عند الدخول إلى غرفة في أحد السجون التونسية، يمكنك أن تشاهد سجينا يكافح يوميا من أجل الصعود إلى مكانه في أعلى سرير ذي طابقين، ويعجز عن ذلك لأنه يستعين بساق اصطناعية، وآخر كفيف يتحسس كل شيء في الغرفة عند الأكل أو عند المشي حتى لا يصطدم بحائط أو شيء يمكن أن يسقطه أرضا لأنه أُجبر على ترك نظارته الطبية لدى أعوان السجن إلى حين انتهاء مدة عقوبته، رغم أنّها الأداة الوحيدة التي تتوضح بها بعض ملامح الظلال التي تشاركه غرفته في السجن.
وفي سجن آخر بإحدى ولايات الشمال الغربي، يتمدد سجين عاجز كليا عن الحركة فوق سرير، لكنّ حظه كان وفيرا حين عثر على رفيق له في الغرفة تطوّع للعناية بنظافته بدءا من تبديل الحفاظات وصولا إلى إطعامه.
مكان غير مهيّأ لخصوصيات الأشخاص حاملي الإعاقة
تقول بثينة الوحيشي عضوة الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب في تصريح لموقع نواة إن السجون غير ملائمة لشخص لا يشكو من أي مشكل جسدي أو ذهني، فما بالك بالأشخاص ذوي الهشاشة مثل المسنين والنساء وحاملي الإعاقة. وتضيف: ”لا يوجد مثلا مترجم لغة إشارة بالنسبة إلى الأشخاص حاملي الإعاقة السمعية في مرحلة البحث الأمني، وهو ما يضر كثيرا بمسار البحث الأمني. في السجن أو في مركز الإيقاف يجرّد الكفيف من العصا التي تساعده على تحسس الأشياء المُعيقة لحركته، وذلك في إطار إجراءات أمنية، مثلما يُجرد الأشخاص الذين يعانون ضعفا في السمع من السماعات التي تساعدهم في التواصل مع الآخرين، ما يضاعف من عزلتهم.“
الإشكال هو عدم وجود تعليمات أو دليل توجيهي لأعوان الشرطة أو السجون يحدد تعاملهم مع الأشخاص حاملي الإعاقة أو الاستثناءات التي يمكن أن يقوموا بها من أجل عدم حرمانهم من الأدوات التي تساعدهم على التحرك أو التواصل مع الآخرين. والسؤال المطروح هو هل أن تونس جاهزة لتحديد احتياجاتهم وما الذي يمكن أن تفعله. لا توجد مناشير أو قوانين تحدد خصوصيات حاملي الإعاقة مثلا في مراكز الإيقاف والسجون. إن الحد الأدنى المطلوب هو تحسين ظروف الإقامة على الأقل لتتناسب مع احتياجاتهم“.
لا تملك السلطة أرقاما دقيقة لعدد الأشخاص حاملي الإعاقة في تونس وتعتمد وزارة الشؤون الاجتماعية في إحصائها لهذه الفئة على حاملي بطاقة الإعاقة. في سنة 2022، أحصت الوزارة 422 ألف شخصا حاملا لإعاقة في تونس، أي ما يمثل قرابة 5 % من عدد السكان. غير أن تصريحا سابقا لوزير الشؤون الاجتماعية السابق محمد الطرابلسي يثبت أن العدد يفوق ذلك الرقم ليصل إلى 600 ألف، حيث أشار الوزير إلى أن تقارير منظمات دولية أكدت ذلك الرقم، وأن الوزارة ستبدأ في بداية العام 2023 بإحصاء دقيق لهم.
مساواة لا تراعي الخصوصيات
تقول بثينة الوحيشي عن الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب إنّ هناك عددا من الأشخاص حاملي الإعاقة في السجون لا يملكون بطاقة تثبت إعاقتهم، مقابل عدد قليل من حاملي تلك البطاقة. وهو ما يفسر عدم وجود إحصائيات رسمية دقيقة عن عدد الأشخاص حاملي الإعاقة الذهنية والجسدية في السجون. تضيف محدثتنا أن الهيئة تكتشف خلال أغلب زياراتها الدورية للسجون أن العدد المعلن عنه للسجناء حاملي إعاقة أقل بكثير من العدد الحقيقي وذلك بسبب اعتماد المسؤولين عن السجون على بطاقة الإعاقة في التعداد الرسمي.
