على نحو يشبه اللجان الحقوقية التي دأبت على تشكيلها المعارضة التونسية المحظورة زمن النظام السابق، أعلنت مؤخرا قيادات سابقة في حزب التجمع المنحل وعدد من الوجوه السياسية الفاعلة في نظام بن علي عن تأسيس لجنة للدفاع عن الوزراء والمدراء السابقين المتورطين في قضايا فساد مالي وإداري.
هذه اللجنة -التي أطلقت على نفسها ”اللجنة الوطنية للدفاع عن المضطهدين السياسيين“- تم تأسيسها تزامنا مع الأحكام الصادرة يوم 3 مارس الجاري ضد الرئيس الأسبق وعماد الطرابلسي ووزيرين وكاتب دولة فيما يعرف بقضية حفلات ”ماريا كاري“ التي تعود أطوارها إلى سنة 2006 واتُّهِم فيها هؤلاء بـ”الإضرار بالإدارة واستغلال النفوذ وتحقيق فائدة غير قانونية”.
البحث عن شرعية جديدة
يترأس اللجنة المذكورة محمود المهيري المحامي والمستشار السياسي السابق للرئيس بن علي والعضو بآخر لجنة مركزية لحزب التجمع المنحل سنة 2008. وقد أشار المهيري في تدوينة له على حسابه الخاص بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك إلى أن هذه اللّجنة تهدف إلى ”التصدي لمنطق التشفي والاضطهاد السياسي“. ويستعير المستشار السابق للرئيس بن علي المعجم السياسي الدال على الاستبداد وانتهاك الحريات للاحتجاج على الأحكام الصادرة ضد زملائه المتورطين في تسخير المرافق العمومية وفتح مسالك المال العام للعائلة الحاكمة. ويندرج هذا الخطاب الجديد ضمن سياق سياسي واقتصادي يطغى عليه استشراء الفساد والإفلات من العقاب، ويشهد أيضا انتكاس مسار المحاسبة تحت وطأة الاستخدام الحزبي لملفات الفساد طيلة الست سنوات المنقضية، من حكومة حمادي الجبالي وصولا إلى حكومة الشاهد.
تضم اللجنة في تركيبتها أيضا المحامية هالة حفصة، النائبة السابقة عن حزب التجمع المنحل في الانتخابات التشريعة لسنة 2009 (دائرة أريانة). ورغم أن هالة حفصة سعت بعيد الثورة إلى التكيف مع المتغيرات السياسية من خلال إعلانها -في أول ظهور لها يوم 22 جانفي 2011 على قناة روسيا اليوم- عن رفت بعض الوجوه التجمعية الذين تداخلت مهامهم الحزبية مع مناصبهم السياسية، فإنها عادت لتتولى الدفاع عن الكثير منهم في فترة لاحقة على غرار البشير التكاري، الذي نابته في قضية اليخت المسروق بصفته وزير عدل سابق، ومن المعلوم أن التكاري كان أيضا عضوا باللجنة المركزية لحزب التجمع المنحل.
هالة حفصة عضوة أيضا في مكتب ودادية قدماء البرلمانيين التونسيين (التي تضم نواب التجمع في برلمان بن علي). وهنا يتجلى الارتباط الآخر بين لجنة الدفاع عن ”المضطهدين السياسيين“ وبين الودادية التي يقف وراء تأسيسها وزراء من النظام السابق من بينهم البشير التكاري وعبد الرحيم الزواري وسمير العبيدي، الذي لم يكن نائبا في الفترة السابقة ولكن تم إقحامه في نشاط الودادية تحت صفة منسق اللجنة القانونية. وقد ركزت الودادية منذ تأسيسها في فيفري 2016 على الدعاية لقانون المصالحة والمطالبة بإيقاف التتبعات القانونية ضد رموز النظام السابق، وقد كان لها مؤخرا لقاء مع الرئيس السبسي حول موضوع المصالحة، وقد برز في هذا اللقاء وزير الاتصال الأسبق في نظام بن علي سمير العبيدي ليؤكد التفاعل الايجابي للرئيس مع مطلب المصالحة.
