الهياكل المعنية بالتراث: ضخامة الجسم البيروقراطي وضعف الفاعلية
يعاني قطاع التراث من ضعف شديد في مستوى هيكلة المؤسّسات الخاصة به فضلا عن تشعّبها، وهو ما يربك تدخّلها ويقلّص من نجاعتها. ففي صلب وزارة الإشراف نجد هيكلين إداريين متداخلين في مستوى الكثير من المهام، وهما الإدارة العامة للتراث وإدارة الهندسة المعمارية والحرف. هذا إلى جانب مصلحة الحرف والفنون والحفاظ على الذاكرة المحلية المتواجدة في هيكلة المندوبيات الجهوية للثقافة. وفي مقابل ذلك نجد مؤسّستين مختصّتين في شؤون التراث وراجعتين بالنظر لوزارة الثقافة وتتمتّعتان بالإستقلالية الإدارية والمالية عنها. والمضحك المبكي في ذلك هو أنّ انتفاخ هيكلة هذه الإدارات والمؤسّسات، وخاصة تلك التي في صلب الوزارة يقابله هزال في مستوى الكادر الإداري والعلمي الذي يشغلها؛ بسبب الشغورات الحاصلة في جلّ إداراتها ومصالحها، هذا عدا عن نقص المختصين.
ولأنّ المثال أهم مدخل لإيضاح الحال، فإننا سنقوم بعرض المهام التي يوكلها القانون إلى تلك الإدارات والمؤسّسات.
تتمثّل المهام الموكلة إلى إدارة الهندسة المعمارية والحرف، والتي يضبطها الأمر عدد 1819 لسنة 2003 مؤرخ في 25 أوت 2003، في:
- ضبط استراتيجيات وبرامج لتثمين جودة الهندسة المعمارية وجمالية المدن والعمل على تنفيذها بالتعاون مع الهياكل المعنية.
- التعريف بالتراث المعماري والسهر على نشر الثقافة المعمارية بالتعاون مع الهياكل المعنية.
- المساهمة في النهوض بالحرف المتّصلة بالهندسة المعمارية والتراث.
وفي ذات الوقت تكلّف الإدارة العامة للتراث، بحسب الأمر عدد1885 لسنة 2012 مؤرّخ في 11 سبتمبر 2012، بالمهام التالية:
- إعداد التصورات المتعلقة بالتوجهات الإستراتيجية في ميدان التراث ومتابعة تنفيذها
بالتنسيق والتعاون مع المؤسسات والهياكل العاملة في ميدان التراث. - تقديم المقترحات الرامية إلى تطوير منظومة التصرف في التراث الوطني وإضفاء النجاعة المطلوبة عليها بالتعاون والتنسيق مع الهياكل المعنية.
- متابعة البرامج والمشاريع والمخططات الرامية إلى تأمين حماية التراث الوطني المادي وغير المادي والمحافظة عليه وتثمينه وتوظيفه في خدمة أهداف التنمية المستدامة في أبعادها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع المؤسسات المعنية.
- متابعة المؤسسات العاملة في ميدان التراث والخاضعة لإشراف وزارة الثقافة وتأمين التنسيق بينها.
- العمل على تطوير برامج الشراكة مع الجمعيات العاملة في ميدان التراث ودفع الاستثمار الخاص في مجال التراث والنهوض بالسياحة الثقافية بالتعاون والتنسيق مع الهياكل المعنية.
- العمل على تطوير علاقات التعاون والشراكة في مجال التراث، وطنيا ودوليا، وذلك بالتنسيق مع الهياكل المعنية.
وحسب الأمر عدد 1440 لسنة 2013 المؤرخ في 22 أفريل 2013 المتعلّق بضبط التنظيم الإداري والمالي وطرق تسيير المندوبيات الجهوية للثقافة، تساعد المندوب الجهوي لجنة استشارية للثقافة تُعهد إليها مهمّة إبداء الرأي في سبل إحكام حماية التراث بالولاية وتثمينه والنهوض بالسياحة الثقافية. ونصّ ذات الأمر على وجود مصلحة للحرف والفنون والحفاظ على الذاكرة المحلية في صلب المندوبية، تُعهد إليها هذه المهام:
- متابعة البرامج والمشاريع الرامية إلى الحفاظ على الذاكرة المحلية وتثمينها والعمل على حسن تنفيذ البرامج والمشاريع المذكورة بالتنسيق مع الهياكل المعنية.
