داخل جامع الفتح وسط العاصمة، ترتعد فرائص المؤمنين خوفا من الآخرة، هنا وبعين متفحّصة يمكنك أن ترى الهشاشة المطلقة لذوات تتحرّك بمشيئة الله، العلّة الباطنة للأشياء كما يقول سبينوزا. لذوات اعتقادها الأخلاقيّ في الدّين ثابت لا يتغيّر. داخل هذا الجامع الذي كان ملاذ أبو عياض الأخير قبل هروبه على مرأى ومسمع من البوليس، يمكن للإمام بخطبة واحدة أن يجمع قطعانا من البشر البكّائين ليخرجوا من بعدها إلى الشارع غاضبين مُحتجّين غير مُرحّبين بالحريّة والمساواة أو بأي شيء آخر يمكنه أن يُحرّر عقولهم المعقولة عن التفكير. ومعلوم أنّ جامع الفتح كان المكان الذّي انطلقت منه العديد من المظاهرات للمطالبة بالخلافة أو لرفض حريّة الابداع، وذلك عندما كان وزير الشؤون الدينيّة السابق في حكومة النهضة نور الدّين الخادمي، والذي كانت له ارتباطات بنظام بن علي، إماما له. في المكان المخصّص للنساء داخل جامع الفتح، أخذت ركنا وجلست أتأمّل النقوش الإسلاميّة الجميلة على الجدران قبل توافد مئات النساء من مختلف الأعمار القادمات للاستماع بلهفة إلى خطبة الإمام. جوّ الرهبة والخشوع لم يمنع بعض المصليّات من النظر في هواتفهنّ الذكيّة ومن كتابة الرسائل والابتسام بين الحين والآخر، عين في الهاتف وعين في كتب القرآن اللاّئي يحملنها بين أيديهنّ أو يضعنها على رُكبهنّ. النميمة، لحظة الانكشاف الأولى، هي الشيء الوحيد الذي يصلنا بهذا العالم الكبير ولا يمكننا الاستغناء عنه أينما كنّا. بجانبي نسوة يتحدّثن عن جارتهنّ المفرطة في الإيمان وكيف تُقيم الليل وتصوم يومي الاثنين والخميس ومع كلّ كلمة يقلن ”ما شاء الله“، تحوّلت وجهة الحديث التي كانت على شكل نميمة خجولة إلى جرد حسابات ماضي هذه المسكينة. لقد نصبن لها ولوالدها الذي سمح لها ”بحلّ شعرها“ عندما كانت مراهقة محكمة أخلاقيّة.
بدأ الإمام خطبته، ولم يتحدّث مثلما توقّعت عن تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة، اكتفى بالحديث عن موسم الحجّ وسلوك الحجيج، داعيا في نهاية خطبته المصلّين إلى الحذر من زمان الكفر الذي نعيش فيه وأن يدافعوا عن دينهم وينتصروا له. نفس هذا الإمام وقبل أسبوعين، عندما كنت مارّة بالصدفة من أمام جامع الفتح استوقفتني خطبته عن التقرير المشهور. الإمام يتكلّم بالدارجة وبحماس شديد مقدّما كلّ الحجج الممكنة وغير الممكنة لإقناع المصلّين المقتنعين سلفا بأنّ التقرير فيه تعدّ على مقدّساتهم الدينيّة وقيمهم الروحيّة وأخلاقهم وأعرافهم الاجتماعيّة. تحدّث الإمام عن إسناد لقب الأمّ للطفل وأنّ هذا الأمر سيُفسد المجتمع ويُخلّ بنظامه، فالطفل الحامل للقب أمّه يمكن أن يتزوّج أخته من حيث لا يدري. كانت هذه حجّة الإمام الدامغة والتي جعلت الناس الجالسين تحت سور الجامع، اتقاء من أشعّة الشمس الحارقة، يستغفرون الله. لم يكتف الإمام عند هذا الحدّ، فقد انتقل للحديث عن نظام المواريث قائلا، ”نظام المواريث الذّين يريدون تغييره يقولون بأنّه قائم على التمييز بين الجنسين لكنّهم لا يعرفون أنّ الإسلام لا يميّز بين البشر إلاّ فيما يجب التمييز فيه. الإسلام ليس ضدّ المرأة ولم يسلبها حقوقها“، مواصلا خطبته ”هم يقولون أنّ الإسلام هو دين الشعب وليس دين الدولة ونحن نقول لهم بأنّ الشعب قال كلمته، نحن ضدّ هذا التقرير ولدينا قضايا أهمّ تحتاج مجهودنا مثل المديونيّة والبطالة. الأوراق التي وزعتّها عليكم قبل الخطبة تثبت بأنّ الشعب يرفض مضمون التقرير“، في إشارة إلى العريضة التي تم توزيعها في المساجد والشوارع وتحت الخيمات الدعويّة منذ الإعلان عن بيان أئمّة وأساتذة جامع الزيتونة الرافض للتقرير.