تشير دراسة أعدتها مريم بن زغدان بعنوان ”حماية الأشخاص ذوي الإعاقة في القانون التونسي“ إلى غياب إجراءات حمائية خاصة تهم المساجين من الأشخاص ذوي الإعاقة الجسدية، رغم تعهّد قاضي تنفيذ العقوبات بمراقبة ظروف تنفيذ العقوبات السالبة للحرية المقضاة بالمؤسسات السجنية وفق أحكام الفصل 342 من مجلة الإجراءات الجزائية. غير أنّ تقرير ”مشروع حماية حقوق المحتفظ بهم“ الذي قدّمته كلّ من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومنظمة محامون بلا حدود في ندوة صحفية يوم 31 أكتوبر 2023 يؤكد أن ممثلي النيابة العمومية لا يتنقلون عموما لمراكز البحث وغرف الاحتفاظ للقيام بعمليات الرقابة على السجلات وعلى ظروف الاحتفاظ بالموقوفين، بسبب نقص الإمكانيات ونقص عدد ممثلي النيابة العمومية وتوزع مراكز البحث وتشتتها، وذلك بالاعتماد على معاينات خلال 102 زيارة ميدانية لغرف الاحتفاظ.
فيما يفرض القانون عدد 5 لسنة 2016 المتعلق بتنقيح أحكام المجلة الجزائية على مأموري الضابطة العدلية عند الاحتفاظ بذي الشبهة ”أن يعلموه بلغة يفهمها بالإجراء المتخذ ضده وسببه ومدته وقابليته طبق مدة التمديد في الاحتفاظ […] وتلاوة ما يضمنه له القانون من طلب عرضه على الفحص الطبي وحقه في اختيار محام للحضور معه“، وهو أمر يتعارض مع ما عاينته الزيارات التي اعتمدها تقرير مشروع حماية حقوق المحتفظ بهم.
معايير دوليّة على الورق
أعدّت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب دليلا للإطار القانوني المتعلّق بالسجون في تونس، المحين في طبعة ثانية سنة 2021، أجابت فيه عن مختلف الأسئلة التي تتعلّق بالمنظومة السجنية وحقوق المحتفظ بهم استنادًا إلى المعايير الدّولية والاتفاقيات التي صادقت عليها تونس، وأبرزها اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
يتحدّث الدّليل عن تجنّب عزل الأشخاص الحاملين لإعاقة ذهنيّة أو عضويّة في زنازين منفردة، وضرورة تدخّل الطبيب لوقف العمل بهذا الإجراء في حال تمّ اتّخاذه. تفرض المعايير الدوليّة عدم فصل الأشخاص حاملي الإعاقة عن غيرهم من المساجين، مع إدخال تغييرات في غرفهم لتسهيل تنقّلهم عبر الكراسي المتحرّكة وغير ذلك من الوسائل. ”يجب إجراء تغييرات هيكلية ضرورية في أماكن الإيداع التي تؤويهم […] وتهيئتها لتسهيل حركة وأنشطة مستخدمي الكراسي المتحركة وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصّة“، وفق ما ورد بدليل الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب (ص.466).
ورغم أنّ القانون عدد 52 لسنة 2001 المتعلّق بتنظيم السجون لم ينصّ على حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة إلاّ أنّ القرار الإداري عدد 48 لسنة 2009 حاول سدّ هذه الثغرة التشريعية عبر التنصيص على ”إيواء الأشخاص المودعين من ذوي الاحتياجات الخاصّة الحركية في غرف مخصّصة للمرضى، بغض النظر عن تصنيفهم وطبيعة الجريمة“. كما نصّ القرار على ضرورة تجهيز دورات المياه في الغرف الخاصة بالمرضى بمعدّات تساعدهم وتسهّل حركتهم، إلى جانب تجهيز غرف الاستحمام بكراسٍ ودعامات تساعدهم على الاغتسال.
