يجب علينا الآن توجيه اهتمامنا صوب ظاهرة جديدة نسبيا٬ ألاوهي التلاعب على مستوى واسع بالأحداث والآراء٬ كما بدأ يظهر جليا من خلال الطريقة التي تعاد بها كتابة التاريخ ويتم خلق الصور حنة أرندت٬ السياسة والحقيقة
الموتى يمشون داخلنا
عندما يخبرك شخص ما٬ بكل ثقة أن وضع البلاد مستقر يجب أن لا تسيء به الظن ٬ لأن كلامه يحتمل بعض الصواب٬ فوضع البلاد مستقر في القاع لايتحرك. مثل أن تقول٬ إنه مستقر في قاع بئر يقلب الحجر ويبكي٬ منتظرا مرورأحدهم لإخراجه. لا أحد يمر٬ كل شيء مستقر في نظر المستقرين٬ مثلما أن كل شيء كلبي في نظر الكلاب. مادمنا أحياء فإن كل شيء حي في نظرنا. حتى الأموات يمشون داخلنا٬ لأن الرصاص لا يقتل الشهداء٬ لنعترف بصدق أننا تعبنا من رؤيتهم من الخلف٬ لأننا نسير خلفهم لا نرى سوى قفاهم..ليس الحق أو الباطل ما يدفعنا لعدم الكذب٬ إنه الضمير..كيف يمكننا الكذب على ذواتنا٬ إقناعها بأنها ليست نحن، أنها الآخر.
ماذا نسمي ذلك الذي يدفع الناس إلى الإعتقاد أن وضع البلاد مستقر ويسير نحو الأفضل. إنه يقوم بتضليل الناس. سواءا كانت نيته حسنة أو سيئة٬ فإن ما يريد أن يقنع به الناس لايتعدى كونه إفتراء. هؤلاء الرجال والنساء الذين رأيتهم يؤدون اليمين أمام الكاميرا ٬ نطقوا كلهم بكلمات جذابة٬ من قبيل: أن أتفانى٬ أن أقول الصدق٬ أن لاأخون الأمانة. سواءا كانوا صادقين أو كاذبين٬ حقيقيين أو مصطنعين٬ في ماقاموا به من قسم آنذاك٬ فإن الناس في أماكن أخرى٬ كانت تشرب وعودهم وتسكر. لاأحد منهم كان يعلم أن كل شيء لم يكن صادقا تماما٬ وفي نفس الوقت لم يكن كاذبا تماما. أن كل ما يحدث كان مجرد تخيلات.. التخيل ليس الكذب٬ إنه بالأحرى الكذب البريء..كيف نثبت أن كل هؤلاء كذبوا علينا٬ أن كل الوعود كانت إفتراء ؟ يمكننا فقط رؤية ظل هذا الكذب في الواقع٬ لأنه لاشيء واقعي مثل الظل: نعيش ظل الحرية٬ ظل العدالة٬ ظل الديمقراطية..تتحول الأشياء إلى مجرد ظلال٬ حياة الناس ظلال ..هذه ليست حياة٬ بل ظل حياة.
تاريخ خطأ
كنت جالسا في المقهى٬ عندما مر أمامي موكب ضخم٬ يتبعه أناس كثيرون٬ يرتدون لباسا موحدا وبملامح متشابهة. الموكب كان يحمل تمثالا من البرونز لرجل يشير بيده إلى جهة غير معلومة. إنها صورة تعود إلى خمسين سنة خلت. الرجل كان يشير إلى المستقبل آنذاك٬ أي الحاضر الآن ٬حاضرنا. درسنا أن الزمن هو الشيء الوحيد الذي لا يعود إلى الوراء٬ هنا كل الأشياء يعود إلى الوراء.
من أين يأتون بكل هؤلاء الأموات؟ تسألني بائعة الياسمين.
إنهم يعودون٬ ينامون في الساحات العامة٬ كل منهم يشير علينا أن نذهب في إتجاه. هذا الذي تراه أمامك الآن وهو يشير إلى الشمال٬ رأيته في مدينة أخرى يشير إلى الجنوب٬ يتغير الإتجاه بحسب المدينة٬ لذلك تسير كل مدينة في إتجاه٬ الناس يخرجون إلى الساحات مرددين: أتركوا لنا أصنامنا٬ الأموات ليسوا خرافة٬ تخبرنا مقدمة النشرة الجوية٬ أن الوقت للأسطورة.
