المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

و تجدر الإشارة في هذا الصدد الى تصريحات أدلى بها المفوض لسياسة الجوار الأوروبية بتونس بتاريخ 4 سبتمبر 2017 و مفادها أن الوقت حان للحديث عن مستقبل العلاقات
بين تونس والاتحاد الأوروبي، مضيفا أن الحاجة تدعو إلى وضع خارطة طريق لتحديد القطاعات ذات الأولوية بالنسبة للتعاون المستقبلي بين الجانبين.
و تأتي هذه التصريحات تفاعلا مع الموقف الذي سبق أن أعلنه وزير الخارجية التونسي بتاريخ 31 جويلية 2017، حيث ذكر أن تونس ترغب في الخروج من سياسة الجوار مع الاتحاد الأوروبي و قد تقدمت بأفكار جديدة خلال مجلس الشراكة الأخير بهدف التوصل إلي تصور مشترك مع الجانب الأوروبي لمستقبل العلاقات التونسية الأوروبية.
الأسئلة المطروحة هنا: هل أن الموقف التونسي هو فعلا بصدد المراجعة؟ وهل أن الجانب الأوروبي مستعد فعلا للتفاعل إيجابيا مع المقاربة الحكومية التونسية الجديدة لهذا الملف التي تظل في مستوى العموميات ولم تتبلور بعد بشكل واضح و دقيق؟

الحصيلة السلبية لعلاقات الشراكة غير المتكافئة مع الاتحاد الأوروبي

قد يكون من المفيد التذكير بأن هذا التطور الظاهري في الموقف الرسمي التونسي له صلة بضغوط المجتمع المدني التونسي المتحفّظ إزاء اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق. وقد تعددت صيغ التعبير عن هذا التحفظ، لعل أهمها البيان المشترك الصادر في فيفري 2016 عن مجموعة من المنظمات والجمعيات التونسية والفرنسية التي تعمل على توعية الرأي العام التونسي والأوروبي بأهمية وخطورة الرهانات ذات الصلة بهذا الملف، كما تطالب هذه المنظمات بمراعاة الحصيلة السلبية لاتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية المبرم سنة 1995، داعية إلى مراجعة كلية لأسس المفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي بما يراعي التفاوت الشاسع في مستويات التنمية وبما يؤدي إلى إرساء شراكة جديدة وحقيقية تراعي مصالح تونس وتقيها من المنافسة الأوروبية غير المتكافئة التي ألحقت الضرر البالغ بالاقتصاد التونسي وبقطاعات الانتاجية، فضلا عن انعكاساتها السلبية والمدمرة على التوازنات التجارية والمالية الكبرى لبلادنا.
وفي بيانه الصادر بتاريخ 14 سبتمر 2016 بدى أن البرلمان الأوروبي كان مُتفهما لهذه المشاغل، وتجلى ذلك في دعوته الجهات الأوروبية المختصة للإنصات إلى مواقف المجتمع المدني التونسي ومراعاة مخاوفه وإدارة المفاوضات على نحو يراعي الظرفية الاقتصادية الصعبة لتونس. كما انتقد البرلمان الأوروبي المواقف الغربية السلبية إزاء تضخّم حجم المديونية التونسية مذكرا بعدم إيفاء مجموعة السبع بالتزاماتها المالية الضخمة الموعود بها خلال قمة دوفيل المنعقدة في ماي 2011، بما في ذلك مساعدة تونس على إستعادة أموالها المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج.
والملاحظ أنه سبق للبرلمان الأوروبي أن أصدر مثل هذه التوصيات إلى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولكن هذه الأخيرة غير مُلزمة بها كما هي ملزمة بالتفويض الصادر إليها بخصوص اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق الذي يظل هدفها الأسمى في علاقاتها بتونس، كما بينته جولات المفاوضات التي تمت منذ الجولة الأولى المنعقدة في شهر أفريل 2016.
ويجدر التذكير بأن تونس قبلت في مرحلة أولى بالتفاوض على أساس وثيقة العمل الأوروبية المُثيرة للجدل بسبب طابعها غير المتوازن وعدم مراعاتها لخصوصيات الظرف الاقتصادي التونسي المنهار، وهو ما تأكد أيضا من خلال الحديث الصحفي الذي أدلى به سفير الاتحاد الأوروبي الجديد بتونس إلى مجلة L’économiste maghrebine في عددها رقم 705 الصادر بتاريخ 8 فيفري 2017. فقد عكس هذا الحوار، لا فقط نزعة الجانب الأوروبي للتسريع بتوسيع منطقة التبادل الحر بل تدخله الواضح في الشؤون الداخلية السيادية لتونس، التي يفترض أنها تتعلق بالخيارات التونسية الكبرى ومن ذلك إدراجه لإصلاح هياكل الدولة وغير ذلك من الملفات الحساسة ضمن أولويات الجانب الأوروبي بتونس.
وإذا كانت مثل هذه التصريحات صادمة بالنسبة لغير المتابعين لمسيرة العلاقات التونسية الأوروبية، فإنها غير مفاجئة بالنسبة للمختصين الذين يدركون أن سياسة الاتحاد الأوروبي إزاء تونس تتكامل في واقع الأمر مع ما يُسمى بالبرامج الإصلاحية ذات الصلة بالقروض المشروطة الممنوحة لتونس من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وكذلك المؤسسات المالية الدولية والأوروبية.
وبالتوازي مع ذلك فإن الحديث الصحفي المشار إليه الذي أدلى به وزير الخارجية التونسي إلى صحيفة la presse بتاريخ 30/7/2017 تؤشر لحدوث بعض التطور في الموقف التونسي إزاء مستقبل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.

