حصاد هذه السنة شاحب بالنسبة للسّاسة بصنفيهم المتآمر والعاجز، ومخيف للنّخب الغيورة على وطنها وعلى مصير شعبها. لم تدّخر قوى الرّدّة مع من يواليها من بواطن الدّولة العميقة ومن حلفائها الجدد الطامعين في الجاه والسلطة من كل العائلات السياسيّة جهدا في إفساده، وتعطيل ما ينتظره التونسيون سياسةً واقتصادًا من ديمقراطيّتهم الفتيّة، بل قد يكون في بعضٍ من أهداف ذلك التعطيل تكريه التونسيين للديمقراطيّة وشيطنتها تبريرا لاسترجاع سطوة الاستبداد وتبشيرا بعودة جبروته، بل وتقديمه في صورة المنقذ الأوحد. ومع التعبير عن عميق الأسف لنجاحهم نسبيّا في هذا المشروع المجرم والذي عبّر عنه الإقبال الضعيف وعزوف الشّباب الكامل عن الانتخابات البلدية لا بد من التنبيه إلى خطر هذا الخطاب الخبيث الذي يحمّل الديمقراطيّة من حيث المبادئ والقيم والممارسات مسؤوليّة العجز الاقتصادي الذي هو في الأصل النتيجة الطبيعيّة لعدم كفاءة المحافظين الجدد من النهضة والنداء أولا، ولرفضهم -لأسباب سياسيّة ذات مدى قصير تخصّهما وحدهما- مراجعة المنوال الاقتصادي وفلسفة التنمية مراجعة كاملة ثانيا.
تقول الدراسات المهتمّة بحركات الانتقال الديمقراطيّ والمعروفة في مدارس العلوم السياسيّة باسم La transitologie أنّ التحوّلات الديمقراطيّة تتوزع على مراحل ثلاث:
- مرحلة التمرّد على الاستبداد مع الإجماع على ضرورة تبني الديمقراطيّة عقدا اجتماعيّا La démocratisation
- مرحلة التمكين للديمقراطيّة La consolidation
- مرحلة انقلاب خلق المواطنة والسلوك الديمقراطيّ إلى ثقافة سياسيّة
وتعتبر المرحلة الوسطى أهم تلك المراحل وأكثرها هشاشة وأوهنها عودا في الآن نفسه. وهي تحديدا المرحلة التي تمرّ بها بلادنا في اللحظة الراهنة. وهي أيضا المرحلة التي تعبث بها المنظومة الحاكمة حاليّا فسادا بعد أن فشل البعض من أطرافها في تعطيل قيام المرحلة الأولى. ويظهر هذا العبث في حصاد الرداءة لهذه السّنة المتوزّع على محاور أربعة؛ اثنان منها في مستوى عمل المؤسّسات قانونا ودستورا والاثنان الباقيان في مستوى الخطاب السياسيّ دعايةً وتحريضًا. فعلى مستوى المؤسّسات القانونيّة والعمل الدستوريّ فقد شملت حركة الإفساد في ديقراطيّتنا الفتيّة أوّلا مسألة العدالة الانتقاليّة وهيئتها القائمة على إنجازها المكلّفة دستورا بحمايتها، وثانيا تأجيل مشروع تركيز المحكمة الدستوريّة الدّائم وتعطيل استكمال تركيبتها فلحقهما من التآمر والإهمال ضرر شديد. وفي مستوى الخطاب بدأت محاولات الارتداد إلى مريع الاستبداد الأول بالدعوة إلى تغيير النظام السياسيّ ومن ثمة الدعوة إلى تغيير النظام الانتخابيّ.
وسنعرض في هذا المقال إلى مسألة العدالة الانتقاليّة على ان نعود في نصوص مقبلة إلى المسائل الأخرى دون الغفلة عن التشديد والإبانة عن التّعالق العضوي الذي يجمع تلك المحاور الأربعة والذي -مع الأسف كلّه- لا يبشّر بخير قادم ولا يفصح عن نيّة في الإصلاح لدى المنظومة الحاكمة راهنا. والإفساد يعني تعطيل التمكين للديمقراطيّة عندنا. ولذلك اخترنا تناولها جميعا متسلسلة حتى يدرك القارئ الكريم مدى خطورتها وعمق تهديدها دون الإطالة عليه. وسنبدأ اليوم بموضوع العدالة الانتقاليّة بما هو أخطرها وحديث السّاعة في هذه الأيّام.