- العمل على النهوض بالحرف المتصلة بالتراث وتقديم المقترحات والتصورات الرامية إلى التعريف بها وتشجيع الشبان على الإقبال عليها.
- متابعة البرامج والمشاريع الرامية إلى النهوض بالسياحة الثقافية والعمل على حسن تنفيذها بالتنسيق مع الهياكل المعنية.
وبالتوازي مع هذه الإدارات التابعة مباشرة للوزارة، نجد إدارتين أخريين تتمتّعان بالشخصية المدنية وبالإستقلال المالي وتقعان تحت إشرافها، وهما المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية.
وقد جاء في الأمر عدد 1609 لسنة 1993 المؤرّخ في 26 جويلية 1993 والمنظم للمعهد الوطني للتراث، باعتباره مؤسّسة علمية وفنية تقوم بإحصاء التراث الثقافي والأثري والتاريخي والحضاري والفني وصيانته وإبرازه والتعريف به. ويضطلع المعهد خاصة بـ:
- المحافظة على المعالم التاريخية وترميمها وصيانة المواقع الأثرية والمجموعات العمرانية التاريخية والتقليدية.
- تنظيم ومباشرة البحث والتنقيب والاستكشاف في ميادين التراث الأثري والتاريخي والحضاري عبر مختلف العصور.
- جمع التراث التقليدي والفنون الشعبية وإبراز قيمتها الحضارية وتسجيلها ودراستها وعرضها.
- إجراء جميع أعمال البحث والصيانة والمحافظة والترميم والعرض للوثائق ذات القيمة التاريخية والحضارية والعلمية والفنية كـالمخطوطات والمطبوعات والوثائق السمعية والبصرية مهما كانت وسائل تسجيلها والأعمال الفنية مهما كانت مواد وتقنيات صنعها من فنون تشكيلية وأثاث وما إليها.
- إعداد المتاحف وحماية مجموعاتها وتطوير أساليب عرضها.
- نشر الدراسات العلمية والتثقيفية وتوزيعها.
- المساهمة في إحياء التراث وتنشيطه وترويجه عبر جميع الوسائل السمعية البصرية والمكتوبة وذلك بتنظيم المعارض والمؤتمرات والملتقيات على المستويين الوطني والدولي.
- تكوين الإطارات ورسكلتهم وتدريبهم على مختلف القطاعات العلمية والتقنية والفنية.
هذا بينما نصّ الأمر عدد 11 لسنة 1988 المؤرخ في 25 فيفري من السنة ذاتها والذي تمّ تنقيحه بمقتضى الأمر عدد 16 لسنة 1997 المؤرّخ في 3 مارس 1997 على أنّ مهمّة الوكالة تتمثّل في تنفيذ سياسة الدولة في مختلف المجالات الثقافية وخاصة منها المتّصلة بإحياء التراث الأثري والتاريخي والتّصرّف فيه وتنمية الإبداع الفكري والأدبي والفني ولهذا الغرض كُلفت خاصّة بـ:
- العمل على التعريف بالإنتاج الثقافي الوطني بجميع تعبيراته وترويجه وتوزيعه وطنيا ودوليا.
- تحقيق وتنفيذ برامج إحياء التراث الأثري.
- إعداد وتنفيذ البرامج الثقافية وتنظيم التظاهرات بالتعاون مع مختلف الإدارات والمؤسسات والهيئات والجمعيات المعنية.
- منح التراخيص اللازمة لتنظيم البرامج والتظاهرات ذات الصبغة الترفيهية أو التجارية بالمواقع والمعالم التاريخية بعد موافقة سلطة الإشراف.
- المساهمة في تطوير السياحة الثقافية بالتعاون والتنسيق مع مختلف المؤسسات المعنية.
- العمل على الاستثمار وتبني المشاريع الثقافية والمساعدة على بعث الصناعات الثقافية.