لنتبع تعليمات السلامة
اللغة ماتت٬ المياه راكدة
الأصنام تلقي الخطب في المساجد٬ في الحانات وفي إجتماعات الشغالين
الجميع على مايرام
كل المدن عاهرة٬
لديها ألف شارع٬ لتدخل اللصوص إلى مخدعها
في التلفزيون٬ النقاش متواصل حول الرمزية والتاريخ٬ لكل رموزه التي يريد أن يحتل بها الفضاء العام والساحات.الكل في سباق التوظيف٬ توظيف التاريخ والأشخاص٬ تحريف الوقائع، ميؤوس منها هذه البرامج التلفزية التي تتناسل مثل الأرانب. إنها تسعى لتحويلنا إلى قطيع من الخنازير٬ يأكل من كل قمامة: هموم الناس٬ مآسيهم٬ غباءهم٬ حميميتهم٬ سطحيتهم..كل شيء ولا شيء. إنه العذاب بعينه حين تتحول تدريجيا إلى مجرد ظل لأفكار معلبة تعتمد التظليل وخداع الناس.
الأصوات النابعة من القلب
أرجو أن تصدقوني عندما أقول أني لاأكذب٬
هناك الكثير من الناس يعيشون الخصاصة والقمع. أناس لايملكون ثمن قهوة٬ القهوة الرخيصة٬ آلاف الشباب يدخنون السجائر الرخيصة المهربة٬ الناس لا يجدون ثمن هذه السجائر الكريهة..الناس تختنق٬ أنفاسها تضيق ولا تجد مكانا تخبئ فيه وجوهها المتعبة٬ مع مرور الزمن لاأحد يهتم للمستقبل٬ يقول لي شاب٬ كان جالسا إلى جانبي في الحافلة: الدرب ضاق ولم يعد يكفي لمرور تنهيدة٬ إني أصارع السحاب..لن أستسلم٬ ليس لأني لاأقبل الخسارة ولكن لأني أكره الهزيمة.
لاأحد ينصت إلى الأصوات النابعة من القلب٬ الأصوات الضعيفة تردد: لاتصالح مع اللصوص٬ لانريد أن نغض الطرف٬ لا نريد أن نغمض أعيننا عن الكذب والتضليل٬ ماذا وقع قبل الاستقلال ٬ ألم يعش أجدادنا المرارة تحت إستبداد المستعمر؟ لاأحد إعتذر لنا عن شيء٬ ياللوقاحة حين غادروا تركوا لنا ورقة كتب فيها: لم تكونو في مستوى العبودية التي أردناها لكم. لاتقولوا كان إحتلالا٬ قولوا كان تعاقب حضارات.
في الغرفة المغلقة يجتمع أناس بلا قلب٬ يشير عليهم أحدهم: يجب خوض المعركة بالسلاح الجديد٬ لنغير اللغة٬ نستعمل كلمات مغرية مثل: المصالحة. لم يقل الإعتذار أو العفو. قال المصالحة. إنها تفترض وجود طرفي نزاع. ظالم ومظلوم٬ جلاد ومظطهد. يطلب من المظطهد أن يقبل يد الجلاد فيرفض. يرتاح ضمير الجلاد ويقول: إنهم لايريدون خيرا للفقراء والمخذولين. ضميري مرتاح٬ كان عليهم أن يقبلوا بالشروط. لنبدأ في تقسيم الكنز.
