لا يختلف اثنان في أن الإرث الموسيقي الذي خلفه قدور الصرارفي لابنته الوزيرة جعلها مخلصة فنيا لوالدها. إرث كان وراء اكتسابها لقب أول مايسترا في المنطقة العربية تقود أوركسترا عن جدارة، لكن الاكيد ان ذلك لن يحجب الأخطاء المتتالية التي ارتكبتها الوزيرة رغم أنه لم يمض سوى 11 شهرا تقريبا منذ تنصيبها على رأس الوزارة.
يوم 5 جوان الماضي، ظهرت أمينة الصرارفي وهي تقص شريطا حريريا للإعلان الرسمي عن افتتاح عرض قطع أثرية تعود إلى ما بعد معركة زاما التي زُعم أنها المعركة التي حسمت تاريخ الصراع بين روما وقرطاج لصالح الرومان، نظّمت وزارة الثقافة الإيطالية ذلك العرض التذكاري لقطع أثرية تعرض لأول مرة. لم يجل ببال الوزيرة حجم الخطأ الذي ارتكبته، قبل أن يحتد الجدل لدى ”العارفين“ بخصوص ضرب وزيرة الشؤون الثقافية للسيادة الوطنية من خلال استئثار إيطاليا بشرف العرض الأول لآثار اكتشفت في تونس، وإحياء سردية عظمة روما بناء على رواية تاريخية كتبها المنتصرون، وهو أمر لا يمكن مغفرته بالنسبة لوزيرة تشرف على الثقافة. لم تعتذر الوزيرة، ولم توضّح سوء الفهم أو الغفلة التي أصابتها، وسرعان ما طُويت تفاصيل تلك الحادثة لتترك مكانها لأخطاء أخرى.

القانون في مهب الريح
منتصف شهر جويلية وقبل يومين من افتتاح مهرجان قرطاج الدولي، أرسل صاحب شركة معدات إضاءة تظلما إلى وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي نبهها فيه إلى تجاوزات قانونية صلب إحدى المؤسسات التابعة للوزارة وكانت شركته ضحية هذا التجاوز، لكن لم يتلق صاحب الشركة أي رد وفق تصريحه لنواة رغم أن ملف التظلم تضمن كل البراهين التي تثبت تجاوزات للقانون.
في 11 جوان الماضي، نشرت المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية المشرفة على تنظيم مهرجان قرطاج الدولي وغيره من التظاهرات، صلب وزارة الشؤون الثقافية، طلب عروض يتعلق بكراء تجهيزات صوت وإضاءة ومعدات موسيقية مختلفة لفائدة مهرجان قرطاج الدولي في دورته 59، حدد آخر أجل لغلق الصفقة ليوم 28 جوان، وهو اليوم ذاته الذي تفتح فيه العروض في جلسة علنية. تنافست شركتان على الصفقة، وهي صفقة مقسمة على ثلاثة أجزاء: كراء معدات الصوت وكراء معدات الإضاءة وكراء المعدات الموسيقية حيث تقدمت الأولى، بعرض لكامل أجزاء الصفقة، في حين تقدمت شركة ثانية بعرض يخص كراء معدات الإضاءة فقط. قد يبدو الأمر عاديا، قبل أن يكتشف ”س.م“ وكيل الشركة المتنافسة للفوز بالصفقة، أن هناك شبهة فساد في إسنادها وتجاوز خارق للقانون.
يقول ”س. م“ في تصريح لنواة إنه كان حاضرا خلال الجلسة العلنية لفتح العروض وحينها تبيّن أنه صاحب العرض المالي الأفضل حيث تقدم بسعر 177 ألف دينار في الجزء المتعلق بكراء معدات الإضاءة في حين تقدمت الشركة المنافسة بسعر 202 ألف دينار، ويضيف:
يعتبر السعر الذي قدمته شركتنا هو الأفضل وبالتالي فإنه وفق القانون من واجب اللجنة الفنية صلب وزارة الشؤون الثقافية القيام بدراسة العرض وألا يتم إقصاء الشركة من الصفقة إلا في حالة عدم تقديمها الضمان المالي الوقتي. حسب الفصل التاسع من كراس الشروط، تقوم لجنة التقييم بثلاث مراحل الأولى تتعلق بالتثبت في الوثائق الإدارية والضمان الوقتي والثانية تتعلق بمعاينة تجهيزات المشاركين أما المرحلة الثالثة فتتعلق بتولي لجنة التقييم التثبت من مطابقة العرض الفني المقدم من صاحب العرض المالي الأقل ثمنا ونتائج المعاينة، غير أنه لم يتم المرور إلى مراحل المعاينة وتم إقصاؤنا من الصفقة دون تفسير، وأسندت للشركة المنافسة التي تحتكر العمل منذ قرابة عشر سنوات.