هل هناك بوادر تحوّل في نظرة تونس للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي؟

ورد في هذا الحوار أن تونس -إلى جانب قبولها بمواصلة الحوار حول توسيع منطقة التبادل الحر- فإنها طلبت خلال مجلس الشراكة المنعقد في شهر مارس 2017 بتفعيل بعض الاجراءات والتدابير الخاصة الكفيلة بحماية الاقتصاد التونسي وتمكينه من القدرة على تحمّل المنافسة الأوروبية. والجدير بالذكر أن هذا الموقف الجديد ينسجم مع الدعوات المتكررة التي ما انفكت تقدمها الأطراف التونسية المعارضة لتوسيع الشراكة، وهي تطالب بتفعيل البنود الوقائية المضمنة باتفاق 1995 وباتفاقية المنظمة العالمية للتجارة التي تسمح مؤقتا لتونس باتخاذ الإجراءات الحمائية الضرورية لمعالجة العجز المتفاقم في ميزانها التجاري وميزان المدفوعات.
إلا أن الجزء الأهم من تصريحات الوزير يتعلق بالموقف الجديد الذي تمّ إبلاغه رسميا إلي الجانب الأوروبي، ومفاده أن تونس ترغب في الخروج من إطار سياسة الجوار التي حددتها أوروبا كإطار لتنظيم العلاقات مع بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط واستبدالها باطار جديد يقع التفاوض عليه وذلك للتوصل بمعية الجانب الأوروبي إلى مقاربة جديدة خاصة بتونس، تأخذ بعين الاعتبار التجربة الديمقراطية التونسية الفريدة من نوعها بجنوب المتوسط. ويهدف هذا الحوار الذي انطلق بتاريخ 14 جويلية على مستوى السفراء إلى وضع تصوّر مشترك لمستقبل العلاقات، يراعي مصلحة الجانبين في الأمدين المتوسط والبعيد، أي في غضون العشرين إلى الثلاثين سنة .
و يبدو أن هذه التصريحات تعكس تطورا جوهريا في الموقف التونسي، إلاّ أنه يتعيّن انتظار الكشف عن مضامين هذه المقاربة التونسية الجديدة وعرضها على مجلس نواب الشعب لمناقشتها والحصول على تزكيته لتتحول لاحقا إلى موقف تفاوضي جديد.
كما يفترض أن يكون ملف العلاقات مع الاتحاد الأوروبي -إلي جانب القضايا الاستراتيجية الأخرى ذات الصلة مثل العلاقات مع مجموعة السبع ومع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولة الشريكة لتونس عموما- محل حوار وطني حقيقي طال انتظاره. مع التذكير بأن الحكومة سبق لها أن التزمت رسميا باستشارة الخبراء والمجتمع المدني التونسي وإشراكهم في المفاوضات مع الجانب الأوروبي.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والمالية الدقيقة التي تمر بها تونس، وهي تُعزى إلى حد كبير للعلاقات غير المتكافئة القائمة مع الاتحاد الأوروبي باعتباره الشريك الأساسي لتونس، يكتسي هذا الحوار أهمية خاصة وحيوية بالنظر إلى طابعه المصيري وارتباطه بإصلاح الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية الكبرى لتونس التي ظلت على حالها بعد الثورة، وهو أحد الأسباب الرئيسية لإنهيار الأوضاع الاقتصادية لتونس وبلوغها هذه المعدلات غير المسبوقة من التدهور والخطورة .