تكفل اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة حسن معاملتهم خلال تقضيتهم لعقوبة سالبة للحرية، مع توفير الترتيبات التيسيريّة المعقولة لفائدتهم. تعهد قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء التي تُعرف أيضا باسم ”قواعد نيلسون مانديلا“ لإدارات السجون تهيئة جميع الترتيبات والتعديلات المعقولة لضمان معيشة السجناء ذوي الإعاقات البدنية أو العقلية أو غيرها من الإعاقات في السجن بشكل كامل وفعّال على أساس من المساواة. ورغم ذلك، يتحدّث أنور الهاني المنسق العام للمنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في تصريح لنواة عن عدم تلاؤم وضعية المساجين من حاملي الإعاقة مع الاتفاقيات الأممية التي صادقت عليها تونس: ”لا توجد مراعاة لوضعيات ذوي الإعاقة في السجون وأماكن الاحتفاظ. البنية التحتية للسجون تفتقر إلى ممرّات والحال أنّ اتفاقية حماية الأشخاص ذوي الإعاقة تتحدّث عن ضرورة تسهيل تحرّك هذه الفئة، والدّولة مطالبة بتطبيق المعايير الدّولية في الغرض“.
راسلت نواة وزارة العدل للحصول على الإحصائيات الدقيقة الخاصة بالأشخاص حاملي الإعاقة في السجون ومراكز الإيقاف التابعة للوزارة، وللاستفسار حول وجود توجيهات لأعوان السجون في كيفية التعامل مع الأشخاص حاملي الإعاقة من السجناء والموقوفين، وعن تصورها لاستراتيجية مستقبلية تأخذ بعين الاعتبار احتياجات الأشخاص حاملي الإعاقة المودعين في السجون. مراسلات واستفسارات بقيت دون رد.
علاوة على سياسة الانغلاق في التعامل مع وسائل الإعلام التي تعتمدها أغلب الوزارات، فإنّ عدم ردّ الوزارة قد يكون مردّه عدم امتلاكها إحصائيات دقيقة لعدد الأشخاص حاملي الإعاقة لأنّها تعتمد أساسا على تعداد بطاقات الإعاقة، وهو معيار غير كاف لحصر عددهم حسب وزارة الشؤون الاجتماعية. أمر أكدته منظمات حقوقية ورسمية، تحدثت إليها نواة، وأجمعت عليه مثلما أكدت غياب تراتيب أو توجيهات لأعوان الشرطة أو السجون في التعامل مع الموقوفين من الأشخاص حاملي الإعاقة وعدم وجود استراتيجية يُعتمد عليها في المدى القريب أو المتوسط للتعامل معهم.
لا ينص المشرّع التونسي على استثناءات لواجبات المساجين من الأشخاص حاملي الإعاقة، المنصوص عليها بالفصل 20 من القانون المتعلق بنظام السجون، منها مثلا الاستجابة للوقوف يوميا عند المناداة وتنظيف الغرف والامتناع عن الاحتفاظ بأدوات غير مرخص لها وفق التراتيب المعمول بها في نظام السجون، ما يعني تجريدهم من عصيهم أو حرمانهم من كراسيهم المتحركة أو النظارات وسماعات الأذن. ويُعرّض الفصل 22 من القانون المذكور السجناء دون استثناء إلى عقوبات في حال الإخلال بالواجبات التي نص عليها الفصل 20، تتراوح بين منع استلام المؤونة والحرمان من الخروج واستقبال الزوار. رغم أنّ الأشخاص حاملي الإعاقة مشمولون بالعقوبات السالبة للحرية في إطار المساواة في الحقوق والواجبات بين كلّ المواطنين والمواطنات، إلاّ أنّ مبدأ العدالة لا يكاد يُطبَّق في المؤسسات السجنيّة بين الأشخاص حاملي الإعاقة وغيرهم من المساجين، فيما تبقى الاتفاقيات الدّولية مجرّد شعار لا يطال على الأماكن السالبة للحرية.
iThere are no comments
Add yours