كانت أخطر محاولات الإفساد في حياة الجمهوريّة الثانية هذه السّنة بلا منازع رفض البرلمان التمديد، زورا وتعسّفا في استخدام السّلطة وبلا صفة دستوريّة، لأعمال هيئة الحقيقة والكرامة. فمن الناحية المؤسّساتيّة، يثبت يقينا أنّ الهيئة المذكورة مستغنية بروح القانون الذّي أنشأتها عن موافقة البرلمان أو عدمها لمواصلة أعمالها وإنجاز المهام التي أناطتها بها مرحلة التأسيس ونصوصها. وهي من هذا الوجه وبمقتضى روح نصوص القانون التأسيسيّة تحمل دائما نفس صفة الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات ونفس مقوّمات استقلالها، وكل ما يُقال خلافا لهذا تعسّف في تأويل النصوص وحذلقة قانونيّة تريد أن تجبر الهيئات المستقلة في ديمقراطيتنا الفتيّة على الخضوع لجزء من سلطة الدّولة حتى تحتال في جعلها تحت وصاية النّخب السياسيّة الحاكمة تشريعا وتنفيذا. ولا يغيّر صلف بن سدرين وعنادها وسوء إدارتها للهيئة وسوء تصرّفها في بعض المسائل من هذه الحقيقة شيئا. فتلك مسألة أخرى لها منهج مخصوص للفهم والتحليل يخصّ شخص بن سدرين وسيرتها ولا علاقة له بطبيعة عمل الهيئة على اعتبارها مؤسّسة دستوريّةً.
فاستقلال هيئة الحقيقة والكرامة يؤوّل على قيامها بنفسها قياما كاملا من حيث المورد المالي ومن جهة الإدارة ومن جهة التقرير بالتمديد إذا اقتضى الأمر ذلك. فنصّها التأسيسيّ في فصله الثامن عشر يتحدث عن تمديد بقرار من الهيئة نفسها إذ هي صاحبة السّيادة والخبرة والاطّلاع والاختصاص في تحديد ما يلزمها من الوقت لتأدية مهامها. وحسب نص القانون المنظّم للعدالة الانتقاليّة فإن رفع قرار التمديد إلى البرلمان هدفه تعليله لا طلب الموافقة عليه. لهذا قلنا فيما تقدّم أنّها من نفس طبيعة الهيئة المستقلة للانتخابات، إذ إنّ الفكرة التي أخرجت الهيئتين قائمة على نفس الروح القانونيّة والمؤسّساتية وساعيةٌ في جعلهما معا بعيدتين عن التدخّل المباشر أو غير المباشر من باقي سلط الدولة ومن خطر آراء نخب الحكم يمنة ويسرة؛ فهل يجرُؤ هؤلاء مثلا على تعطيل عمل هيئة الانتخابات أو رفض التجديد لها أو إيقاف مواردها الماليّة أو التدخّل في طبيعة عملها وإن تاجروا فيما بينهم على ما نسمعه بخصوص اختيار رئيسها الثاني؟ إنّي أكاد أزعم نبوءةً أنّ من عطّل عمل هيئة الحقيقة والكرامة أو هو ساع في تعطيلها إن استقرّت له الأمور على ما يشتهي اليوم فسيعمل في الغد على التدخّل في عمل الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وتوجيه نشاطها لما يخدم مصلحته ويلائم هواه. فإذا جاز التجاوز في الأولى فما الذي يمنعه في الثانية. وعلى حد قول الشاعر طرفة ابن العبد: “ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد”. وقد يكون من غريب الصّدف أن يكتب هذا المقال يوما واحدا قبل أن يعزل مجلس هيئة الانتخابات العليا المستقلّة رئيسها الجديد.