التحولات الجيوسياسية وتأثيراتها على العلاقات التونسية الأوروبية

يبقى أن نشير إلى أن مستقبل العلاقات التونسية الأوروبية لا يمكن فصله عن مسيرة العلاقات شمال جنوب وتحديدا حصيلة التفاوض والشراكة بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط منذ الاستقلال، وخاصة خلال المرحلة الموالية لإنهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة الولايات المتحدة والمعسكر الغربي على العلاقات الدولية وفرضها لمنظومة اقتصاد السوق كإطار وحيد لإدارة الشأن الاقتصادي والمبادلات الاقتصادية والتجارية على المستوى العالمي.
كما يُفترض أن تراعي الدبلوماسية التونسية التحولات الجيوسياسية والاستراتيجية العميقة التي يشهدها العالم في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2007، ثم عمّت القارة الأوروبية وبقية المناطق المرتبطة بشكل وثيق بالاقتصاديات الغربية ومن بينها تونس وبلدان جنوب المتوسط التي كانت قد تعاقدت منذ التسعينات مع الاتحاد الأوروبي في اطار مسار برشلونة وسياسة الجوار الأوروبية على إقامة فضاء متوسطي مشترك للسلم والأمن والاستقرار والتنمية المبتادلة.
ولعل فشل هذا المسار في تحقيق الأغراض النبيلة المنشودة منه، بسبب التمشي الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي والدول الغربية في علاقاتها بدول الجنوب والقائم على اختزال العلاقات والتعاون في أبعادها التجارية البحتة، هو الذي أدّى -إلى جانب اسباب ذاتية أخرى- إلى اندلاع الثورة التونسية وما تبعها من انتفاضات عربية عارمة ضد النظم المستبدة، التي يسعى الغرب إلى احتوائها وتوجيهها بما يخدم مصالحه واستمرارية علاقات الهيمنة واحتكار النفوذ والأسواق والثروات في شمال افريقيا والمنطقة العربية عموما.
ولابد من التذكير هنا بتنكّر مجموعة السبع لما أخذته على عاتقها من التزامات وتعهدات في إطار قمة دوفيل المنعقدة بفرنسا في ماي 2011، التي تم خلالها إغراء تونس ومصر ودول ما يسمّى بالربيع العربي بتحفيزها على مواصلة الانفتاح الاقتصادي والتجاري اللامحدود أمام السلع الأوروبية والغربية، ومواصلة تسديد ديون النظم المستبدة المُنهارة والتوقيع على التبادل الحر الشامل والمُعمّق وكل ذلك مقابل وعود وهميّة بتمكين هذه الدول من استعادة أموالها المنهوبة والحصول على برامج مساعدات مالية ضخمة بشروط ميسّرة كفيلة بتوفير الظروف الملائمة لتحقيق الانتقال الاقتصادي والديمقراطي المنشود في المنطقة المغاربية والشرق الأوسط. على عكس ذلك فإن مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي بتخليهم عن التقيّد بهذه الإلتزامات ساهما في افشال الانتقال الديمقراطي في تونس، ومزيد تعميق الأزمة الاقتصادية والمالية وأزمة المديونية التي أصبحت خارج دائرة السيطرة وأوصلت تونس إلى حالة من الإفلاس غير المعلن. ومع ذلك تواصل هذه الأطراف الضغط على تونس عبر الآليات والمؤسسات الخاضعة لها وخاصة ما يسمّى بالبرامج الإصلاحية والقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي لحَملها على مزيد الإنفتاح أمام المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية والشركات المتعددة الأطراف وتمكينها من بسط هيمنتها على القطاعات الحيوية والاستراتيجية المتبقية خارج دائرة سيطرتها.
والغريب في الأمر أن الدول الغربية تدرك جيدا أن منظومة اقتصاد السوق الخاضعة لهيمنتها وصلت إلى طريق مسدود. ولم تعد تتحكم في المبادلات الاقتصادية والتجارية الدولية بفعل بروز كتلة الدول الصاعدة المنافسة، وما ترتب عن ذلك من تراجع للهيمنة الأمريكية وتصدع للاتحاد الأوروبي وانتهاء للقطبية الأحادية وبروز انشقاقات صلب المعسكر الغربي بسبب عودة الولايات المتحدة إلى تبني الحمائية التجارية ضد حلفاء الأمس والخصوم التجاريين على حد السواء.
وخلاصة القول أن الدروس المستخلصة من التجربة الطويلة لعلاقات تونس بالمجموعة الأوروبية ومجموعة السبع -إلى جانب التحولات الجيوسياسية الكبيرة الناجمة عن أزمة العولمة الاقتصادية- تستدعي من تونس القيام بمراجعة جذرية لعلاقاتها مع شركائها الاستراتيجيين، مما يضفي أهمية خاصة على الجولة الجديدة من المفاوضات المرتقبة مع الاتحاد الأوروبي وهي تكتسي دون شك طابعا مصيريا في هذه الظرفية الدقيقة والخطيرة التي تمر بها تونس.