”الاضطهاد السياسي“: خيمة الخارجين عن منظومة التوافق
رغم الاختفاء وراء مقولتي ”المحاكمة العادلة“ و”استقلالية القضاء“ التي كان يدوسها رجالات النظام السابق تحت أقدامهم كلما طُلب منهم ذلك، فإنهم يدركون أن ملف المصالحة ذو طابع سياسي محض ويخضع لحسابات الأحزاب الحاكمة خصوصا حركة النهضة ونداء تونس. وتشير تركيبة اللجنة والودادية التي تضمّان وزراء وبرلمانيين وإطارات سابقة إلى أن هناك جزء من النظام القديم ظل بعيدا عن منظومة التوافق الجديدة (إسلاميين-تجمعيين) التي استوعبت بالأساس الماسكين بالجهاز الحزبي القديم على غرار الأمين العام السابق للتجمع محمد الغرياني الذي راوح سياسيا بين التقرب لنداء تونس وحركة النهضة، واستفادت أيضا (منظومة التوافق) من قاعدة الدعم المالي للنظام السابق المتكونة من كبار رجال الأعمال الذين مازالوا بمنأى عن المحاسبة والكثير منهم مَوّل الحملات الانتخابية والأنشطة الحزبية لحركة النهضة ونداء تونس وأحزاب أخرى في الحكم وخارجه، هذا بالإضافة إلى الاستفادة من الإطارات الماسكة بجهاز الدولة خصوصا في المستوى الأمني.
تجربة السجن والإقصاء من نادي التوافق بسبب براغماتية النهضة والنداء وَحَّدت جزء من النظام القديم ضمن فكرة الشعور بالإبعاد من مراكز القرار، الأمر الذي جعله يتحصن بموقع ”الضحية“ لشرعنة عودته إلى الحياة السياسية. وطالما أن خيار الانخراط في مسار العدالة الانتقالية ليس مطروحا بالنسبة لهؤلاء نظرا لأنه محفوف بالانهيار الرمزي ولا يعفي من التتبع القضائي، فقد فضّلوا تأسيس جبهات دفاع جديدة تحت المظلة الحقوقية (لجنة المضطهدين السياسيين) أو تحت غطاء العمل الجمعياتي (الودادية). إضافة إلى أن هذا الخيار كان مدفوعا بفشل مبادرة الرئاسة في تمرير مشروع قانون المصالحة الذي أسقطه الشارع والمعارضات المدنية والسياسية.
من المنتظر أن تتطور فكرة التوحّد على قاعدة التضامن الجماعي ضد الاستبعاد من السلطة في اتجاه التفكير في تأسيس كيان حزبي جديد يَتنادى إليه أعوان النظام السابق الذين أهملتهم منظومة التوافق، ويمكّن لهم العودة إلى حلبة الصراع السلطوي في ظل ”الفساد المُعمم“ التي تشهده مختلف قطاعات الدولة. وهو ما لمّح إليه مؤخرا رئيس ”لجنة الدفاع عن المضطهدين السياسيين“ والمستشار السابق لبن علي، محمود المهيري، في أحد تدويناته على فايسبوك عندما أشار إلى أن اللحظة التاريخية حانت من أجل إحياء جذوة الانتماء إلى الحزب التاريخي (التجمع).
الحاجة إلى سلالم العودة السياسية التقطتها بعض الأحزاب على غرار آفاق تونس وحركة مشروع تونس التي عبّرت في بياناتها الأخيرة عن الوقوف ضد محاكمة أعوان النظام السابق، وعملت في نفس الوقت على الدعوة إلى تفعيل قانون المصالحة أو تقدمت بمبادرات تشريعية جديدة على غرار حركة مشروع تونس. وتسعى هذه الأحزاب إلى الاستفادة الانتخابية والحزبية من المعنيين بقانون المصالحة، ولعل نجاحها في هذا المسعى مربوط بمدى قدرتها على إقحامهم ضمن أجهزتها الحزبية وشحنهم بأمل محسوس في العودة إلى مراكز القرار.
للثورة مسارات ، إنتقالي ، دستوري ، تاريخي قيمي أخلاقي قضائي (…).. مسار العدالة الانتقالية هو ضمن هذا المسار الكبير التاريخي .. من البداية أغلب الشعب نادى بمسار متكامل و غير مجزء : مسار العدالة الانتقالية-المصالحة الوطنية ، حتى لا يكون هناك تشفي ظالم أو إقصاء لمن يختارون و ينخرطون أهداف الثورة و قيمها و كانوا من قبل في المنظومة القديمة .. و حتى لا يقع تقسيم جديد للمجتمع .. رغم ذلك نشاهد ثورة مضادة قوية ، و تعثر في إستكمال المسارات (…) .. على كل حال ميش غريب أن يفبرك الذئب لنفسه صفة الضحية …
المسار متكامل أو لا يكون : عدالة انتقالية- مصالحة وطنية ..