المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

تُعد حرية الضمير من الحريات الأساسية التي أقرّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثامنة عشرة، إلى جانب حرية الفكر والدين. ورغم الطابع الشخصي والعميق لهذا الحق، فإن الإطار القانوني المنظم له يعكس مدى التزام الدولة بتكريس الحريات الفردية في بعدها المتصل بالهوية، والمعتقد، والاختيار الفكري. في السياق التونسي، شكّلت حرية الضمير محور جدل فقهي وسياسي، خصوصاً بعد الثورة، حيث انتقلت من هامش النصوص إلى مركز الجدل الدستوري والاجتماعي.

 1مدخل مفاهيمي : ما هي حرية الضمير؟

حرية الضمير مفهوم مركّب يتجاوز الدلالة الدينية البسيطة. فهي تُحيل على قدرة الإنسان على تبنّي قناعات شخصية أخلاقية، دينية، فلسفية أو لادينية، بكل حرية، ووفقًا لقناعته الذاتية الداخلية، دون تدخل أو إكراه من الدولة أو المجتمع[1]
الضمير، بهذا المعنى، هو الفضاء الداخلي للأفكار والمعتقدات العميقة، سواء تعلّقت بإيمان ديني أو بمواقف لادينية، وبذلك فإن حرية الضمير تُعدّ من أعمق الحريات وأكثرها اتصالًا بكرامة الفرد واستقلاليته[2]

يُميز الفقهاء بين حرية الضمير وحرية الدين أو المعتقد، فالأولى تشمل الثانية وتتجاوزها، إذ أنها تحمي:

  • حرية الإنسان في الإيمان أو عدم الإيمان
  • حقه في تغيير معتقده أو البقاء فيه
  • حرية التعبير عن قناعات أخلاقية أو فلسفية تُخالف الأعراف السائدة[3]

التأصيل الدولي : الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والموقف الكوني

كرّس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 هذا المفهوم في الفصل 18، حيث ورد:

لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير دينه أو معتقده، وحرية إظهار دينه أو معتقده بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة[4]

هذا النص التأسيسي لم يكتف بحماية ”حرية الدين“، بل وسّع المفهوم ليشمل حرية الوجدان، ما يعادل ”حرية الضمير“ في المفهوم الحقوقي المقارن. وتم تأكيد ذلك لاحقًا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، وتحديدًا في مادته 18[5]

حرية الضمير في الدساتير التونسية

أ. دستور 2014: تكريس مضطرب ضمن فصل مثير للجدل

خصّص دستور 2014 فصله السادس للتنصيص على حرية الضمير، ونصّ على أن:

الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية[6]

ورغم أن هذا الفصل يُعتبر تقدمًا نوعيًا مقارنة بدستور 1959 الذي لم يتضمن أي إشارة صريحة لهذه الحرية[7]، إلا أن صياغته تضمنت تناقضًا بنيويًا بين:

  • ضمان حرية الضمير
  • والتزام الدولة برعاية الدين.

هذا التداخل بين الحريات الفردية والوظائف الدينية للدولة خلق لبسًا في التأويل الدستوري، وأضعف الحماية الفعلية لهذه الحرية، لا سيما في ظل غياب قوانين تفعيلية[8]

ب. دستور 2022: تكريس صريح في صياغة مقتضبة وخالية من التناقض

جاء دستور 2022 بصياغة أكثر اتساقًا، حيث نصّ في فصله 27 على ما يلي:

تضمن الدولة حرية المعتقد وحرية الضمير.[9]

وهو تنصيص يُعدّ من حيث الشكل أوضح وأدقّ من الفصل السادس لدستور 2014، لغيابه عن أي دور ديني مباشر للدولة. إلا أنّ هذا التقدم الصياغي لم يُترجم إلى مأسسة قانونية فعلية، فلا تزال:

  • التشريعات الجزائية القديمة تُجرّم المجاهرة بالإفطار أو ”النيل من الشعائر الدينية“
  • الدولة لم تُنشئ آليات لحماية الأقليات الدينية أو الضميرية؛
  • غياب تربية حقوقية حول الضمير والتعدد في المناهج الدراسية.

كل هذا يُبقي هذا الحق في إطار التنصيص الدستوري النظري دون ضمانات عملية ملموسة[10]

الإشكالات التطبيقية: الفجوة بين النص والواقع

تُظهر التجربة التونسية بعد الثورة أن الاعتراف الدستوري بحرية الضمير لم يكن كافيًا لضمانها فعليًا. ومن أبرز مظاهر هذه الفجوة:

  • محاكمات متكررة لناشطين أو مدونين عبّروا عن أفكار دينية أو فلسفية مخالفة[11]
  • عدم تجريم التمييز الديني أو القناعي بشكل صريح
  • غياب آليات دستورية أو إدارية مستقلة ترصد وتتابع انتهاكات حرية الضمير.

وهو ما يجعل الضمير الفردي عرضة للرقابة الاجتماعية والقانونية، في غياب إرادة سياسية لإصلاح المنظومة التشريعية بما ينسجم مع النصوص الدستورية والمعاهدات الدولية.

حرية الضمير ليست ترفًا نظريًا، بل هي مقوم أساسي من مقومات الديمقراطية وكرامة الإنسان.
ورغم الاعتراف بها دستوريًا في تونس، إلا أن:

  • ضعف التفعيل التشريعي
  • استمرار النزعة السلطوية في بعض الأجهزة؛
  • الضغوط الاجتماعية والدينية؛

جعلت هذه الحرية نصًّا معطّلاً أكثر منها واقعًا مُعاشًا.

وبالتالي فإن تفعيل حرية الضمير يتطلّب مقاربة شاملة تشمل:

  • مراجعة النصوص القانونية المخالفة
  • تبني قانون أساسي خاص بالحريات الفردية
  • توفير الحماية القانونية للمخالفين في القناعات
  • ونشر ثقافة مدنية تقبل بالاختلاف في العقيدة والفكر والوجدان.

[1] محمد الشرفي، الإسلام والحرية: التحدي المعاصر، دار تونس للنشر، 1991، ص. 44.

[2] Dominique Avon et Anaïs-Trissa Khatchadourian, La liberté de conscience. Histoire d’une notion et d’une conquête, CNRS Éditions, 2010, p. 8.

[3] Françoise Roullet, La liberté de conscience, Dalloz, 2007, p. 12-13.

[4] الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، 1948، المادة 18.

[5] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، 1966، المادة 18، تونس صادقت عليه سنة 1969.

[6] دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014، الفصل السادس.

[7] دستور 1 جوان 1959 لم يتضمن أي إشارة لحرية الضمير، بل اكتفى بالتأكيد على أن ”الإسلام دين الدولة“.

[8] ادريس، الحرّيات الدينية في الدستور التونسي الجديد، مجلة الحقوق، جامعة قرطاج، 2015.

[9] دستور الجمهورية التونسية لسنة 2022، الفصل 27.

[10] منظمة العفو الدولية حول حرية المعتقد في تونس، 2023.

[11] من ذلك محاكمة المدونين الذين نشروا محتوى ينتقد الدين أو المجاهرة بالإفطار، في سنوات ما بعد الثورة، خصوصًا 2012، 2017 و2021.