تعتبر حكايات المُهَمّشين وبطولاتهم خزّان الذاكرة الجماعيّة والمخيال الشعبيّ، فهم الأبطال الحقيقيّون الذين أعلنوا العصيان والثورة ضدّ السلطة السياسيّة المحليّة والسلطة الاحتلاليّة. ينقل أستاذ التاريخ المعاصر فتحي ليسير في كتابه “من الصعلكة الشريفة إلى البطولة الوطنيّة” -وهو دراسة في سِير بعض المستبعدين من التاريخ التونسي- عن المؤرخ الهادي التيمومي تفسيره عدم الاهتمام بأبطال التحرّكات الفلاحيّة في تاريخ تونس الحديث منه والمعاصر بـ”معاداة ساسة المدن ومثقّفيها للفلاّحين”، ويذهب التيمومي إلى أنّ ازدراء هؤلاء للفلاّحين وكراهيتهم لهم “جبلة كامنة لديهم وليس مجرّد مواقف عابرة” وينتهي إلى المطالبة “بتحرير الثقافة والتاريخ التونسيّين، لا من رواسب الفكر الاستعماريّ فحسب بل كذلك من النظرة المَدِينيّة”. هذه النظرة المدينيّة همّشت المغضوب عليهم، سكّان المناطق الداخليّة الذين يُشاع أنّهم أقلّ تحرّرا من سكّان الحاضرة، في حين يؤكّد موروثهم الثقافيّ بشعره الأخضر الإباحيّ عكس ذلك تماما. لا يعني وجوب الاهتمام بأبطال التحرّكات الفلاحية، غضّ البصر على مهمّشي المدينة الذين تمّ إقصائهم من قبل “لابسي الطرابيش” على حدّ تعبير الكاتب والمناضل السياسي الطاهر عبد الله. فظاهرة الفتوّة هي ظاهرة مدينيّة، أمّا الصعلكة الشريفة فهي ظاهرة قبلية، يعني أنّ البانديّة هم سليلو الثقافة المدينيّة. ما يجمع الصعاليك والبانديّة على حدّ سواء، رغم تأثيرات العامل الديمغرافيّ على تكوينهم والفارق الزمنيّ في ظهورهم، هو ثقافة الرفض والمقاومة، رفض الواقع المهترئ ومقاومة السلطة بجميع تمثلاتها، وقد لا يعني هذا بالضرورة مقاومة السلطة الدينيّة بشكل مباشر ومقصود، فارتباط الباندي بالثقافة الدينيّة الشعبيّة ثابت، وهي ظاهرة محافظة في صميمها.
البانديّة والأنا المتضخمة
يرتبط البانديّة بحيّز مَدينيّ محدّد، فلكلّ حيّ سكنيّ بانديّته الذين يحمونه والذّين يتصارعون فيما بينهم من أجل توسيع دائرة نفوذهم. ظلّ هؤلاء البانديّة كما تذكرهم الروايات الشفويّة منسيّين، وقد تعامل معهم حملة الهالة الدينيّة وحرّاس الأخلاق بمنطق إقصائيّ، فعبد العزيز العروي الذي كان من مثقّفي البلاط وبوقا من أبواق السلطة السياسيّة تكلّم أكثر من مرّة بنزعة أخلاقويّة عن علي شورّب، باندي الحلفاوين الذي ينسبه كثيرون إلى “الصعلكة الشريفة”. ولعلّ الجدل الذي أثِير خلال بثّ المسلسل الرمضانيّ “شورّب” خير دليل على أنّ البانديّة كانوا ومازالو ضحايا الأحكام المسبقة والمحاكمات الأخلاقيّة في تونس رغم أنّ الأمر قد يختلف مع أبطال شعبيّين عالميّين مثل روبن هود اللص الانجليزيّ الشريف الذي شاهدنا صورا متحركة وأفلاما عنه وقرأنا قصصا تسرد سيرته وسمعنا عن كتب تبحث في خلفيّات لصوصيّته مثل كتاب المؤرّخ البريطانيّ إريك هوبسباوم في كتابه The Bandits. ويُروَى أن الحبيب بورقيبة قد ذكر علي شورّب في خطاباته مرّتين، ولكنّنا لن نهتمّ حاليّا بما يُروى بقدر اهتمامنا بتعامل بورقيبة صاحب الأنا المتضخمّة مع البانديّة الذين كان يعتبرهم مثل غيره “حثالة” ومجموعة من المجرمين. بورقيبة “المجاهد الأكبر” وبطل الأمّة يزعجه وجود أبطال آخرين غيره في الأحياء الشعبيّة، فالخيال المُنبهر والمُعجب للعامّة يجب أن يكون لرئيس الدولة وليس لبانديّة “أوغاد” لذلك كان البوليس يحاصرهم في كلّ مكان ويحاول التضييق عليهم رغم سطوتهم وتمتعهم بالحاضنة الشعبية. للحبيب بورقيبة تاريخ طويل مع أناه المتضخمّة فقد تعامل بنفس النرجسيّة مع الفلاّقة ورجال المقاومة في البوادي والأرياف التونسيّة الذين كانوا “يرفضونه ويمتعضون منه” حسب ما ذكره الساسي لسود في شهادته المسجلّة من قبل وحدة التاريخ الشفوي التابعة للمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية. و”لم يخف بورقيبة أحيانا ازدراءه واحتقاره للفلاقة الذين كانوا في وقت ما رهن إشارته لتنفيذ العمليات الحربية خاصة بعد مساندة فريق كبير منهم لطروحات صالح بن يوسف بشأن مسألة الاستقلال الداخلي” حسب ما أورده فتحي ليسير.