هكذا ومن خلال هذا العرض لمختلف المهام المتعلّقة بالإدارات والمؤسّسات المختصّة والمعنية بالتراث يبرز التداخل والضبابية بجلاء. وإذا أضفنا لها التّعقيدات المتّصلة بهيكلتها وعدم استجابتها إلى الحدّ الأدنى من متطلّبات هذا القطاع، فضلا عن نقص الإمكانيات من حيث الموارد اللوجستية والمادية والكفاءات الإدارية والعلمية، تبدّت لنا الأسباب التي تقف وراء الوضع البالغ السوء لقطاع التراث في بلادنا.
المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية: توأم سيامي عبء على التراث
كلّما كان هنالك حديث عن قطاع التراث، لا يكاد يُذكر المعهد إلاّ وذُكرت الوكالة، والعكس بالعكس، حتى أنّ الكثير من الناس يخلط بينهما أو يعتبرونهما هيكلا واحدا. وبقدر ما يوحي الأمرين المنظمين لهما من تخصّص كل منهما في جانب ما من خدمة التراث، إلاّ أنّ التّمعّن فيهما بعمق والتقاط تفاصيل أنشطة كلا المؤسستين يُظهر التّداخل والضّبابية في مهامّهما. والمعروف أنّ ذلك التّداخل وتلك الضّبابية يؤثّران سلبا على أنشطتهما، وهو ما يجعلنا نتساءل حول وجاهة الإبقاء على الفصل بينهما.
ولعلّ طرح بعض الأسئلة المستوحاة من مهام المعهد كما حدّدها القانون المنظم له يجعلنا ندرك عمق الفجوة بين الموجود والمنشود. من ذلك، التساؤل عمّا قامت به دائرة صيانة المعالم والمواقع طيلة السنوات السّتّ الفائتة في موضوع المحافظة على معالمنا ومواقعنا ومجموعاتنا التاريخية، وأيضا ما ناله هذا الرصيد التراثي من مشاريع الترميم والصيانة، عددا وحجما. وكذلك نسبة الحالات التي تمّ فيها التصدّي للإعتداءات التي مسّت ذلك التراث من بين مجموع الإعتداءات! فضلا عن موضوع تحديد وترتيب وحماية المواقع والمعالم – مع العلم أنّ عدد المعالم المرتّبة في الفترة الإستعمارية يصل إلى عدّة أضعاف ما رُتّب منذ الإستقلال، علاوة على أنّ أغلب تلك المعالم لم يعاد النظر في وضعيتها بعد الإستقلال، ولربما اندثر بعضها. وهو ما يستوجب تحيين قائمة المعالم المرتّبة والمحمية دون أي تأخير. كما يجدر التساؤل أيضا عن الأبحاث التي أجريت في ميادين التراث الأثري والتاريخي والحضاري عبر مختلف العصور، وعن نسبة التقدّم في إنجاز مشروع الخارطة الوطنية للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية الذي ما زال يراوح مكانه. أليس الجرد والتوثيق حجر الزاوية في المحافظة على التراث وتثمينه؟! وكذا الأمر بالنسبة إلى حصيلة ما أُنجز في ميدان ”التراث التقليدي“، جمعا ودراسة وعرضا. وما أنجزه المعهد بخصوص أعمال البحث والصيانة والمحافظة والترميم وعرض الوثائق ذات القيمة التاريخية والحضارية والعلمية والفنية مثل المخطوطات والوثائق السمعية والبصرية والأعمال الفنية بمحاملها المختلفة. وذات الأمر بالنسبة إلى حصيلة أعمال دائرة التنمية المتحفية، باستثناء إنجاز بضعة مشاريع تعتريها نقائص عديدة، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن إمكانية امتلاكها استرتيجية عمل فعلية للتنمية المتحفية. وعمّا تحقّق في باب البحث العلمي وعن إنجازات إدارة البرمجة والتعاون والنشر والتكوين في ما يسنده لها القانون من مهام، على غرار مجال تكوين ورسكلة وتدريب الإطارات.
أي مآل انتهت إليه آلاف التقارير حول الإعتداءات التي طالت تراثنا الوطني؟!
