الخاطئ لتضحية المسيح عليه السلام أَسس و لازال يُؤسس لضرورة العودة مجددًا للعنف في خطوة لتكرار الخطيئة الأولى بدل التركيز على فهم تضحيته على أنها تخليص للإنسانية جمعاء من خطر العنف عن طريق ارتكاب التضحية الكبرى التي دعا من خلالها الأب ابنه إلى التضحية بنفسه في سبيل البشرية. طبعا ليس هناك مساحة كافية للخوض في نقد حجج جيرار و تأويلاته. ما يهمنا أكثر أن التخلي و لو جزئيا عن الجانب الديني الأنثروبولوجي الذي يكتسيه تحليله، يمكننا من القول أن المقاربة الفكرية بين فهمه لإشكالية كبش الفداء و رمزية طقوسيته المتجددة تلخص فهمنا للحالة الطقوسية التي يكتسيها بن علي فيما بعد الثورة لدى جانب هام من أفراد و سياسيي تونس بعد الثورة.

وثنية مكانة الدكتاتور السابق كرمز للأمان و الإستقرار مؤكدة لأن أغلب حجج المدافعين عن الإرث الاقتصادي و الإيديولوجي و الأمني لبن علي تسقط بمجرد تأكيد المدافع على ضرورة غض النظر مسبقا عن تركته البوليسية الدموية ضد معارضيه السياسيين أو أفراد عاديين على السواء في فترة حكم ستذكر دائما بعشوائيتها واستبداديتها. أي محاولة محاجاة تستعطف الإثناء عن التذكير بدموية بن علي هي محاولة باطلة. هذا الطابع الوثني لايزال قائما و فاعلا في أوساط مختلفة لأن يوتوبية الأمل في مستقبل أفضل التي تلت أحداث الثورة أدت إلى تحول في المخيلة العامة و ترسيخ مُعتقد أَن حُكم بن علي الاستبدادي ليس سبب الثورة بل هو المُخول لها و لأهدافها. في طقوسية هذا الاعتقاد اعتراف ضمني بأن اكتمال الثورة لا يكون ضرورة إلا بعودة المنقذ الأول. هنا يجب التأكيد بأن إشارتي إلى بن علي ليست إشارة شخصه فقط بل كذلك إلى نظامه و بوليسه و جهاز إعلامه في الداخل و الخارجK فلدى الكثير الرغبة في الإبقاء على المكاسب الحالية من الحريات مع تمني استرجاع ما يسمى بحزم بن علي و قدرته على القيادة السياسية. إن الاستبداد لا يتجزأ، كما أن الدكتاتور لم يكن أبدا قائدا سياسيا وإنما عسكري ذكي دفع به إلى الواجهة في الوقت المناسب. ثانيا، نجد أن هذا التحول في رمزية الدكتاتور السابق إلى مُمكّن للثورة جعله يكتسب بمرور الوقت طقوسية و تجرّد فكرة اجتماعية سامية. بمعنى آخر، اقترنت في المخيلة العامة التونسية بعض النجاحات الاقتصادية و مناخ الأمن العام الجيد خلال فترات من حكم بن علي بقيم السياسة الرشيدة، و الأمان و التقدم الاقتصادي. ثالثا، ان المناخ السياسي و الاجتماعي السائد حاليا يتسم بالاحتقان و التأزم و السلبية الشديدة يذكر العديدين بفترة الاحتقان التي طبعت آخر سنوات حكم بن علي من حيث تدني المؤشرات الاقتصادية و ترهل الدولة و تفشي الفساد. ديمومة هذا المناخ السلبي يقتضي إذن ضرورة العودة إلى فكرة التضحية مجددا بكبش فداء بكون بن علي فيها الضحية و المنقذ في الآن نفسه. إن بن علي لايزال بيننا لأن إمكانية الخروج من مأزق انعدام مشروع ديموقراطي شامل قادر على جمع مكونات مختلفة و متناقضة من مجتمعنا خلفه مازلت ضعيفة لكي لا نقول منعدمة. المُشكلة هنا أنه في التضحية مجددا ببن علي (و فكره الذي مازال يعشش في جهاز مؤسساتنا و بوليسنا وإداراتنا) ككبش فداء و من ثم العودة من جديد لوثنية فكرة الإنقاذ لا يؤسس لمحاولة تصحيحية للثورة وإنما لإفراغها من أي محتوى تجديدي ثوري.

في الختام، أريد أن أؤكد أن فهمي لوثنية و طُقوسية رمزية بن علي لا يستخلص الحالة التونسية فيما بعد الثورة في طرفي الخلاف بين مُندد و مساند لعودة الدكتاتور السابق. على العكس، في محاولة مقاربة أطروحة جيرار و جانب من الوضع التونسي المتأزم الحالي هو دعوة إلى الخوض مُجددا في مَاض يقف عائقا أمام تأسيس سليم لحاضرنا و مستقبلنا كمجتمع و كيان سياسي مُتعدد و تقدمي. إن بن علي سيظل بيننا طالما انه لم تقع محاسبته على جرائمه و طالما ارثه و فكره مازال متفشيا بيننا.