العملة الزائفة
لجلب السياح خصصت مبالغ مالية كبيرة للقيام بحملة إشهارية واسعة٬ كان الهدف منها إقناع الأوروبيين بالمجيء إلى تونس لقضاء الصيف. هناك ومضة إشهارية تظهر مناظر طبيعية لجبال وهضاب وبحار ومعالم أثرية٬ لاشيء حميمي٬ المكلفون بتحسين صورة السياحة التونسية يجوبون العواصم الأوروبية٬ يقومون بتوظيف كل شيء لجلب السياح٬ يخترعون روايات خيالية عن النعيم الموجود. مرددين أن البلد آمن وأن الإرهاب لاوجود له٬ في نفس اليوم كانت عناوين الصحف التونسية الناطقة بالعربية كالآتي: وزارة الداخلية تحذر من عمليات إرهابية محتملة٬ نقابة الأمن تطالب بالزيادة في الأجور وتحسين الوضع المادي لأعوان الشرطة٬ نظرا للخطر الإرهابي الذي يهدد البلاد.. في برنامج تلفزي أوروبي٬ يجيب أحد الوزراء عن سؤال الصحفي عن الإرهاب فيقول: نطلب من العالم مساعدتنا للتصدي لهذه الظاهرة٬ ونطلب من السياح الأوروبيين المجيء لتونس. سأله الصحفي : كيف تقول هذا٬ هل تريد أن يأتي الناس ليموتوا.. أين يجب أن نقف كمواطنين من كل هذا. كيف يثق بنا الآخرون ونحن نخفي عنهم الحقيقة التي يعرفونها.؟ إلى متى نعطي معلومات مظللة وصورة خاطئة؟ لماذا علينا أن نحمل على عاتقنا إقناع الآخرين بما لسنا مقتنعين به. ؟ طيلة سنوات حكم الدكتاتورية كانوا يرددون علي مسامعنا٬ عبر كل الوسائل المتاحة لديهم٬ الشعارات التالية: تونس بلد الفرح الدائم٬ إبتسم أنت في تونس.. من البديهي الحكم على هذا القول بالكذب والتضليل٬ لأنه لافرح دائم مثلما أنه لاكذب دائم..من سوق لكل هذه المغالطات٬ من قال أننا شعب مضياف وبشوش٬ ألم يقل إبن خلدون قبل قرون: إذا دخلت إفريقية٬ نافق أو وافق أو غادر البلاد.
أينما مررت هناك رائحة كريهة. هناك شيء متعفن ويصدر رائحة كريهة٬ حوله يتجمع الذباب ثم تأتي باقي الحشرات تقتات من العفن٬ يتكون من العفن دود بألوان صدأة٫ يكبر ويتكاثر..الدود مقزز٬ يزحف في كل مكان. الناس ليسوا بهذا الغباء لتقنعوهم أن هذا الدود يقتات من العسل وسيتحول لفراشات.
بحثنا عن العدو فوجدنا أنه نحن
في الحدود البرية الفاصلة بين تونس وليبيا٬ تبنى الخنادق والجدران٬ للتصدي لهجمات إرهابية محتملة٬ للقضاء على ظاهرة التهريب٬هذا كل ما أخبرونا به.
متى نبني الجسور عوض الجدران؟ يتساءل البدوي٬ هل الصورة تخدعنا أم الريح؟
لماذا تريد أن تعرف أكثر؟ ألم تشاهد الصور التي تعرض في التلفزيون . بلى! رأيت ولكنهم يكثرون من شهود العيان حتى لم يعد يخلو تقرير أو ريبورتاج منهم. في المحكمة يؤدي الشاهد القسم٬ ويعاقب إذا ثبت أن شهادته مزورة٫ ماذا يحدث في التلفزيون إذا كان الشاهد يزور الحقائق أو يقوم بالتظليل.لاشيء
في مقاطع الفيديو التي نشاهدها يوميا في مواقع الأنترنات٬ نرى موظفي الدولة يقبضون الرشاوي٬ الكل يعلم أن الفساد أصبح في كل مكان٬ هائل لدرجة أنك تستطيع لمسه بيدك ٬ المدن تعج بالمتسولين٬ السلطة تزرع جلاديها في كل مكان٬ مثقفي السلطة في مكبات الفضلات.الواقع لاينتج سوى المجانين.بناء السجون يتقدم بخطى حثيثة٬ قريبا سجن في كل حي. رجل يائس يلعق الإسفلت٬ أمرأة بائسة تلعق الطريق المليء بالسكارى..الرجال يتكدسون في الحانة المتسخة يتابعون سباقات الخيول٬ جميعمهم خسروا..سائق التاكسي يستمع إلى أغنية وطنية في الراديو٬ يتثاءب وهو ينتظر أمام كباريه. في الداخل٬ راقصة في الخمسين من عمرها٬ جسدها متعب٬ أشبه بساحة حرب قتل فوقها عشرات الغزاة. المستشفى مكتظ٬ الناس يتكدسون في الممرات٬ الكلمات تسقط في القاعة. يحدث أن تسقط الكلمات٬ لامعنى للألم. الصمت ثقيل ومر٬العيون مرهقة٬ رجل يمسك رأسه بين يديه: ماذا أفعل بالموت؟ حبيبتي غادرت الحياة٬ لاأعرف ماذا علي فعله. سأواعدها في نفس المكان وأخبرها بموتها ولتفعل ماتريد. ماذا قلت لها؟ ماذا كانت آخر كلمة:أحبك.
iThere are no comments
Add yours