أسس تنصيص الدستور على تعريف تونس بأنها دولة دينها الإسلام و تأكيد الأغلبية الساحقة من التونسيين والتونسيات على انتمائهم الديني والثقافي للمذهب السني المالكي لثقافة التماهي بين الديني و الوطني مما همش دور وحق اقليات دينية أخرى كالمسيحية أو اليهودية في المشاركة السياسية و الثقافية و الإعلامية. في طرحي لمسألة الهوية التونسية و تمازجها بالدين الإسلامي هو دعوة إلى نقد هذا الإرتباط على أنه هوية قاتلة1أدت بشكل مباشر أو غير مباشر إلى بروز تجارب متطرفة دينيا و إقصائية إجتماعيا وثقافيا.
دعونا نقولها بصراحة: لسنا كلنا بمسلمين أو مسلمات. غير أن سياسات و توجهات ثقافية كرست لتطابق ماهية الوطن بالدين الإسلامي بشكل أقصى التونسيين المنتمين إلى ديانات أخرى. طبعا تبرز الإحصائيات الرسمية بأن 99% من التونسيين يأكدون انتمائهم إلى الدين الإسلامي بمذاهبه المالكية والحنفية في حين تشير شتات المعلومات، وهو في حد ذاته أمر اقصائي عدائي غامض، إلى وجود ما يقارب ال 25000 تونسي من المنتمين إلى الدين المسيحي و حوالي 1500 تونسي يهوديي الدين2. إلى حد يومنا هذا لا توجد معلومات دقيقة و محينة حول نسبة المنتمين لهاته الأقليات الدينية فقد خلى الإحصاء الرسمي لسنة 2014 من أين معطيات حول التركيبة الدينية للشعب التونسي (في حين تكثر الأرقام حول من يملك سيارة خاصة أو عدد الغرف)3 فيضطر كل باحث عن هذه المؤشرات إلى مراجعة تقرير بسيط حول الحريات الدينية لوزارة الشؤون الخارجية الأمريكية صدر في سنة 2008 (2009 بالنسبة للنسخة العربية)4 و هذا من المضحكات المبكيات.
هذا التركيز على شمولية الإسلام، كدين ودولة، المقصي للأقليات الغير الإسلامية هو، مرة أخرى، نتاج لتوجه سياسي وثقافي ممنهج. عديدة هي الشواهد والوقائع التي أسست ومازالت لهذا التماهي بين الوطن و الدولة و الإسلام. هناك حدث مهم جدا في تاريخ مقاومة الإستعمار في تونس كان قد أسس لهاته الشمولية فرغم إنتصار المجاهد الأكبر لفكرة العلمانية في بناء الدولة الحديثة بعد الإستقلال (وكان سببا من أسباب القطيعة بينه و بين صالح بن يوسف المنتصر للمرجعيات العربية الإسلامية) فإن دستور الجمهورية التونسية الأولى أكد في فصله الأول على إسلام الدولة و كان ذلك خيارا مفصليا أدى بشكل مباشر إلى صعود تيارات دينية كالنهضة سعت إلى ترسيخ شمولية إسلام الدولة مدنيا وسياسيا. كذلك غلب فهم بورقيبة المتذبذب لثنائية الدين والدولة على تصوره لمكانة الإسلام داخل المجتمع التونسي من جهة و أهمية الأقليات الدينية من جهة أخرى بشكل مثل خارطة طريق إستعان بها من جاؤوا بعده.
هذا التذبذب البورقيبي إكتسب أشكال عديدة لكن يبقى ابرزها هو تعاليم غض النظر ( شبيهة ب-“don’t ask don’t tell” لكن تجاه الحركات الدينية) والتوظيف السياسي. فكما أشار أحمد نظيف في مقال بعنوان ”بهائيو تونس: البحث عن الاعتراف المفقود“ : 5
لم تمنح السلطات الجديدة ترخيصاً قانونياً للنشاط البهائي، لكنها في المقابل لم تغلق المركز البهائي العام في العاصمة
هذه الإزدواجية غلبت على علاقة الحكومات المتعاقبة بالأقليات الدينية بشكل اقصاها و أنزلها إلى منزلة السرية وعدم الشرعية.