وبغضّ النّظر عن كلّ هذه الاعتبارات القانونيّة المعقّدة وبالاعتماد على أبسط مبادئ المنطق، كيف يكون لمجلس نيابيّ لا يعرف نوّابه كلّهم أو العدد الغالب منهم شيئا عن حيثيات عمل الهيئة ولا عن خصوصيات نشاطها ولا عن طبيعة الملفّات التي تنظر فيها ولا عن تعدادها أن يعطي لنفسه الحق في تقرير ما يلزمها من وقت؟ وكيف يسمح لنفسه بتقديره؟ كلّ هذا يدلّ على سوء في النيّة ورغبة في قتل المسار نفسه، وليست مسألة التمديد إلا عذرا مثاليا استخدموه وفرصة غدر انقضوا عليها. وقد أرادوا بهذه المناورة في الخطاب وبهذا التلاعب في التعليل والتأويل أن يُظهروا المسألة في قالب مشكل تشريعي، في حين أنّها مناورة سياسيّة في الصّميم. ومن هذا الباب لم يكن بينهم وبين نظام بن علي البغيض فارق يذكر. فقد كان غالبا ما يلجأ إلى هذا النوع من المناورات لتبرير جرائمه والتشريع لاستبداده باسم القوانين والمحافظة على التشريع.
والمؤسف في المسألة كلّها أنّ فريقا من رجال القانون بدل أن يدينوا هذا الموقف ويستهجنوه راحوا يلتمسون له العذر ويبحثون له عن مخرج قانوني يشرّع له، بل يدستره في استهزاء سافر بذكائنا واستخفاف مستفزّ بمعاناة ضحايا الاستبداد وهم بالمناسبة الخاسر الأكبر من هذه المهزلة كلّها. وقد استحسنت شخصيّا موقف النواب الذين قاطعوا الجلسة الباطلة وشجاعة العميد فاضل موسى حين عبّر مدافعا في بعض الحصص الحواريّة على قناة التاسعة عن روح النص فقال بوضوح “إن هيئة الحقيقة والكرامة قد نُصّبت لتكون مستقلة”. ويجدر كذلك التنويه عند هذا المقام بموقف المحكمة الإداريّة التي لزمت الحياد فلم تقرّ أي فريق على رأيه وقرّرت عدم الاختصاص، وفي تقديرنا إنّ هذا الموقف على حياده الظّاهر يدل على أنّ قضاتها الأفاضل قد تنبّهوا إلى أنّ المسألة مسألة سياسة لا قضيّة تشريع، فأبعدوا أنفسهم عن أزمة رأوا صوابا أنها لا تعنيهم.
وأقبح من الذّنب أعذاره التي تصنّعها المعطّلون للعدالة الانتقاليّة في مجلس النواب، الذّي نصون اللسان عن وصفه احتراما للقلة من شرفاء نوّابه وحسرة وإشفاقا على أبناء شعبنا الذين انتخبوه. وقد بلغت الوقاحة والرّداءة منهم منتهاها في آن. إذ قال البعض منهم إنّ بن سدرين وهيئتها تقسّم التونسيين فرقا وشيعا تتباغض، ثم لهجت ألسنتهم بأقبح مما اتهموها به. فنطقت النائبة هالة عمران صراحة وبلا خجل بل في صفاقة واستعلاء وقح على الجزء المظلوم من شعبها قهرا على امتداد سنين عجاف طوال والذي من المفروض أنّها ممثّله له قائمة على شأنه حريصة على مصلحته حافظة لحقّه فقالت: “لستم منّا ولسنا منكم”. فمن بعد سماع هذا بالله عليكم من الذي يبث الفرقة ويقيم البغضاء في وطننا؟ ولن نسأل عن هذا دون أن نعيد التذكير بصلف بن سدرين وقلّة دبلوماسيّتها وتهوّرها وسعيها الدّائم للمواجهة الذي نعترف أنّه سهّل عليهم أمورا دبّروها بالليل لتنفيذ ما تطوي أنفسهم غدرا بالنّهار. ثم قالوا أنّ في الهيئة فسادا ماليّا دون أن يقدّموا بيّنة ولا دليل، بل على العكس تماما لم نسمع من دائرة المحاسبات -وهي الجهاز المؤسّساتي المؤهّل في دولة يدّعي نوّابها أنّها دولة قانون- للنّظر في مثل هذه الأمور وهي الجهة المستأمَنة على تقدير الفساد أو سوء التصرّف في ميزانيّة الهيئة. ولا نريد أن نخوض في ادعائهم الزائف بل زعمهم المضحك في الحرص على المال العام. بل سنترك لنباهة القارىء التونسي ولذكائه تقييم هذا التبرير، واللبيب من الإشارة يفهم.
