لم تكن رواية الضب التي استحضرها الطالب الزيتوني في برنامج “نبي الرحمة” الذي بثته القناة الوطنية الأولى، القصة الوحيدة المستمدة من الموروث الديني المثيرة للاستغراب والسخرية في آن واحد من الجمهور. فقد سبق للطالب الزيتوني نفسه أن روى أمام كاميرا القناة الوطنية الأولى قصّة جذع الشجرة الذي بكى لأن الرسول قرر الصلاة في المسجد لا بجانب الشجرة، وقال “بكى الجذع وظل يئن حتى أبكى الجميع في المسجد وظل يبكي حتى نزل الرسول من منبره وعانقه وقال له “هل تريد أن أصلي وأخطب بجانبك أو أغرسك في الجنة، فقال الجذع بل أريد أن تغرسني في الجنة”.
جدلية الدين والعقل
بعد بث حلقة “نبي الرحمة”، أرسلت الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري لفت نظر إلى إدارة التلفزة الوطنية يوم 20 أكتوبر، قالت فيه إنّ الطالب الزيتوني ضيف حلقة البرنامج المذكورة تحدث أيضا عن “الدواب التي تسجد حين كان النبي طفلا صغيرا في حجر مرضعته، وإنه حين توفي النبي محمد أمسكت دابته عن الطعام ورمى حماره الذي غنمه من معركة خَيْبر بنفسه في البئر”. وانتقدت مراسلة الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري سلبية مقدم البرنامج وتأييده لما جاء في القصة دون السؤال عن صحة الرواية ومستوى ثبوتيتها.
من العسير بناء موقف حاسم بخصوص المحتوى الديني الذي تبثه قناة التلفزة الوطنية الرسمية بالتنسيق مع وزارة الشؤون الدينية في علاقة بما يسمى قصص الأنبياء أو سيرة النبي والروايات التي رُويت عن معجزات النبي، وفي المنفعة التي يمكن أن تتحقق للجمهور. فقد ورد في برنامج “إن الله معنا” الذي تبثه الوطنية الأولى، حديث عن الصحابي عمر بن الخطاب يقول إنّ الصاعقة التي تنزل من السماء لا يمكن أن تصيب مستغفرا، ورواية أخرى في البرنامج ذاته في حصة أخرى وهي أن الله لم يستجب لموسى عند دعائه من أجل نزول الأمطار بسبب رجل يعصى الله، وما إن تاب حتى أطل الله الغيث حسب رواية الطالب الزيتوني في البرنامج المذكور.
يقول محمد النجار الباحث في تاريخ الإسلام المبكر في تصريح لموقع نواة إن الحسم في مسألة المحتوى الذي يجب أن تبثه القناة التلفزية الرسمية أكثر تعقيدًا ممّا يبدو، مضيفا أن رواية الضب التي أثارت سخرية جزء من الجمهور بسبب مخالفتها للعقل هي رواية حَسَنة وليست صحيحة ويستدرك:
حتى لو كان الحديث صحيحا فلا يجب نشر الخرافات لأنها لا تحتكم للعقل وإنما للعاطفة والإيمان. مسألة البحث عن صحة الحديث من عدمه ليست هي محل الجدل الحقيقي لأنه سيجرنا إلى المصدر الأساسي للدين وهو القرآن الذي يروي قصة طائر الهدهد الذي تكلم. لا يمكن عقلنة الدين كاملا، لأنّ هناك مسائل مناقضة للعقل. ولكن يمكن مثلا عقلنة بعض المسائل مثل صلاة الاستسقاء التي تناقض العلم ونحث بدلها على البحث العلمي. أعتقد أن الحديث عن شجرة تئن وتبكي لأن الرسول تركها للصلاة في المسجد هي منافية للعقل لكن لا ضرر منها وإنما المقصد منها هو الحديث عن الرحمة.
يجمع دارسو السيرة النبوية على كثرة الأحاديث التي تشجع على طلب العلم وتحث عليه، ما يدفع للتساؤل عن طريقة اختيار ضيوف الفقرات الدينية التي يقدمها مرفق الاعلام العمومي. يقول الباحث محمد النجار إن الحسم في مسألة جودة المحتوى المتعلق بالدين الإسلامي في القناة التلفزية العمومية لا يمكن أن يكون عن طريق شيوخ الزيتونة ويضيف:
لا أعتقد أن الحديث عن المسائل الدينية مناط به للشيوخ الزيتونيين فحسب، بل بالعكس يجب أن يكونوا مفكرين حتى يتمكنوا من الارتقاء بالوعي والفكر، لأن الشيوخ غالبا ما يعيدون كلام السلف دون نقد عميق. نحن بحاجة إلى مفكرين يقومون بالبحث لتغليب جانب كبير من العقل، المشكلة أنه لم يتم الحسم في علمانية الدولة التي يمكن تصنيفها أنها نصف علمانية.