خرجت من الباب المخصّص للنساء بعد خطبة إمام جامع الفتح عن الحج، انعرجت يمينا وأمام الباب الرئيسيّ كان هناك مئات المصلّين المتجمهرين ويصرخون ”الله أكبر“، عندما اقتربت قليلا أدركت أنّ ممثّلين عن حزب التحرير الإسلامي يقومون بخطاب تجييشيّ ضدّ أعضاء لجنة الحريّات الفرديّة. خمسة رجال، أربعة منهم يحملون لافتات كبيرة تشير في مجملها إلى أنّ التقرير مناقض للأحكام الشرعيّة الثابتة والرجل الخامس يحمل ورقة في يده ويتكلّم في الناس كأنّه نبيّ مبعوث. كنت المرأة الوحيدة تقريبا التي تقف أمام هذا التجمهر الغفير من الذكور، ساعدني قصر قامتي على اقتحامهم والوقوف في مكان استراتيجيّ. يقول خطيب حزب التحرير بصوت أجشّ وملامح تعبيريّة ”يجب أن نكون سدّا منيعا لأعداء الإسلام وأن نضربهم ونتصدّى لهم بعقيدتنا، بإسلامنا، بهويّتنا، بتمسّكنا بديننا“، متابعا قوله ”هم يتكلمون عن الدستور، هل تعلمون ماذا يوجد في هذا الدستور؟ إنه يحتوي على فصل يتحدّث عن حريّة الضمير والذي يعني أن نعبد ما نريد وكيفما نريد وأن نجاهر بما نريد، وهذا التقرير جاء من صميم الدستور المخالف لعقيدة هذه الأمّة. يجب أن نتصدّى لهذا التقرير باعتباره شرّع المساواة في الإرث وحتى كلمة المسلم يريدون اقتلاعها من القوانين. هم يخافون منكم، نعم يخافون منكم لأنّكم تحملون في قلوبكم عقيدة التوحيد“. بعد هذا الكلام بدأ الجميع بالتكبير بصوت واحد. تحمّس الرّجل وبدأ يصرخ ”فلنعلنها عالية خلافة على منهاج النبوة، خلافة يُذلّ فيها الكفر“. حصل كلّ هذا يوم الجمعة الفارط قبل ساعات من خروج آلاف المتظاهرين في مسيرة أمام البرلمان للتعبير عن موقفهم الرافض لتقرير لجنة الحريّات، والمبنيّ على مغالطات وقراءات تضليليّة لمضمونه، مثلما راج حول منع الختان وتشريع زواج المثليّين.
كانت مسيرة يوم السبت 11 أوت 2018 سرياليّة بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. الناس هنا يصرخون ويحملون اللافتات الكبيرة والصغيرة. لا شيء يُحرّكهم سوى الخوف. متمسّكون بثوابتهم ومسلّماتهم التي رفعها الدّين إلى مستوى اللاّمتناهي. يردّد الخائفون على الإسلام قولهم ”إلاّ كتاب الله“، ثمّ يدخلون في حالة هستيريا جماعيّة، ويغنّون على شاكلة نشيد العرب في الجاهلية ”نحن غرابا عك“، يحافظون على نفس اللّحن ولكنّهم يغيّرون كلماتها لتصير ”نحن على حق حق هذه اللجنة خاطئة“. هنا وسط هذا الكمّ المهول من الناس القادمين أفواجا دون أدنى محاولة لقراءة التقرير ومحاولة فهم محتواه استنادا إلى المنطق والعقل، يمكننا أن نقتبس قول فيورباخ بأنّ ”الإنسان هو نفسه الإله الحقيقيّ الوحيد“ بعظمته وبغبائه أيضا.
معقول، مقال محترم فيه مجهود بحث يحترم القارئ، ولو أنه يعطي انطباع على أن الكاتب أول مرة يزور تونس، الأئمة المتواجيدين في الجوامع اللآن كلهم معيينين من طرف الدولة حرصا على التدخل في شؤون الدين للحماية من العنف والارهاب، هذا القرار يجعل “اكادميين” لا علاقة لهم بالتقوى والايمان أئمة وخطباء، بالنسبة لتشبيه الاغاني الدينية بوتيرة “نحن غرابا عك”، فقط لأنهم ضد هذا التقرير الذي يتبناه الكاتب ، الحقيقة تقال ، رأيت مظاهر الوثنية وغرابا عك أكثر في مسيرة الدفاع عن ماجاء به التقرير، أقصد هنا المغالاة في الانطباعية على حساب موضوعية النص التوثيقي.
بالنسبة لجامع الفتح، كغيره من الجوامع، ليس بقلعة للإرهاب، ومشهد هروب أبو عياض من ساحته الخلفية وصمة عار للأمنيين في تونس، خاصة أنه ليس بالبعيد عن مركز للشرطة، محاولة شيطنة الجامع والإيماء أنه السبب في هروب الرهابيين ونجاحهم في مآربهم لا يخدم التقرير البتة. أحيي الكاتب أيضا على روح الفكاهة في ربط الخشوع والهواتف الذكية، وأذكره أن من في الجامع من بني البشر أبناء جلدته، من أحفاد آدم، فيه من يخطئ ويصيب.