من جهة أخرى، إقتصر القبول بالتنوع الديني في تونس بالإحتفال الرسمي الباهت باليهودية خاصة خلال موسم حج اليهود إلى كنيس الغريبة حيث يقتصر الإهتمام السياسي (الرئاسي خصوصا) و الإعلامي على المجهودات الأمنية لتوفير ”ظروف النجاح“ بهدف الإستعمال السياسي لدى الرأي العام الخارجي. فقد طبع إهتمام نظام بن علي أو حكومات مابعد الثورة بالأقليات المسيحية واليهودية بطابع مناسباتي أكثر منه سياسي إيجابي حيث يغيب السعي الجاد للنهوض بحال التونسيين المسيحيين و اليهود خارج هذه المناسبات الرسمية. ليس هناك مشهد أكثر تعبيرا عن قتامة أوضاع المسيحية أو اليهودية في تونس سوى حال كاتدرائية القديس فنسون دو بول بتونس العاصمة أو المقبرة اليهودية بسوسة فظلت الأولى مغلقة لأسباب أمنية أما الثانية فقد تحولت إلى مزبلة.
ما يجب التأكيد عليه هنا أن الإختيارات السياسية الرسمية في تونس هي السبب الأساسي لسوء أوضاع الأقليات الدينية. فمثلا أرى أن التعاطي الرسمي لحكومة السبسي الحالية مع التنوع الديني مازال يكرس هذا الإقصاء السياسي. ففي اللجوء لأحادية الخيار الأمني خلال التعامل مع الإحتفالات اليهودية مثلا هو تأكيد لموقف شاذ و دال بشكل صريح على تطرف المجتمع التونسي و قبوله بإقصاء الأقليات الدينية. هذا الموقف الرسمي من موسم الحج لكنيس الغريبة رسخ لقبول الكثير ببداهة التكثيف الأمني المقترن بموسم الحج السنوي ليهود تونس و لغيرهم بما فيه من تأكيد لفكرة إرتباط الإنتماء الديني بالإسلام وحده بشكل جعل أي تعبير ديني آخر حدثا أمنيا بالأساس.
إختزال التعاطي السياسي مع الأقليات الدينية في تونس في شكله الأمني أنتج إهتماما ثقافيا و إعلاميا محدودا بالأقليات المسيحية أو اليهودية. فكما ينعدم التمثيل السياسي لمسيحيي و يهود تونس في حكومة السبسي أو داخل الأحزاب السياسية بتنوعها فإن الحضور الإعلامي والثقافي للمتنمين لهذه الأقليات الدينية لا يتجاوز نسبة الصفر. فلا نجد مثلا مقدمي برامج تلفزية مسيحيين حتى بعد الإنفجار الإعلامي بعد الثورة أو موسيقيين و أدباء يهود تونس على الساحة الثقافية العامة وإن وجدووا على غرار حبيبة مسيكة أو شيخ العفريت فسيقع تغيب الإشارة إلى يهوديتهم.6
يبدو لي إستنتاجا بديهيا بأن إنعدام حضور التونسيين و التونسيات من مسيحيين و يهود على الأصعدة السياسية و الثقافية و الإعلامية هو نتاج منظومة سياسية اقصائية. فحصر الرغبة السياسية في دعم التنوع الديني في غض النظر أو توفير الحماية الأمنية لهذه الأقليات الدينية هو إبتذال لقدرة الفعل السياسي الكافل للتغيير الإيجابي لمكانة وأوضاع هذه الأقليات. إذا اعتبرنا أن أي تغيير مجتمعي هو بالأساس مقترن بوعي سياسي مخول له، فإن التقصير السياسي في تحسين أوضاع يهود و مسيح تونس هو نتاج توجه سياسي عقلاني مازال يرى في هذه الفئة من التونسيين خطرا دينيا و اديولوجيا.