لم يكن ذلك التجاوز الوحيد في الصفقة الذي ارتكبته المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية التابعة لوزارة الشؤون الثقافية، حيث تثبت وثائق معاينة من قبل عدل منفذ، اطلعت عليها نواة، أن موقع الشراءات العمومية TUNEPS لم ينشر نتائج الصفقة المذكورة، رغم أن الشركة المنافسة بدأت بتركيب المعدات في مسرح قرطاج، وهو ما يثبته محضر معاينة ثانية، ويؤكده وكيل الشركة التي خسرت الصفقة، حيث يقول لنواة ”أعلمني أحد الأشخاص أن الشركة المنافسة بدأت بتركيب الأجهزة فاستغربت من الامر لأن نتائج الصفقة لم تنشر على موقع الشراءات العمومية كما يفرضه القانون، عاينت المسألة قانونيا لتوثيقها ثم توجهت للمسرح ووجدت موظفي الشركة على الركح بصدد تركيز المعدات وقمت بتوثيق ذلك لإثبات التجاوز الصارخ للقانون“.
ينص الفصل 73 من الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المنظم للصفقات العمومية، والذي أبرمت على أساسه صفقة وزارة الشؤون الثقافية على: ”ينشر المشتري العمومي وجوبا نتائج الدعوة إلى المنافسة واسم المتحصل على الصفقة على لوحة إعلانات موجهة للعموم وعلى موقع الواب الخاص بالصفقات العمومية التابع للهيئة العليا للطلب العمومي وموقع المشتري العمومي عند الاقتضاء“، فيما ينص الفصل 74 على أنه لا يتم إمضاء العقد مع العارض الفائز إلا بعد خمسة أيام من تاريخ نشر النتائج وهي آجال خصصها الفصل 75 من الأمر نفسه لإتاحة الفرصة للقيام بالتظلم لدى هيئة متابعة ومراجعة الصفقات العمومية، بعد نشر نتائج الصفقة العمومية، وهو ما استحال فعله في الصفقة التي أبرمتها وزارة الشؤون الثقافية مع الشركة الفائزة بما أنه لم تنشر نتائج الصفقة في الوقت الذي بدأ فيه العمل معها مما يعني أن العقد أمضي وانتهت آجال الخمسة أيام للتظلم التي نص عليها الأمر المنظم للصفقات العمومية.
تعزيز تضارب المصالح
لم تغض وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي النظر عن تجاوز القانون، بل دخلت في دوامة تضارب المصالح، ففي البداية، صمّت أذنيها عن تحذير بوجود تضارب مصالح حين اختارت مديرة جديدة لمركز السينما والصورة في نوفمبر الماضي بسبب امتلاك زوجها شركة إنتاج سينمائي، ورغم أن الوزيرة تداركت خطأها في صمت بعد خروج المديرة المذكورة أشهرا قليلة بعد تعيينها في منصبها، إلا أنه وجّهت لها اتهامات باستغلال نفوذها وبتعزيز سياسة تضارب المصالح.
يقول عز الدين الباجي مستشار سابق في وزارة الشؤون الثقافية في تصريح لنواة إنه أطلع على محضر جلسة ثبت فيه أن أمينة الصرارفي استغلت منصبها باعتبارها وزيرة لترسل على حساب الوزارة فرقتها الموسيقية ”العازفات“ وكانت مصحوبة بابنها وهو عازف بيانو، إلى قطر في رمضان الماضي، ومن المنتظر أن تشارك الفرقة ذاتها باعتبارها ممثلة لتونس في معرض ”إكسبو أوساكا“ باليابان لتقدم عرضا مدته 40 دقيقة يوم 13 أوت القادم.