وفي مناسبة أخرى قالوا أنّ الهيئة تريد الاعتداء على السّيادة الوطنيّة بتسليم أرشيفها لجهات أجنبيّة، فخرجت رئيستها إلى الإعلام وقدمت الدليل -وبالنصوص الظاهرة لا تأويلا من عندها- على أنّ عرض المناقصة يشترط أن تكون الشّركة المكلّفة بحفظ الأرشيف تونسيّة المنشأ والعمل والخبرة. نقول هذا كلّه دون أن نغفل عن التذكير مرّة أخرى بأنّ بن سدرين ليست ملاكا وأنّها قد ارتكبت أخطاءً خطرة في إدارة عمل الهيئة لعلّ أفظعها رفض الامتثال العنيد لأحكام المحكمة الإداريّة. فليست هذه السّيّدة من الأولياء الصّالحين ولا هي فوق النقد ولا مستعلية على القانون حتى ندافع عنها. وهي بوجه من الوجوه مسؤولة كذلك عمّا وصلت إليه الأمور اليوم. فالمسألة في أساسها مسألة مبدأ مستقيم وقضيّة عادلة وليست متعلقة بطبيعة الأشخاص أو بنوازعهم وتاريخهم.
ولو سلّمنا للفريق الساعي في إيقاف عمل الهيئة بصحّة تلك الاتهامات كلّها، فافترضنا أنّها ثابتة سليمة وتغافلنا على كونها افتراء سياسيّا محضا على عملها، فهل كلّ تلك الأمور مجتمعة تشرّع لتعطيل مسار العدالة الانتقاليّة كاملا وإيقافه برمّته؟ هل ضاقت بالمجلس الذي يمثّل سيادة دولتنا كاملةً حيلةٌ قانونيّة أو منهج تشريعي لتغيير إدارة الهيئة أو تغيير مديرتها أو على الأقل مراقبة عملها؟ فحتى حِكَمُ الطّبّ التاريخيّة تقول أنّ آخر الدّواء البتر وليس أوّله. فالمسألة كما قلّبتها تدين سوء نيّتهم وتكشف خبث طويّتهم، وتفضح رغبتهم في الغدر بضحايا استبداد اشتاقت له أنفسهم وتاقت لاسترجاعه هممهم. وبئس الهمّة التي تشتاق إلى الاستبداد وتسعى في عودته. وكما قالت صوابا النائبة سامية عبو تحت قبّة البرلمان في اليوم الذي تلى تاريخ رفض التمديد لا فائدة من استجداء ضمير الحزب الذي يمثّل امتدادا للحزب الذي قتل وعذّب وشرّد، فليس غريبا أن يعطي اليوم لنفسه الحق في استئناف الظلم الذي بناه أسلافه وأن ينطق باسم العدالة الانتقاليّة ويتدخل في سيرها، ويحدد ما ينبغي الاعتراف به للضحايا ويقدّر ما يجب فعله لجبر ضررهم.