وماذا كان مصير الملاحظات والتوصيات التي جاءت في التقرير عدد 28 لدائرة المحاسبات العمومية الصادر سنة 2013 والذي غطّى الفترة الممتدّة من سنة 2009 إلى سنة 2012؟! وهل حوسِب من اقترف تجاوزات وحُقّق في شبهات الفساد؟! في واقع الأمر نحن نعلم أنه لم يحصل من ذلك إلاّ القليل القليل، بل تواصلت الكثير من الإخلالات التي وقف عليها ذلك التقرير ولربّما انضافت لها أشكال أخرى من التجاوزات قد لا تقلّ خطورة عن السابق.
عشرات الأسئلة الرئيسية – لا الفرعية تجول بخاطرنا حتى تكاد تصيبنا بالدّوّار، دون أن نظفر لها بإجابة مقنعة. إلى درجة أنّنا لا نكاد نذكر جانبا واحدا شهد تحسّنا في المعهد الوطني للتراث في السنوات الأخيرة. فالسّمة الطاغية هي التقهقر، والسلوك السائد هو التلفيق. وهذا ما انعكس على أوضاع تراثنا الوطني في مختلف أصنافه وأوجهه، الشيء الذي جعله عرضة للتّعديات والتخريب والضياع. ورغم أنّ ذلك ناجم، في جزء منه، عن تقصير، أو سوء تقدير، بعض الموظفين والمسؤولين، ولكن، بالتأكيد، أنّ الجانب الأكبر من تلك الأوضاع يعود إلى المعوّقات الهيكلية والإدارية والإجراءات الجامدة والتشريعات المتقادمة، فضلا عن تواضع الإمكانات المالية وقلّة الخبرات العلمية.
أمّا بالنسبة إلى وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية فوضعها لا يقلّ سوءا عن وضع المعهد الوطني للتراث. ويمكن أن نستنتج ذلك من خلال رصد ”إنجازاتها“ في السنوات الأخيرة في المجالات التي نصّ عليها القانون المنظّم لها، ومن ذلك حصيلة ما قامت به من أنشطة للتعريف بالإنتاج الثقافي الوطني بجميع تعبيراته وترويجه وتوزيعه وطنيا ودوليا، وعدد برامج إحياء المعالم والمواقع والمتاحف، ومساهمتها في تطوير السياحة الثقافية والإستثمار والمساعدة على بعث الصناعات الثقافية.
وفي المقابل فإنّ وزارة الإشراف تغمض عينيها عن كل شيء، وتكتفي ببعض ”الرتوش“ البسيطة لاستغلالها في إطار الدعاية للوزير الذي يتولاّها، ولإيهام الرأي العام بأنّ هنالك تقدّم في صون وتثمين التراث. فحتى مطلب إعادة هيكلة المؤسّستين الرئيسيتين العاملتين في قطاع التراث (المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية) والذي لطالما اعتبرناه في طليعة الأولويات بحكم أنّ علّة الكثير من المشاكل هي الهيكلة المختلّة لهاتين المؤسّستين ظلّ معلّقا طيلة السنوات الماضية. علما أنّ ما تطرحه الهيكلة الحالية للمعهد والوكالة من إشكالات كانت قد تعرّضت إحدى الدراسات الرسمية التي أنجزت في الغرض سنة 2002 لبعضها وخلصت إلى توصيات كان مآلها التجاهل. ولمّا تواضعت وزارتنا الموقّرة وقرّرت فتح هذا الملف، جاء قرارها مرتجلا. بينما كان عليها أن تبادر بتنظيم يوم دراسي – بل أيام دراسية للبحث في إشكالات هذا القطاع الحيوي، ومن ذلك هيكلة مؤسّساته، والنظر في مسألة دمج المؤسستين المذكورتين (المعهد والوكالة)، ولها أن تقرّر بعد ذلك ما تراه مناسبا، حسب ما تقتضيه النجاعة والجدوى.
