أحالت هيئة الحقيقة والكرامة إلى حد الآن 17 ملفا على الدوائر القضائية المتخصصة المنتصبة بمقار محاكم الاستئناف، من بينها 8 ملفات أحِيلت قبل 31 ماي 2018، أما الملفات التسعة المتبقية فقد تمت إحالتها بعد ذلك التاريخ. وقد نشرت هيئة الحقيقة والكرامة مؤخرا على موقعها الرسمي روزنامة الجلسات التي حددتها الدوائر القضائية المتخصصة بتونس ونابل وقابس والكاف والقصرين للنظر في القضايا المُحالة من طرف الهيئة، وستستأنف الجلسات مع بداية شهر جويلية القادم. وتُواصل الهيئة إحالة الملفات على الدوائر المتخصصة في الوقت الذي مازال فيه قرار التصويت على عدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة داخل البرلمان في 26 مارس 2018 يثير جدلا، خاصة وأن جلسة التصويت شهدت انسحاب الكتل البرلمانية لحركة النهضة والجبهة الشعبية والكتلة الديمقراطية. واعتبرت هيئة الحقيقة والكرامة القرار آنذاك غير قانوني لأن التمديد ليس من صلاحيات المجلس وإنما من صلاحيات الهيئة. أما رئاسة الحكومة فقد راسلت هيئة الحقيقة والكرامة في 22 ماي 2018 لتُعلمها بإنهاء أشغالها قبل موفى ماي 2018. وقد دعت المذكرة المسربة التي أصدرها المتفقد العام بوزارة العدل في 28 ماي 2018 رؤساء الدوائر الجنائية المتخصصة إلى “الأخذ بعين الاعتبار ما تقرر في خصوص عدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة”، ولئن تم إلغاء هذه المذكرة من قبل وزير العدل إثر تسريبها فإنها تكشف سعيا إداريا إلى تنفيذ القرار البرلماني السابق وتعميمه على مستوى القضاء المرتبط بمسار العدالة الانتقالية.
القضاء أمام مواجهة قرار عدم التمديد للهيئة
أشارت سهام بن سدرين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، خلال ندوة صحفية انعقدت الثلاثاء 19 جوان 2018 إلى أن “القضاء مازال يتعامل مع الهيئة كهيئة قائمة الذات وصاحبة صلاحيات قانونية ودستورية”. من جهته أوضح وليد مالكي، عضو بالمجلس الأعلى للقضاء، لنواة أن “المحاكم تتَعامل وفقا للقرارات والأوامر والقوانين المنشورة بالرائد الرسمي، وطالما أن القرار المتعلق بعدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة لم ينشر في الرائد الرسمي فإنه لا يكتسي صبغة قانونية ملزمة للقضاء”، مضيفا بالقول “إن الدوائر القضائية المتخصصة منتصبة بالمحاكم وهي تعمل بصفة عادية”. ويُذكر أن إحالة الملفات من قبل هيئة الحقيقة والكرامة إلى النيابة العمومية والدوائر القضائية المتخصصة، ينظمها الفصل 3 من القانون الأساسي عدد 17 لسنة 2014 والمؤرخ في 12 جوان 2014 والذي يشير إلى أنه “في صورة إحالة هيئة الحقيقة والكرامة ملفات إلى النيابة العمومية عملا بالفصل 42 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها فإن النيابة العمومية تحيلها آليا إلى الدوائر القضائية المتخصصة المنصوص عليها بالفصل 8 من نفس القانون الأساسي. بمجرد إحالة النيابة العمومية الملفات إلى الدوائر المتخصصة فإنها تكون صاحبة أولوية التعهد بها مهما كان الطور الذي تكون فيه”.
بالمقابل أشار القاضي محمد العيادي، العضو السابق في هيئة الحقيقة والكرامة والعضو الحالي بهيئة مكافحة الفساد، إلى أن “السؤال المطروح في هذه الوضعية، ماهي القيمة القانونية لإحالة صادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة إلى القضاء بعد 31 ماي 2018؟ خاصة وأن إمكانية التمسك بعدم شرعية الإحالة وببطلان إجراءات التتبع ستكون واردة من قبل محامي المنسوب إليهم الانتهاكات”، مضيفا بالقول “إن الدوائر القضائية المتخصصة لا يمكنها رفض قبول الشكاوي، ولكن التكييف القانوني للملفات وفقا لقانون العدالة الانتقالية، سيطرح إشكالا بالنسبة للملفات التي تم إيداعها بعد 31 ماي 2018”. من جهتها أشارت آمنة سمري، المحامية المختصة في العدالة الانتقالية، لنواة أن “العدالة الجزائية غير مرتبطة حصريا بهيئة الحقيقة والكرامة، والدوائر القضائية المتخصصة تحظى بالاستقلالية عن الهيئة. والعدالة الانتقالية غير محددة بعمل الهيئة، لأن الدستور في الفقرة التاسعة من الفصل 148 يلزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية وينص على أن الجريمة والعقاب لا يسقطان بمرور الزمن، ولا يقبل الدفع ولا يُقبل الدفع بعدم رجعية القوانين”.
السلطة التنفيذية والإزدواجية في تطبيق قرار عدم التمديد
بعيد يومين من إعلام رئاسة الحكومة هيئة الحقيقة والكرامة بضرورة إنهاء أشغالها قبل موفى ماي 2018، أصدرت هذه الأخيرة بيانا مشتركا مع وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان في 24 ماي 2018. ورغم أن البيان يعتبر قرار عدم التمديد الصادر عن مجلس النواب مُلزما، إلا أنه كلَّف الهيئة بـ”الايفاء بالالتزامات المحمولة عليها قانونا” دون تحديد المدة الزمنية للإيفاء بهذه الالتزامات، والتي كان من بينها “إحالة الملفات المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقول الإنسان على الدوائر القضائية المتخصصة”. كما أشار البيان المذكور إلى أن الهيئة والوزارة “بصدد التنسيق من أجل إنجاح منظومة العدالة الانتقالية وتواصله”.
وفي الوقت الذي سعت فيه هيئة الحقيقة والكرامة إلى استثمار هذا البيان المشترك والتقليص من الوطأة الإدارية والسياسية لقرار عدم التمديد، فإن بعض الوزارات شرعت في اتخاذ إجراءات إنهاء التعامل مع هيئة الحقيقة والكرامة، من بينها وزارة أملاك الدولة التي راسَلت هيئة الحقيقة والكرامة لتُعلمها أنها ستكف تعاملها معها، وطالبتها في مراسلة أخرى بإرجاع الطاولات والكراسي. من جهة أخرى قامت وزارة الخارجية بسحب جواز السفر الدبلوماسي لرئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وهو ما اضطر إدارة المطار إلى منع سهام بن سدرين من السفر يوم 19 جوان 2018. وفي سياق آخر دعت نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل كافة منخرطيها من مختلف الأسلاك إلى “عدم الاستجابة للاستدعاءات الصادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة المنتهية مهامها وعدم المثول أمامها”.
بدون فلسفة و بدون هروب إلى الأمام :
بن علي هرب . و العدالة الانتقالية مسار لا هروب منه .