إن تصفية مسار العدالة الانتقاليّة في أقصى الحالات أو تعطيله في أدناها ليس هدفه معاقبة بن سدرين على إفسادها ولا الحرص على المال العام ولا حماية معنويات المؤسّسة الأمنيّة كما يدعون، فقد قَبُح العذر على ذنبه. إنّ هدفه الأوحد والأخير طمس جرائمهم وجرائم أجدادهم وأسلافهم من نفس عائلاتهم السياسيّة، حتى لا تضيع السّلطة من بين أيديهم فتضيع من بعدها الثّروة من بين أيدي من يموّلهم. فحين يربط القارئ السياسيّ الذّكيّ للحالة التونسيّة الراهنة الخيوط بعضها ببعض لا يمكن أن يَغفل عن ارتباط المصالح الثلاثي بين مثلث الاستبداد الراجع إلينا في ثوبِ ديمقراطيّةٍ لم يؤمن بها يوما: أول أضلعه ورثة التجمع من السّاسة وثانيها رأس المال الخائف على سطوته واستئثاره بثروة شعبنا، وثالثها جزء من الجهاز الأمني الذي خدمهما طيلة حكم نظام بن علي البغيض. وقد قرأت في كثير من الأحيان نصوصا تهاجم الهيئة ورئيستها على صفحات بعض النقابات الأمنيّة، وقد قرأت منذ بضعة أيّام كذلك على موقع جريدة الصباح عن شهادة العميد المتقاعد هشام المؤدّب أمام لجنة الدفاع والأمن البرلمانيّة يعترف فيها صراحة بتدخّل رجال أعمال متنفّذين في تعيين أهم المسؤولين في وزارة الدّاخليّة وبتأثير رأس المال الفاسد مباشرة في تحديد أهمّ رؤوس إداراتها. والغريب المستغرب -الذي لم يفاجئني شخصيّا- أنّ نوّاب النّداء كانوا حسب الصحيفة نفسها الكتلة النيابية الوحيدة التي احتجت على تصريحاته وطعنت فيها ولامته على خروجه عن واجب التحفظ، لا غيرة على القوانين طبعا ولكن كما هي العادة عندهم من باب الحق الذي يراد به باطل بل إخراسا للحقّ وسعيا في تبرير الباطل. فهل من الصّدف أن يكون قسم من نواب النّداء ومرشحيه من رجال الأعمال؟
ومن يعترض على هذا الحكم وعلى هذا الاستنتاج فعليه أن يشرح لمن يتبنّاه سرّ رفض الدّولة العميقة ومن يواليها من أطراف المنظومة الحاكمة كلّها إلى الآن التعامل مع هيئة الحقيقة والكرامة. فكل الجهات المعنيّة بهذا الملفّ من أجهزة الدّولة لا سيما الأمنيّة منها قد رفضت التعامل مع الهيئة رفضا قاطعا رغم أنّ المسار في تقدير أصحاب العقل السليم يخدم الجلاّدين أكثر من خدمة الضّحايا، فهو يمكنّهم من التكفير عن أخطائهم ويصالحهم مع ضحاياهم ومع مجتمعهم ويعيد بناء الثقة بين وزارة الدّاخليّة وشعبها، وهي الوزارة التي علينا الاعتراف -وبلسان دبلوماسيّ- أنها المؤسسة الأقلّ شعبيّة عند التونسيين حتى نجتنب استعمال ألفاظ أخرى لوصف المسألة نفسها يعرفها التونسيون جيدا وتفهما وزارة الدّاخليّة فهما دقيقا كذلك. ورغم اختلافي الكامل مع البعض من أفكار النائب ياسين العيّاري إلاّ أنّه قد صدق حين قال بأنّ تعطّل العدالة الانتقاليّة يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب ويقويّ الرغبة في الانتقام. فإن أردتم أن تجروّا البلاد إلى الحرب الأهليّة فامضوا فيما أنتم ماضون فيه. ولكن تحمّلوا مسؤوليّة ما سيحدث من بعد ذلك أمام الشعب التونسي وأمام التاريخ من بعده.
ولا يجب أن يفوتنا، قبل أن نعرض إلى نتائج المسألة المدمّرة لصورة بلدنا على المستوى الدّوليّ، إلى تحميل النّهضة جزءً من مسؤوليّة هذه الحال التي وصلنا إليها رغم أنها ستكون من أكبر الخاسرين إذا لم يستمرّ مسار العدالة الانتقاليّة في مجراه الطبيعيّ. فالنّهضة على العموم وتحديدا في زمن الترويكا ظنّت سذاجة حين فازت بانتخابات أكتوبر أن الأمر قد استقرّ لها وأنّها قادرة على أن تصارع الدّولة العميقة وأعوانها من رأس المال والمؤسّسة الأمنية عبر قاعدتها الشعبيّة العريضة ومرتكزها الايديولوجيّ الشعبي الواسع. وقد فاتها غفلة وعن قلّة تجربة أنّ مكر السياسة يخفي عموما مكر الاقتصاد. وحين فهمت قوّة الخصم المتواري وراء الحداثة غشّا لمواصلة الاستئثار بالاقتصاد والثّروة انقلب الغباء والسّذاجة إلى انتهازيّة وتسلّق بلغ بشهادة الحليف قبل العدوّ حدّ مقايضتها الاعتراف بجزء من تاريخها ونصيب من عذاباتها وقسم من معاناتها. بل إنّ الضّربة الأخيرة التي تلقتها العدالة الانتقاليّة في مقتل دلّت على أنّ النهضة قايضت وجودها كلّه بكل تلك الأمور مجتمعة. وقد شاركت حركة النهضة في إفساد يضرب العدالة الانتقاليّة اليوم عند اختيار رئيس الهيئة المسؤولة عن مناهضة التعذيب، فبدل أن تسلّم هذه المسؤوليّة للمحامية راضية النصراوي مثلا أو لخبرة من مستواها ومن وزنها معترف لها بالكفاءة والتخصّص في الموضوع على المستوى الدّوليّ أسهمت لأسباب إيديولوجيّة واضحة في صفقة أخرى من صفقاتها مع النّداء في المجيء إلينا بشخص نكرة لا نعرف له اطّلاعا على الموضوع، ولم نسمع له عن موقف فيه. بل منذ تعيينه لم نسمع ولو خبرا واحدا عن نشاطه في مقاومة التعذيب، وقد عادت هذه الظّاهرة بأكثر بشاعة على مستوى جهاز الشرطة مع الإفلات الكامل من العقاب وبشهادة تقارير كل المنظّمات الدوليّة المختصّة في هذا الشّأن.
