قانون المصالحة الاقتصادية: هل أن تبيض الفساد وسوء التصرف المالي يعدان أولية في مسار الانتقال الديمقراطي
تونس في 29 جوان 2016
بعد مرور حوالي السنة على تقديم المبادرة الرئاسية المتعلقة بمشروع قانون المصالحة الاقتصادية وبالرغم من المعارضة الشديدة للمجتمع المدني لهذا المشروع إلا أنه يعود من جديد ليتصدر أولوية جدول أعمال لجنة التشريع العام داخل مجلس نواب الشعب، من هنا يصبح التساؤل مشروعا حول جدية اعتبار إصلاح المؤسسات أولوية وطنية وأحد الشروط الضرورية لتحقيق الانتقال الديمقراطي وإرساء دولة القانون.
يعتبر الفساد واحدا من أهم مظاهر النظام الديكتاتوري الذي أطاحت به الثورة حيث أنه كان السبب الرئيسي لعدم المساواة والحيف الاجتماعي. ومن هذا المنطلق فإن الصراع ضد الفساد في تونس يكتسي أهمية كبرى من منظور معالجة الماضي والمضي قدما نحو إرساء دولة القانون والديمقراطية، وذلك من خلال الاستجابة لمطالب تحقيق العدالة والمساءلة بالنسبة للذين ساهموا في إرساء نظام احتكار الثروات من قبل مجموعة محظوظة من الناس على حساب بلد بأكمله.
علاوة على أن ما يسمى بقانون “المصالحة الوطنية” بعيد كل البعد على المقومات الأساسية للعدالة للانتقالية باعتبارها شرطا ضروريا لتحقيق الانتقال الديمقراطي فإنه يتناقض أيضا مع قانون العدالة الانتقالية الذي يهدف إلى إصلاح المؤسسات وتفكيك منظومة الفساد والقمع والديكتاتورية وضمان عدم تكرار انتهاكات الماضي وذلك باحترام حقوق الانسان وتكريس دولة القانون.
وبالتالي، فإن هذا القانون يمكن أن يطرح تساؤلات خطيرة بشأن عدم دستوريته. وفي الواقع فإن مشروع قانون ما يسمى بـ”المصالحة الوطنية” الذي بدأ مجلس نوّاب الشعب بالنظر فيه خلال هذه الأيام قد سبق عرضه السنة الفارطة من قبل رئاسة هيئة الحقيقة والكرامة على لجنة البندقية التي تمثل الهيكل الاستشاري للمجلس الأوروبي الذي ينظر في المسائل الدستورية وللإشارة فإن الدولة التونسية هي عضوة فيه. وسبق أن أصدرت هذه اللجنة بلاغا مؤقتا عدد 818/2015 بتاريخ 23-24 أكتوبر 2015 يقضي بعدم دستورية المشروع، لكونه ينص على إنشاء هيئة منافسة لهيئة الحقيقة والكرامة مسؤولة عن ملفات “المصالحة” والتي لا تقدم ضمانات كافية لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية المنصوص عليها في المادة 9-148 من الدستور والمحددة في القانون الأساسي عدد 53 في جانبه المتعلق كشف الحقيقة وإصلاح المؤسسات.
على ما ينص ما يسمى بقانون المصالحة الوطنية؟
ينص مشروع قانون المصالحة الوطنية المعروض من طرف رئاسة الجمهورية على مجلس نواب الشعب بتاريخ 14 جويلية 2015 على تمتيع الموظفين العموميين الذين صدرت في حقهم أحكام أو تتبعات متعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام بالعفو بالإضافة إلى كل من حصلت لهم منفعة من تلك الأفعال.
وبمجرد التصريح على المنافع التي حصلت يتمتع هؤلاء بالعفو الذي يوقف نهائيا الدعاوي العمومية المثارة ضدهم بموجب قرار صادر عن اللجنة الخاصة التي أوردها القانون. ويخص مشروع القانون بالعفو كل من ارتكب مخالفات صرف قبل تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ كما سيتمتعون بإعفاءات متعددة خاصة منها المتعلقة بالخروقات الجبائية وعدم التصريح بالمداخيل والأرباح وعدم إعادة المحاصيل بالخارج.
هذا بالإضافة إلى أن هذا القانون لا يعطي صلاحية البحث للجنة المذكورة جاعلا منها مجرد هيكل إداري ملحق مباشرة بالسلطة التنفيذية. وفي الختام فإن هذا القانون يسحب من هيئة الحقيقة والكرامة سلطة النظر في الملفات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام.
وبذلك فإن المنتفعين بهذا القانون سيفلتون من المسائلة والمحاسبة. كما يمكن أن يطرح هذا إشكالا مع النتائج والقرارات الصادرة عن لجنة المصادرة ولجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة المحدثتين سنة 2011.
وللتذكير فإن اللجان المذكورة قامت عقب البحث والتقصي، بإصدار قائمة بأسماء أشخاص ضالعين في أعمال فساد كما عملت على مصادرة الأموال المكتسبة بصورة غير شرعية. وفي صورة دخول هذا القانون حيز التنفيذ يمكن أن يتعارض مع مرسوم وقرارات المصادرة. وبالتالي يمثل مشروع هذا القانون قطيعة تامة مع القوانين والهيئات المحدثة بعد الثورة. كما يسمح أيضا بالعودة والعفو عن نفس الأشخاص الذين قامت ضدهم حركة التغيير السياسي والاجتماعي التي انطلقت منذ 2011.