أليس من المجحف أن يستمر حال التداخل والتضارب وتواضع مستوى نجاعة تدخّل هاتين المؤسّستين؟ أليس من المريب غياب متابعة إشكالات تخريب المواقع ونهب الآثار، واجتراح حلول جدية، وضبط سياسة متحفية رصينة تتصدّى لحالة التلكؤ والعجز التي تَسِم الوضع المتحفي بصفة عامة، ومن الأمثلة على ذلك متحف المكنين ومتحف كسرى ومشاريع متاحف سليانة وسيدي بوزيد ومتحف الفن الحديث والمعاصر بالقصر السعيد ومتحف موقع حيدرة وغيرها؟
أليس من المحزن أن يستمر تعامل الوزارة مع موضوع صون تراثنا الثقافي اللاّمادي على نحو مرتبك وعلى غير منهج، بما يخالف منطوق اتفاقية اليونسكو لصونه، والتي صادقت عليها بلادنا سنة 2006؟ بل نجدها في كل مناسبة تتعاطى معه كموضوع دعاية لا غير.*
ويجدر القول أيضا أنّه من المعيب أن يستمرّ حال التّمييز في الأجور والحوافز وفي ظروف العمل وغيرها من الحقوق المهنية والإجتماعية ضدّ أعوان وموظفي المعهد الوطني للتراث، وهم الذين يقع على عاتقهم الجهد الأكبر والمسؤولية الأعظم في حماية تراثنا وصونه. أليس من حقّ أولئك الأعوان والموظفين أن يخرجوا من وضع ”عسكر زواوة“ المهين ويكونوا على ذات الدرجة أسوة بزملائهم في الوكالة؟ ألا يُدخل ذلك الغبن في نفوسهم الشكّ والريبة ويؤثّر على مستوى عملهم والتزامهم المهني؟!
أليس من المسيء أن تُسنَد مهمة إعادة هيكلة تلك المؤسّستين إلى مكاتب دراسات بمبالغ مالية هامة (وافقت اللجنة الوزارية لمراقبة الصفقات العمومية بوزارة الإشراف في المدة الأخيرة على اختيار مكتب دراسات لتكليفه بإعادة هيكلة المعهد بمبلغ قدره 190400د)، في حين أنّه كان بإمكان وزارة الإشراف أن تقوم بذلك بنفسها وبالمساعدة والتشاور مع المختصين وممثلي أعوانهما؟ سيما وأنّ هناك مقترحات ومشاريع في الغرض كانت قد قُدِّمت إلى الوزارة منذ سنة 2012 ولكنها ظلّت حبيسة أدراج المسؤولين، هذا فضلا عن الإستئناس بالتوصيات الواردة في بعض الدراسات والتقارير الرسمية على غرار تقارير دائرة المحاسبات العمومية وغيرها.
تشريعات حماية التراث: ثقوب وتجاويف تنتظر العلاج
رغم قناعة كل الإطارات المشتغلة في قطاع التراث بهزال المنظومة التشريعية الخاصة به وتخلّفها، من خلال معايناتهم ومعاناتهم اليومية بسبب ذلك، ورغم اطّلاع المسؤولين المتداولين على وزارة الإشراف على هذه الحقيقة، والإشارة إليها بوضوح في المخطّط الثاني عشر 2010-2014 الصادر عن وزارة التنمية والتعاون الدولي (المخطّط الثاني عشر للتنمية 2010-2014، المجلد الثاني، ص359)، رغم ذلك لم تبادر وزارة الثقافة إلى التعاطي الجدّي مع هذا الموضوع الحسّاس. ونحن لا نستطيع أن نفسّر ذلك إلاّ بصفته ناجم عن تهاون واضح، خاصة وأنّ القاصي والداني يعرفون أنّ ضعف الإطار التشريعي هو المدخل الأساس لمختلف أسباب القصور والفساد. فهل من المعقول الإبقاء على العمل بقوانين ثبت قصورها؟
ولئن حاول المرسوم عدد 43 لسنة 2011 مؤرخ في 25 ماي 2011 تنقيح وإتمام مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية، خاصة فيما يتعلّق بتشديد العقوبات على المخالفين، إلاّ أنّ العديد من المسائل المتعلقة بحماية التراث مازالت في حاجة إلى نظر وتدقيق. هذا إلى جانب التنقيحات المتوجّبة بالنسبة للتراث الثقافي اللامادي، نظرا لأنّ بلادنا صادقت على اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي اللامادي لسنة 2003 خلال الجلسة البرلمانية المنعقدة بتاريخ 02 ماي 2006. ومنذ ذلك التاريخ لم تقم الوزارة بتوفير الإطار القانوني لحمايته، علاوة على الهيكلة الإدارية وتوفير الإمكانيات المالية واللوجستية اللازمة لصونه.