ومن بعد هذا كلّه عادت النّهضة الآن فصرخت بعد أن رفض برلمان النّداء -وهو حليفها- في غياب نوّابها التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة صرخة الحكمة القائلة “أكلت يوم أكل الثّور الأبيض”. وكما قال الشّاعر “من يهن يسهل الهوان عليه”. فمن أسقط قانون العزل السياسيّ على رمزيّته فأعاد بشكل مباشر التجمع إلى الحياة السياسيّة بثقله وبوقاحته وفساده ومن رضي بقانون المصالحة الإداريّة وأسهم في التشريع له على تداخله مع مبدأ العدالة الانتقاليّة ومضايقته لصلاحيّاتها، ومن عارض أن يكون المسؤول دستوريّا عن مناهضة التعذيب شخصًا كفؤًا وذا خبرة ليس له اليوم أن يسترجع عذريّة نضال قد فقدها باختياره. ولن تغفر له كل شطحات الإنشاء النضالي والحماسة الثّوريّة التي أبداها نوّاب النهضة بعد تلك الجلسة-المهزلة في البرلمان. لقد قضي الأمر وبلغت القلوب الحناجر. وإني أودّ أن أسأل الجناح المسؤول في النهضة عن كلّ هذه التنازلات المذلّة أمام النّداء وعن كلّ هذا الاستسلام الصّاغر لحلفائه من العهد القديم، كيف ستنظرون -إن قدّر للعدالة الانتقاليّة أن تفشل- في عيون عائلات ضحاياكم وعيون أولادهم اليتامى؟
وبكلّ تواضع ودون شخصنة للموضوع بشكل قد يفسد تحليله، فقد يكون من حسن حظي ومن حسن حظ قرّائي ومن سوء حظّ هؤلاء جميعا أنّ جامعة أوتاوا قد كلّفتني في السّنوات الأخيرة بإلقاء درس على طلبة السنوات النهائيّة من الإجازة في العلوم السياسيّة، موضوعه تحديدا ولحسن الصّدفة نظريات الانتقال الديمقراطيّ الحديثة. وقد ألقيته ثلاث سنوات متتاليات فتوسّعت فيه فهما وإدراكا واستوعبته بشكل يعطيني اليوم الحقّ لأحذّركم يا بني وطني معشر التونسيين الشّرفاء من خطر ما قد يلحق العدل الانتقالي من ضرر، لا يمكن أن تتصوّروا شناعة انعكاساته لا سيما على صورة بلدنا على المستوى الدّولي. فلقد أجمعت كل الدّراسات المنشغلة بالموضوع في مدرستي العلوم السّياسيّة الفرنكفونيّة والانجلوسكسونيّة على أنّ مرحلة الانتقال الديمقراطي الوسطى، وهي مرحلة الترسيخ مرتهنة ارتهانا كاملا في نجاحها بنجاح العدالة الانتقاليّة، بل هي قلبها النابض ومركزها المؤسّس وأساسها المتين. فلو ضربت سقط المسار كلّه وإن استقامت فيه باقي الأجزاء. فلا يمكن أن تثبت مؤسّسات النّظام الديمقراطيّ إذا لم تٌصفَّ تركة الاستبداد. وقد أثبتت التجربة في دول مثل تشيلي والأرجنتين والبرازيل أن تَعطّل مسار العدالة الانتقاليّة يعني عدم اكتمال البناء الديمقراطيّ وتعطّله، بل شلله الكامل حتى أنّ البعض من تلك الدّول رغم تقدّم تجاربه اعتُبرت ديمقراطيّات غير مكتملة التكوين، بل لا يزال البعض منها يُعتبر كذلك في نظر المختصين في الموضوع -هيئات وأفرادا- إلى اللحظة الحاضرة بسبب عجزها عن تحقيق أهداف العدل الانتقالي عندها.