يضيف المستشار السابق:
عززت الوزيرة سياسة تضارب المصالح حيث ظهر مسؤول مكلف بمأمورية في ديوان وزيرة الشؤون الثقافية على ركح مهرجان قرطاج في حفل لطيفة العرفاوي وكان يعزف على آلة الأكورديون، ولم تكن تلك المرة الأولى بل ظهر ثانية، في عرض سهرة تونسية في ركح قرطاج أيضا. من المعلوم أيضا أن الوزيرة الحالية عززت حضور ابنها عازف البيانو الذي أصبح موظفا في مدينة الثقافة وعازفا يتكرر اسمه في عروض مختلفة.
بتصفح العروض التي شارك فيها ابن وزيرة الشؤون الثقافية يتبيّن أن موسم عازف البيانو الشاب كان سخيا، ففي مارس الماضي، شارك في عرض تخيّل الذي افتتح مهرجان الأغنية، وفي 30 ماي الماضي، نظمت المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية عرض ”عين المحبة“ بمسرح الأوبرا وكان هارون القروي ابن الوزيرة هو من قام بالتوزيع الموسيقي للعرض. وسيشارك ابن الوزيرة في عروض أخرى في مهرجانات مختلفة، حيث سيكون على ركح مسرح قرطاج يوم 8 أوت ضمن عرض تخيل، يشارك كذلك في المهرجان ذاته يوم 1 أوت ضمن عرض ”La Nuit des Chefs“ وهو عرض قدم أيضا في مهرجان الحمامات ومهرجان الجم. حسب شادي القرفي وهو أحد قادة الأوركسترا في العرض، فإن هذا العرض كان ببادرة من وزيرة الشؤون الثقافية التي تحرص دائما على تثمين إرث والدها الموسيقي، وقد شارك ابنها هارون القروي في العرض بكتابة أركسترالية لأغنية “ليالي إشبيلية“ للموسيقي قدور الصرارفي.
يقول عز الدين الباجي في تصريح لنواة ”صحيح أن ابن الوزيرة بدأ مسيرته قبل تولي والدته منصبها في الوزارة، لكن الأسلم هو ألا يبرمج له هذا العدد السخي من العروض حتى لا تقع الوزيرة في فخ تضارب المصالح“.

من غير العادل أن تتحمّل أمينة الصرارفي وزر إرث ثقيل تجره الثقافة في تونس، لكن ما يعيبه عليها أبناء القطاع هو اغفالها فتح ملفات إصلاح قطاعات كثيرة مثل قطاع السينما الذي توفرت له عدة مشاريع للإصلاح الهيكلي، كما أصيب أهل الموسيقى بخيبة أمل بعد أن توسموا خيرا في الوزيرة آملين في أن تحل معضلة توقف إصدار ديبلوم الموسيقى العربية في معاهد الموسيقى، منذ ثلاث سنوات وهي شهادة يشترط الحصول عليها إذا أراد شخص التخصص في آلة العود مثلا، ولم تبد أية بادرة من الوزيرة بحل المشكل. في المقابل حسمت وزيرة الشؤون الثقافية ملف الموظفين المطرودين من الوزارة خلال عهدة الوزيرة السابقة حياة قطاط، بسبب تدوينات انتقدوا فيها الوزارة، وحسب خالد الهداجي، أحد المطرودين، فإن إجابة الوزيرة على هذا الملف هو انتظار حكم المحكمة الإدارية في القضية التي رفعها المطرودون الثلاثة ضد وزارة الشؤون الثقافية.
ترزح وزارة الشؤون الثقافية تحت إرث سياسات وزراء تداولوا عليها دون رؤية شاملة أو واضحة لإصلاح القطاع الثقافي، وكان نصيب جميع الوزراء الفشل والدليل أن المشاكل ذاتها تطرح دائما عقب كل تنصيب جديد على رأس الوزارة، وفي الواقع لم تكن أمينة الصرارفي سوى حلقة ركّبت في سلسلة صدئة وتماهت معها إلى أن يحين تعويضها بحلقة أخرى مشابهة.
iThere are no comments
Add yours