فلماذا نواصل العمل بقانون يعود تاريخه إلى سنة 1994 لحماية تراثنا رغم أنه صار متَجاوَزا مفاهيميا وإجرائيا وعلى كل المستويات؟!
وما يحيّر أكثر هو أنّ حتى هذا القانون، على علاّته، تقف أمامه إشكالات أخرى تحول دون تطبيقه. من ذلك أنّ الأمر المنظم للمعهد الوطني للتراث يوكل إلى المدير العام تمثيل المعهد في جميع الأعمال المدنية والإدارية والعدلية وهو ما يجعل كل التقارير المتعلّقة بالتجاوزات ضد التراث توجّه في النهاية إلى المدير العام، وهو بدوره يحيلها إلى مصلحة الشؤون القانونية والنزاعات لتنظر فيها، وفي ضوئها تُرفع دعوى إلى المكلّف العام بنزاعات الدولة لتتبّع المخالفين. إلاّ أنّ تجربتنا المهنية على مدى حوالي خمس سنوات في ولاية القصرين لم تسعفنا إلاّ بحالة واحدة وقع فيها تتبّع المعتدي وإحالته إلى القضاء، رغم إرسالنا لعشرات التقارير حول اعتداءات بالغة الخطورة طالت الملك العمومي الأثري من طرف جهات معلومة (الأمر لا يتعلّق بالحفريات العشوائية في المناطق النائية التي لا يُعرف من قام بها)! وهذا ما يؤكّد بصفة قطعية فساد إجراءات تتبّع المخالفين، وهو ما يفرض إعادة النظر بصفة جذرية في تلك الإجراءات.
والإشكال الآخر هو العدد القليل جدّا من المختصين الحاملين لصفة الضّابطة العدلية من بين العاملين في المعهد الوطني للتراث، وهو ما يجعل معاينة المخالفات في أغلب الأحيان تتمّ عن طريق أعوان غير مخوّلين قانونيا لذلك. فالفصل 86 من مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية ينصّ على أنّ معاينة المخالفات المنصوص عليها في هذه المجلة يقوم بها ”كلّ من أعوان الضابطة العدلية وأعوان الولايات أوالبلديات المكلفين بمراقبة التراتيب والأعوان المؤهلين من طرف الوزير المكلف بالثقافة من بين أعوان التفقّد المختصّين في التراث والتابعين للإدارة المكلفة بالتراث والمحلّفين للغرض طبقا للتشريع الجاري به العمل وكذلك الأعوان المؤهلين من طرف الوزير المكلف بالتعمير من بين سلك مهندسي وفنيي الإدارة“. وهذا ما يساهم، إلى جانب ما ذُكر آنفا، في ضعف نجاعة التدخّل لمجابهة التجاوزات في حقّ التراث.
لقد عملنا في هذا المقال على رصد بعض الإشكالات العامة حول قطاع التراث، دون أن ندّعي الإحاطة بكل تفاصيلها. وهو أمر نبّهنا إلى خطورته في عديد المناسبات، قناعة منّا بأنّ التراث يمثّل رصيدا حضاريا يتوجّب صونه وتثمينه، أولا لأنّ لا مندوحة عنه في أي مقاربة تستهدف تعزيز الأمن الثقافي ومن أجل بناء هوية وطنية متطلّعة نحو المستقبل، وثانيا لأنه يمكن توظيفه ليكون رافدا اقتصاديا ذو قيمة مضافة يسهم في وضع أسس تنمية مستدامة.
هي كلمة حقّ وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح ستذهب غداً بالأوتاد.عبد الرحمان الكواكبي
هوامش
* راجع حول هذا الموضوع مقالنا الموسوم بـ قطاع التّراث بين الحاجات المؤجّلة والقرارات المرتجلة: التّراث الثّقافي اللاّمادّي نموذجا المنشور في الموقع الإلكتروني نواة.
iThere are no comments
Add yours