إن ما ينوي النّظام الحاكم في تونس اليوم القيام به فيما يخصّ العدالة الانتقاليّة سيكون بمثابة الخطأ الذي قد يرتقي إلى مرتبة الجريمة العظمى. فعلاوة على بطلانه قانونيا ودستوريا سيكون له انعكاسات مُدمّرة على صورة بلادنا في العالم على المستويين الاقتصادي والسياسيّ. ففي لحظة نكاد نستجدي فيها الدول الغنيّة استجداء الجائع وهي في مجملها دول ديمقراطيّة لترسل شركاتها للاستثمار عندنا وتساعدنا على حلّ مشاكل الفقر والبطالة والمرض، وفي ظرف عادت فيه معظم منظّمات حقوق الانسان لإدانة عودة التعذيب وغيره من التجاوزات الخارقة لمبادىء حقوق الإنسان في بلدنا نرسل إلى العالم هذه الرّسالة البشعة في شكلها والمنفّرة في مضمونها. فنصادق بذلك على ما يُوجّه إلينا من اتهامات بل نزيدها تهمة أخرى أخطر وأشنع لأن تعطيل مسار العدالة الانتقاليّة لن يؤوّل في الخارج على أنّه تكريس للاستبداد والظّلم وقبول للاعتداء على حقوق الإنسان فحسب بل سيُحمل على أنّه حماية للجلاّدين والقتلة. فأيّ صورة يريد هؤلاء أن يعطوها للعالم عن الاستثناء العربيّ الوحيد الذي قرّر القطع مع الاستبداد وتبني قيم العدل والحريّة؟ وكيف لنا أن ندافع نحن معشر الكفاءات التونسية المهاجرة من مواقعنا عن هذا الاستثناء التونسي وكيف نسوّق له في البلدان التي نعيش فيها بعد هذا القرار الأحمق؟ فلكم أن تتصوّروا الانطباع المدمّر عن دولتنا وعن ديمقراطيّتنا الذي قد تتركه صور الشرطة التونسيّة تجوب الصّحافة العالميّة وهي تقتحم مقرّ هيئة الحقيقة والكرامة للتحفّظ على وثائقها لو أن الهيئة رفضت التعاطي مع الحكومة ورفضت التعاون معها وأجبرتها على تنفيذ قرار البرلمان الباطل بالقوّة العامّة. وهي على ما يبدو من عناد بن سدرين سائرة في هذا الخيار رغم الاتفاق المبهم والضّبابيّ الذّي وقعته الهيئة مع وزارة المهدي بن غربيّة. وهو اتفاق اعترف الناطق باسم النداء نفسه بغموضه. ففي هذه الحال ستكون الوزارة المعنيّة مباشرة بسياق العدل الانتقالي خصما وطرفا في الحكم على مسار تأسّس خصيصا ليراجع تاريخ جرائمها. ولن يؤوّل هذا على المستوى الدّوليّ إلا على وجه واحد: إنه يعني عودة دولة البوليس ورجوع نظام القمع والارتداد إلى ثقافة الفساد. ولن يكون لما أنجزناه في السّنوات الماضية أيّ معنى. وحينها نكون كما قالت الحكمة الشائعة: “يفعل الجاهل بنفسه ما يفعله العدو بعدوّه”. وانتظروا حلقات الإفساد القادمة فهي لا تقلّ خطرا عن الإفساد في العدالة الانتقاليّة.
iThere are no comments
Add yours