هذا الفهم السياسي المقصي للأقليات الدينية إنعكس على فهم المواطن التونسي العادي للمواطنة الدينية و أفرز هوية متزمتة ثقافيا و قاتلة ايديولجيا. هنا أود التذكير بحدثين مهمين في فهم علاقة التونسي المسلم بالتونسي المخلتف دينيا. أولا شهدت فترة مابعد الثورة تهديدات بالقتل والتخريب والذي تلقاه مثلا كاهن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تونس7 يحيلنا إلى فهم أكبر لكيفية تعاطي المجتمع و حكومات مابعد الثورة بإشكالية ”ماذا نفعل بهذه الأقليات؟“. الاستنجاد بالخيار الأمني السهل الذي أدى إلى غلق أماكن العبادة و خاصة القبول المحتشم للمجتمع المدني من منظمات و حقوقيين ينم إما عن قلة إهتمام فادحة أو قبول بفكرة التطرف الديني كواقع ديني لا يمكن مقاومته. ثانيا كشف العدد الهائل من التونسيين والتونسية المنتمين إلى تنظيم داعش والذي فاق تعدادهم الرسمي لأكثر من 5000 مقاتل عن تغلل التطرف الديني داخل المجتمع التونسي و الذي يشير خاصة إلى رسوخ فكرة التماهي بين المواطنة والدين الإسلامي. فالمتابع لخطاب وحجج التونسيين الداعشيين من جهة والخطاب الرسمي السياسي والشعبي من جهة أخرى يستنتج بأن نقطة الإختلاف انحصرت حول أي إسلام نريد، بين إسلام سلفي جهادي أو إسلام معتدل مالكي. إذن مشكلة إسلامية الدولة في حد ذاتها غير مطروحة أصلا وهو ما أدى إلى نبذ الأقليات الدينية كمجموعات ثقافية وإجتماعية دخيلة وشاذة. هذا الواقع القاتم أدى مثلا إلى تكتم الكنيسة عن العدد الحقيقي للتونسيين معتنقي المسيحية.8
في الختام، أود أن أعيد التأكيد أن الاقصاء المتعمد ضد التونسيين والتونسيات المسيحيين واليهود هو ظلم وحيف ترفضه أبسط مفاهيم الحريات الإنسانية وحتى، وهذا الأدحى، تعاليم الدين الإسلامي ذاته. إن اختزال الهوية التونسية إلى انتماء ديني إسلامي واحد هو الذي أدى، كما أكد أمين معلوف، إلى تنامي ظواهر الديماغوجية و التعصب و المذهبية و حتى التكفير. لا أريد هنا أن أناقش أطروحة الديمقراطية و الدين و إنما أستنكر كيف أصبحت تونس معقل تعصب ديني و ايديولوجي بعد أن كانت مقام تعايش سليم بين مختلف الديانات. ما أردت توضيحه خاصة أن حكومات مابعد الثورة لم تستطع و لم تسعى لخلق سياسات من شأنها إنتاج مجتمع أكثر وعيا و قبولا للأقليات الدينية و هذا ما أودى بمسيح و يهود تونس لأن يشعروا ويصبحوا مواطنين من درجة سفلى.
هوامش
- “هويات قاتلة” أمين معلوف، دار الفارابي (2004)
- لماذا تتكتم الكنيسة عن العدد الحقيقي للتونسيين معتنقي المسيحية؟
- التعداد العام للسكان والسكنى 2014
- International Religious Freedom Report 2008, U.S. State Department
- بهائيو تونس: البحث عن الاعتراف المفقود
- أين اختفى جميع اليهود الذين نجحوا كفنانين في البلدان العربية؟ (الجزء الثاني)
- المسيحيون في تونس…تهديد إسلاموي رغم التواصل المؤسساتي
- لماذا تتكتم الكنيسة عن العدد الحقيقي للتونسيين معتنقي المسيحية؟
iThere are no comments
Add yours