الفتوّة سليلة الصعلكة الشريفة
للبانديّة “سلف جاهليّ” يتمثّل في الصعاليك الشرفاء الذي يزخر بهم التراث العربيّ من أبو خراش الهذلي إلى عروة بن الورد إلى تأبّط شرّا، وقد كانوا رافضين للسلطة القبليّة ويمتهنون اللصوصيّة للعيش، لكنّهم كانوا فحولا في الشعر ومنتصرين للفقراء. هؤلاء الصعاليك الشرفاء كانوا أبطالا في نظر من عاصرهم، وقد صورّهم الخيال المُفتتن والمُندهش شجعانا أفذاذا يحاربون الظلم ولا يعترفون بالقوانين، فهذه “الشخصيّات الاستثنائيّة الجدليّة جمعت ما بين الثورة والبطولة، وما بين “الجريمة” و”مخالفة القانون” والعادات” حسب ما يذكره المقاوم والناشط الفلسطيني باسل الأعرج في مقاله “الخروج عن القانون والدخول إلى الثورة“. ومن جانبه وصف المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون “هذا النوع من البطولة في التاريخ بالبطولة خارج القانون، ووصف فروسيّة أصحابها بالفروسيّة المتمرّدة، حيث اتّخذوا من اللصوصيّة وسيلة من وسائل التمرّد الرافض للواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ”، مثلما جاء في كتاب فتحي ليسير السالف ذكره. ورغم أنّنا لا نتّفق مع المستشرق ماسنيون في حديثه عن “البطولة خارج القانون” لأنّ البطولة تتعارض مع القانون ولا يمكن أن تتحرّك داخل دائرته الضيّقة، إلاّ أنّنا نؤيّده في اعتبار الصعلكة تمرّدا على السائد ورفضا للواقع القمعيّ. أخذ البانديّة عن الصعاليك قيما عديدة كالكرم والصرامة والجرأة والمروءة، إذ لا يمكننا الحديث عن الفتوّة دون هذه الاعتبارات المعنويّة التي تعطي أبعادا أخرى لهذه الظاهرة وتُحوّل شخوصها من “لصوص” أو “مُجرمين” إلى أبطال شعبيّين. ومّما زاد في احتفاء الذاكرة الجماعيّة بهؤلاء الصعاليك هو تطوّر شكل اللصوصيّة البدائيّة عندهم ليُصبح شكلا من أشكال المقاومة ضدّ المحتلّ الأجنبيّ أو النظام القائم، فاللص الشريف، مثلما يذكر ذلك الباحث المصري محمد رجب النجار في كتابه “حكايات الشطّار والعيارين في التراث العربي”، هو “جسد الثورة من حيث أنّه كان يندمغ المجتمع كلّه بالفساد ونظام الحكم بالخلل والانهيار لأنّه قائم على السلب والنهب وانعدام الأمان والضمير خاصّة إذا كان الحاكم غازيا أجنبيّا”. لنا في التاريخ التونسيّ قائمة طويلة في هؤلاء الأبطال المغمورين المُقاومين للاحتلال مثل منصور الهوش وعمر الغول وخليفة عسكر ومحمد بن مذكور وبلقاسم بن ساسي ولملوم القطوفي، الذّين ينعتون بـ”الفسّاد” من قبل بايات تونس.
ساهم تلاشي عقيدة الانتماء إلى الحيّ في ضرب صورة الباندي الكلاسيكيّ، حيث طغى الجانب الإجراميّ على الجانب الأخلاقيّ الرومنسيّ سليل الصعاليك الشرفاء في الجاهليّة. ولعلّنا هنا أمام صورتين للباندي، المجرم الذي هو نتاج نظام سياسي قمعي وظروف اقتصادية واجتماعية معيّنة والباندي الذي يتأرجح بين العقيدة الإجراميّة والعقيدة الأخلاقية. وفي كلّ هذا مازالت السلطة السياسيّة تتعامل بنفس الحدّة مع المارقين على السلطة والأنظمة وذلك بمحاولة طمس الذاكرة الشعبيّة ورفض مثقّفي ربطات العنق الحديث عنهم. ويظلّ الراب هو التعبيرة الفنيّة الأقرب لعالم الباندية -على غرار المزود- على اعتبار أنّه وُلِد من رحم الأحياء الشعبيّة ويتقاطع مع الفكر البانديّ في تضخم الأنا وتمجيد الذات حتى أن فنان الراب توباك Tupac نظر لهذه العقلية من خلال صياغة ميثاق الثوق لايف Code of Thug life سنة 1992 وهو بمثابة ميثاق شرف عصابات السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى أمل أن يكون مسلسل “شورّب”، رغم بعض التحفظات الدراميّة، خطوة نحو معالجة سير الكثير من المغمورين مثل محمد لاما وفتحي قطوسة الذين كانا في السجون مع الإسلاميّين، وشيروبة المرأة الباندية المتأثرة بعلي شورّب.
الباندية ؟؟
: وبماان تونس دينها الاسلام فيجب ان نطرح هذا السأل
هل كن الرسول محمد من قطاع الطرق ؟؟
https://www.youtube.com/watch?v=LxaDCDTKcRE
نعم كان لص و تحالف مع الصعاليك و اول غزواته الغارة على قافلة تجارية