الدولة راعية الدين
ينص الفصل الخامس من الدستور التونسي على أن ” تونس جزء من الأمة الإسلاميّة، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض، والمال، والدين والحرية”. لذلك يبدو من المفهوم احتكار الدّولة، ممثّلة في وزارة الشؤون الدينية، إنتاج المحتوى الرسمي المتعلق بالدين عبر مجلس إدارة القناة الوطنية الرسمية.
تخضع كل البرامج الدينية التي تبثها القناتان الوطنية الأولى والثانية للتنسيق بين وزارة الشؤون الدينية والتلفزة العمومية، ضمن قسم مصلحة الشؤون الدينية الذي تشرف على إدارته عقيلة بن نصر العبيدي. تقول العبيدي في تصريح لموقع نواة إنّ اختيار الشيوخ والمواضيع يتمّ بالتنسيق مع الوزارة وإنّ أغلب حلقات البرامج مسجّلة وتضيف:
“نحن نعمل معا لإنتاج محتوى تلفزي ديني ضمن شروط محددة في اختيار مقدمي البرامج والشيوخ الذين نستضيفهم، وهي أن يكون الضيوف شيوخا زيتونيين وأن يحملوا المذهب الرسمي للدولة وهو المذهب المالكي وأن تكون لهم بعض الشهرة لدى الجمهور ولهم مساهمات في وسائل الإعلام المرئية لضمان حسن تعاملهم مع الكاميرا، إضافة إلى اعتدالهم”.
وتنتقد رئيسة مصلحة الشؤون الدينية بالتلفزة الوطنية الجدل الذي أثارته رواية الضب في برنامج “نبي الرحمة” وتقول:
تلك ضجة مفتعلة فالرواية موجودة في السيرة النبوية ومتداولة بين العلماء، كما أن الشيخ لم يؤكد ثبوتها من عدمه. نحن ننسق دائما مع وزارة الشؤون الدينية ولا يمكن أن نبث محتوى دون التشاور معها بحضور أحد ممثليها في غرفة المونتاج. وفي رواية الضب بالذات كنت قد استفسرت عن ثبوتيتها قبل بثّ البرنامج ولم يكذّبها أي من الشيوخ وقال لي ممثل الوزارة الذي كان حاضرا خلال عملية المونتاج إن الرواية متداولة عن الرسول.
تضيف عقيلة بن نصر العبيدي إن مسألة ثبوتية الحديث من عدمه تؤثر في مسائل عقدية أو فقهية لكن قصص السيرة هدفها الحرص على التأثير الإيجابي في المجتمع.
في مارس الماضي، أثار برنامج ديني بُثّ على القناة الوطنية الأولى بعنوان “الدين القيّم” الجدل بخصوص تلميحه إلى الاستشارة الوطنية، وكان موضوع تلك الحلقة هو التشاور حيث قال أحد الضيوف الزيتونيّين:
نجد اليوم في بلادنا أرضية للاختيار. هناك دعوات لاستبدال الفقه ومذهب البلاد. اليوم مثلا هناك الاستشارة الوطنية. الشباب يلومون الكبار ويقولون إنه لا أحد يمكنه سماعهم
وجهت الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري لفت نظر للقناة الوطنية بسبب ما وصفته توظيف الدين لأغراض سياسية.
لا يمكن أن تحسم الهايكا الجدل القائم منذ أكثر من عقد بخصوص المحتوى، فالمسألة أكثر تعقيدا من ذلك وهي متعلقة أساسا بتوجه الدولة الذي لم يحسمه الدستور نفسه.
إلا أن الغريب في قضية الحال أن يكون همُّ المسؤولة على البرنامج الديني مقتصرا على التثبت في صحة وجود الحديث من عدمه، دون تكليف النفس مشقة التثبت في محتوى الخطاب ومدى تلاؤمه مع الأهداف التربوية التعليمية لمرفق الإعلام العمومي، فالتراث العربي الإسلامي يعج أحاديثا وقصصا تخاطب العقل دون إعجاز، تحث على طلب العلم والتسامح والرحمة دون إثارة تندّر جمهور واسع بالحديث عن ضبّ ناطق وجذع شجرة يبكي ويحاجج، كما يجنّب القراء التبريرات المؤامراتية للمسؤولين الإعلاميين على البرامج الدينية، دفاعا عن خططهم الوظيفية.
قصة بكاء الجذع صحيحة و ثابتة في التاريخ سندا و متنا ، بقية القصص لا تصح ، هذه نتيجة الجهل و تغييب الدين و حضور القصاصين و المميعين في القنوات و الإذاعات، الدين علم و له أهله و أصحابه، لكن ماذا عسانا ان نفعل بعد ان مُيّع و حورب الدين على مدى قرابة قرن الى الآن؟ ،هذه هي النتيجة للأسف..