ماذا سيقدم هذا المشروع لتونس وللانتقال الديمقراطي؟
إن الحجة الرئيسية المقدمة من طرف رئاسة الجمهورية تتمثل في كون عودة رجال الاعمال وتمتيع الموظفين العموميين الضالعين في الفساد والرشوة بالعفو واسترجاع الأملاك الحاصلة بصورة غير شرعية سيفسح المجال للاستثمار وسينشط الاقتصاد الوطني. للأسف هذه الادعاءات ليس لها أي أساس أو مبرر مهما كانت الزاوية التي ننظر من خلالها.
بداية لا يمكن تبرير الإفلات من العقاب بالنسبة لمسؤولي الدولة الفاسدين بحجة تنشيط الاقتصاد واسترجاع الأموال التي هم أنفسهم كانوا وراء نهبها.
ومن وجهة نظر اقتصادية فإن مشروع القانون لن يكرس في نهاية المطاف إلا المنافسة الغير مشروعة بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين الذين من المفروض وحسب الدستور لهم نفس الحقوق في إطار اقتصاد سليم منتج للثروة والتنمية. إن تطبيق هذا القانون سيعطي امتيازات لرجال الاعمال الذين كانوا قد استفادوا سابقا من منظومة الفساد لتحقيق ثرواتهم على حساب من اكتسب أملاك بصورة شرعية.
كما نشير إلى أنه لم تنشر أي دراسة تقدر حجم الأموال المتأتية من تنفيذ هذا القانون ولا أي تحاليل استشرافية للاستثمارات المحتملة الناتجة عن تطبيقه مما يثبت الغياب التام لأي مبرر لمشروع هذا القانون.
لهذا السبب فإن رئاسة الجمهورية عمدت إلى التغافل عن التصريح باستحالة إعداد مثل هذا التقييم وذلك لإن الأشخاص المعنيين بهذا القانون ليسوا مجبرين على التصريح بالأرباح المتأتية من الفساد والاعتداء على المال العام.
لكن وبعض النظر عن غياب الجدية والرؤية الواضحة في طرح هذا المشروع، فإن الخطر الأكبر يكمن في بعث رسالة يأس للمواطنين في ظل وضع عام يتسم بالتأزم الاقتصادي والاجتماعي الحاد من خلال تقديم هذا المشروع على أنه أولوية وطنية.
يحمل هذا المشروع تناقضا صارخا يمتمثل في كون الحكومة تعتمد في معالجة اللامساواة والتفاوت الاجتماعي على من كانوا بالأساس سبب فيه. يكرس هذا المشروع الرغبة في الربط مجددا مع ماضي الممارسات البالية التي ظن الشعب التونسي أنها ولت دون رجعة منذ جانفي 2011. كما يعكس إصرارا على تجاهل المكاسب الدستورية التي حققتها الثورة، تزامنا مع حاجة تونس الماسة أكثر من أي وقت مضى لجملة من الإصلاحات المؤسساتية الواسعة والجريئة لتفكيك منظومة الفساد والقمع والديكتاتورية المتجذرة داخل الدولة منذ عقود.
بالرغم من تقديم أكثر 65000 ملف لدى هيئة الحقيقة والكرامة من قبل ضحايا وعديد منظمات المجتمع المدني الذين ناضلوا ضد النظام السابق سعيا منهم لتحقيق العدالة وكشف الحقيقة والقطع مع ممارسات الماضي فإن المصادقة على مثل هذا المشروع يمثل اعتداء على مسار العدالة الانتقالية وبالتالي اعتداء على كل الشعب التونسي الذي فرض منذ جانفي 2011 تغييرات جذرية حضت بإعجاب دولي واسع. نيابة عن الشعب، يجب على النواب احترام ولايتهم وذلك برفضهم المصادقة على هذا القانون وإظهار إرادة حقيقية في مكافحة الإفلات من العقاب ودعم دولة القانون.
المنظمات الممضية
- عبد الرحمان الهذيلي: رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
- راضية النصراوي: رئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب
- أنس بن عبد الكريم: رئيسة بوصلة
- ناجي البغوري: رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين
- منية بن جميع: رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات
- وحيد الفرشيشي: رئيس جمعية الدفاع عن الحريات الفردية
- حسين بوشيبة: ريس جمعية كرامة
- سهام بوعزة: رئيسة الجمعية التونسية للحقوق والتنمية
- كمال حداد: رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الانسان
- فرح حشاد: رئيسة مخبر الديمقراطية
- شفيق بن روين: رئيس المرصد الاقتصادي التونسي
- أنطونيو ماغنيلا: مدير منظمة محامون بلا حدود بتونس
- غابريال ريتر: مديرة المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب بتونس
- رامي الصالحي: رئيس المكتب المغاربي للشبكة الارومتوسطية لحقوق الانسان
iThere are no comments
Add yours